أعادت جائحة كورونا، وما فرضته من إغلاق للمساجد وبيوت العبادة وما تهيجه مواعيد الجمع والأعياد لدى ملايين المؤمنين المحبوسين في البيوت عبر العالم من أشواق وحنين، طرح استخدام وسائل التواصل التزامني الحديثة في أداء بعض الفرائض الدينية، وعلى رأسها الجمعة. فمنذ ظهور الإذاعة، ما فتئ المسلمون يتساءلون عن صحة استخدامها وما في حكمها لإحياء هذه الشعيرة، بل ويتساءلون عن مدى إلزامية النداء الآتي على أمواج الإذاعة أو شبكات التواصل لمتلقيه الذي لا سبيل له سبيل لأدائها في المسجد لبعده أو لعدم وجوده، كما في بعض الأماكن التي تعيش فيها الأقليات المسلمة مشتتة على مساحات جغرافية شاسعة. وقد برهن العلامة الحافظ أحمد من محمد بن الصديق الغماري منذ ما يقارب 70 سنة على أن مقصود الشارع من الجمعة ومن الأمر بالسعي إليها هو تحديدا سماع الخطبة، وهي تجزئ بالمذياع وبما في حكمه كما أنه كاد يقطع بأنها ملزمة بالمذياع وبما في حكمه. وساق ما يضيق المقام لعرضه من الأدلة على أن القصد هو سماع الخطبة وأن الذهاب إلى المسجد والاجتماع وسيلة وزيادة فضل وثواب. وإذا تعذر تحصيل الجمعة بكامل فضلها وثوابها، فلا يفرط في مقصدها. ويعطي النقاش حول استخدام وسائل التواصل الحديثة في أداء شعيرة الجمعة، ومجانبة الكثيرين لتيسير الشريعة ومجافاتها للتضييق والتعسير، إحساسا بالنقاش المكرور كلما ذكرت تكنولوجيا جديد، من المطبعة إلى التلغراف مرورا بالإذاعة والتلفزيون وصولا إلا ثورة التواصل التي حملتها شبكة الإنترنت. رفض أو تحريم، ثم استعمال على كراهة واستحياء، ثم اجتياح التكنولوجيا لواقع الناس واضطرار الفقه للتصالح معها. ألا يمكن أن تقلب الآية ونكتشف مزايا التكنولوجيا وإمكاناتها رأسا، ونختار التيسير الذي هو روح الشريعة ابتداء، ونقي أجيال المسلمين الاضطراب واهتزاز الثقة أو العنت الذي لا مبرر له، كما فعل العلامة الغماري؟؟ فيما يلي عرض لكتابه الماتع "الإقناع بصحة صلاة الجمعة في المنزل خلف المذياع"، الذي قدم له الحافظ عبد الله بن الصديق وأقر ما فيه، بل وامتدحه واعتبره فتحا من الله على مؤلفه. نازلة استفتاء مسلمي الهند منذ ما يقارب السبعين سنة، استفتى مسلمون في الهند عَزَّ خطيب الجمعة في ديارهم، هل يجوز لهم تشغيل المذياع في مساجدهم وسماع الخطبة وبعد ذلك يقدمون أحدهم ليصلي بهم صلاة الجمعة. طرح السؤال على مفتي الديار المصرية وقتها الشيخ محمد بخيت المطيعي، فأفتى رحمه الله بعدم جواز ذلك معتبرا أن ما اشترطه أصحاب الأئمة الأربعة من الشروط لصحة صلاة الجمعة لا تساعد على ذلك. وتناهى أمر الفتوى إلى مسامع العلامة الحافظ أحمد بن الصديق الغماري، فألف في ذلك هذه الرسالة وأظهر فيها ما خفي من مقاصد الشارع من الجمعة وأماط عنها ما لصق بها من شكليات لا دليل عليها، ولم يقف عند القول بصحة صلاة الجمعة وراء المذياع، بل يكاد يقول بأن النداء إليها من المذياع، لمن لم يتوفر له إلا المذياع، ملزم بالاستجابة. وقد عرض الرسالة قبل نشرها على الحافظ عبد الله بن الصديق الغماري وحثه على نقدها وإظهار ما قد يعتورها من قصور، فلم يزد على تأكيد ما قال به صاحب الرسالة ولم يخف إعجابه بإحاطتها وتجديدها وتيسيرها على الناس. وفيما يلي عرض للرسالة. سماع الخطبة روح الجمعة يبدأ أحمد بن الصديق بإثبات ما كان أثبته في كتابه "طباق الحال الحاضرة لخبر سيد الدنيا والآخرة" بأن الرسول الأكرم ﷺ أخبر بظهور المطابع والإذاعة وما شابهها في الحديث القدسي المرفوع من مسند الدارمي أن الله تعالى قال "أبث العلم في آخر الزمان حتى يعلمه الرجل والمرأة والعبد والحر والصغير والكبير، فإذا فعلت ذلك بهم أخذتهم بحقي عليهم". ويقول إنه في الإذاعة، وطبعا فيما جاء بعدها من وسائل اتصال، أبلغُ منه في الطباعة لاتساع الرقعة وأصناف الناس القارئين وغير القارئين الذين تصل إليهم. ويسطر على عبارة "أخذتهم بحقي عليهم". فقد أضحت خطبة الجمعة تصل إلى القطر وما بعده وإلى كل الناس في دورهم وحوانيتهم وصار الناس يصلون الجمعة في منازلهم لسماعهم الخطبة ولصلاة الإمام، ووقع السؤال عن صحة هذه الصلاة، فأفتى صاحب الرسالة بأنها صحيحة بشرط أن يتحد الوقت في بلد الخطيب والمصلي، ويكون بلد المصلي متأخرا على بلد الخطيب (لجهة القبلة) لئلا يتقدم المأموم على الإمام، وأن يكون في صف ولو مع واحد حتى لا يكون منفردا خلف الصف. وفرَّق بين صحة هذه الصلاة وما أبداه من استشكلوها من خوف من أن يؤدي ذلك إلى إقفال المساجد واكتفاء الناس بالبيوت، منوها إلى أن ذلك لا يكون إلا للحاجة وفي بعض الأحيان. ويقرر العلامة أحمد بن الصديق أن مقصود الشارع من صلاة الجمعة هو سماع الخطبة واعتبرها أعظم فرائضها وشروطها، بل وأفرد لذلك كتابا أسماه "الحسبة على من جوَّز صلاة الجمعة بلا خطبة" ساق فيه ستين دليلا على عدم جوازها من دون خطبة. ومناط الأمر أن الدين لا يصح من دون علم بالواجبات والمحرمات وما وجب من اعتقاد في الله وملائكته وكتبه وأنبيائه ورسله والبعث والحساب والجنة والنار، وكذا ما يجوز وما لا يجوز في المعاملات والعلاقات. ولا يتأتى هذا لقطاعات واسعة من الناس، وكان من لطفه أن جعل خطبة الجمعة موعدا أسبوعيا تؤدي المداومة عليه إلى الإلمام بأساسيات الدين وأخذ ما يلزم منه لتسير الحياة والمعايش اليومية على بصيرة وهدى. خصوصية نداء الجمعة يضيف الحافظ الغماري أن آية الجمعة، (يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله)، توجب سماع الخطبة. "فأمر بالسعي إلى ذكر الله الذي هو الخطبة، لا إلى الصلاة لأن الخطبة هي المقصود بالذات وإنما قرنها الله تعالى بالصلاة لئلا يحصل التأخر والتراخي عنها لو فرضت وحدها، لأن للصلاة في النفوس منزلة ليست لغيرها، فقرن فرضها بفرض الصلاة ليتم المقصود منها وهو حضورها وسماعها للانتفاع بمعرفة ما يجب على المسلم معرفته منها"(ص. 8). ودحض القول بأن المقصود بالذكر الصلاة، من أوجه كثيرة أولها، أنه لو كان كذلك، لقال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إليها، أو فاسعوا إلى الصلاة، وفق مقتضى النظام العربي في الكلام، لكنه عدل عن إعادة لفظ الصلاة أو ضميرها إلى لفظ أجنى عنها (الذكر) ليفيد أنه المقصود بالذات. وثانيها، أن الذكر غير الصلاة في كلام الله، ولذا المغايرة في قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر). وثالثها، أن موضوع الذكر في اللغة غير موضوع الصلاة، ولا يجوز العدول باللفظ إلى معنى مجازي من دون داع. ورابعها، أن الصلاة ينادى بها خمس مرات في اليوم، وقد خص الله على الجمعة بالأمر بالسعي إليها لشيء زائد فيها هو الخطبة. وخامسها أحاديث رسول ﷺ في فضل التبكير إلى الجمعة وكتابة الملائكة له: "... فإذا خرج الإمام طووا صحفهم يستمعون الذكر"، فاتضح بلا غبش أن الذكر ها هنا الجمعة. وثمة دليل ثان مستنبط من آية الجمعة من حيث أن الله أمر بالسعي إليها لا مجرد الذهاب أو المشي أو السير، "بخلاف الصلاة فإن فاته الإمام بشيء منها قضاه بعد سلامه، فما قال الله تعالى (فاسعوا) إلا حرصا على حضور الخطبة وعدم تفويت شيء منها فدل على أنها المقصود"(ص. 11). وثالث الأدلة أن الخطبة كانت أول الأمر بعد صلاة الجمعة كما في صلاة العيد، لكن النبي ﷺ قدمها بعد وقعة الانفضاض حتى لا يكتفي الناس بالصلاة ويتركوا سماع الخطبة. ورابعها أن ما خصت به من آداب الاغتسال والتطيب وتحسين الثياب والتبكير إليها ونهي عن كل ما يشوش على الاستماع إليها وتخفيف في تحية المسجد ونهي عن النعاس والاحتباء كله "راجع إلى الخطبة لأهميتها في الدين وعظم موقعها منه" (ص 13). وخامسها أن ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات من غير عذر سبب للطبع على القلب المفضي إلى الكفر والنفاق بصحيح حديث رسول الله ﷺ. وسادسها أن خطبة العيد تغني عن خطبة الجمعة إذا اجتمعتا لحصول المقصود بسماع خطبة العيد، وقد ترك رسول الله ﷺ من شهد من أصحابه العيد على الخيار في أن يأتي الجمعة أو لا يأتيها. وهو أمر أيده عمل خلفائه من بعده وبعض المذاهب وكثير من أئمة السلف. وهذا دل على أن الترخيص إنما ينصرف للخطبة وحضورها، أما فرض الصلاة فلا يسقطه شيء. وسائل الاتصال تحقق الاستماع في صورته المثلى و"إذا ثبت من هذا أن المقصود من الجمعة هو الخطبة، فالمصلي في المنزل خلف الخطيب بعد سماعه الخطبة بواسطة المذياع محصل لهذا المقصود من الجمعة بأظهر معانيه كأنه جالس في الصف الأول بجنب المنبر وأكثر من ذلك، لأن المذياع يكبر الصوت ويعظمه كما هو معلوم، فيكون لذلك حائزاً أكثر ما رغب فيه النبي ﷺ وأهمه وأفضله لأن الجميع وسيلة لهذا المقصد كما بيناه" (ص. 19). وأما باقي الفضائل التي تشترك فيها الجمعة مع سائر الصلوات من جماعة وسير إلى المسجد وما إليها، فلا يدل تفويتها على بطلان الجمعة وعدم صحتها تماما كما لا يدل تفويتها في المفروضات الأخرى التي تصلى في غير المسجد جماعة أو على انفراد على بطلانها وعدم صحتها. جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ثم انصرف العلامة الغماري إلى إقامة الدليل على صحة صلاة الجمعة في غير المسجد وأنه ليس شرطا فيها، إذ "يصح أن تقام في الدور والدكاكين والفضاء وغيرها من بقاع الأرض كما أنه تصح صلاتها في هذه الأماكن خلف من أقامها في المسجد كما هي مسألتنا..."، فأقام الدليل أولا على صحة انعقادها خارج المسجد، إذ حكمها عدا الخطبة والجماعة حكم كل الصلوات. ولا دليل على ما سوى ذلك لقوله ﷺ في الحديث الصحيح المتفق عليه والمروي عنه من طريق أزيد من عشرة من الصحابة "وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل". وليس هناك استثناء للجمعة، بل هناك ما يؤكد شمولها من إقامة مصعب بن عمير الجمعة، بأمر من الرسول ﷺ، في دار سعد بن خيثمة بالأنصار بعد العقبة الثانية قبل هجرة نبي الله إليهم، وما ثبت من إقامة أسعد بن زرارة الجمعة في نقيع الخضمات (مكان مفتوح)، بل في قصة مسجده ﷺ الذي أقيمت فيه الصلاة قبل اكتمال بنائه وقبل مقدمه الشريف. وساق من الأدلة من كل الآفاق ما لا يبدد شك كل مرتاب. وبعدها أقام الدليل على صحة صلاة الجمعة خارج المسجد اقتداء بمن بصليها فيه وأورد ما يثبت ذلك من سائر المذاهب، ومنها صلاته ﷺ، من حديث عائشة رضي الله عنها، في حجرته وائتمام الناس به من وراء الحجرة يصلون بصلاته، إضافة إلى ما روي عنها أنها كانت تصلي في حجرتها بصلاة النبي. وكذا من حديث أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ كان يصلي ذات ليلة في حجرته فأتاه ناس من أصحابه فصلوا بصلاته فخفف فدخل البيت، ثم خرج ففعل ذلك مرارا، فلما أصبح قالوا يا رسول الله صلينا معك البارحة ونحن نحب أن تمد في صلاتك فقال "قد علمت مكانكم عمدا فعلت ذلك". ومنه ما ورد من الصلاة في رحبة المسجد وفي بيوت بينها وبين المسجد الطريق. وفند من اشترط لجوازها بأن يكون البيت متصلا أو يكون الحانوت أو الدكان مما يدخل بلا إذن بأدلة عقلية ونقلية متينة. إذ كل دكاكين الدنيا تدخل بلا إذن وكل البيوت لا بد فيها من إذن، ولا تعلُّق للإذن وعدمه بصحة الصلاة. المناط السماع لا قرب المسافة وبعد ذلك، انتقل للتدليل على صحة صلاة الجمعة في مكان بعيد عن المسجد اقتداء بمن يصلي فيه في نفس البلد. فاعتبر أنه "متى جازت الصلاة خارج المسجد بعيداً عنه ولو بعشرة أذرع جازت فيما هو أبعد من ذلك بدون حد، لأنه لا دليل على القرب دون البعد ولا على حد محدود، وإنما المعتبر رؤية الإمام أو سماع صوته أو صوت المبلغ عنه ليمكن اتباعه والاقتداء به، وذلك بالمذياع أبلغ منه بالسماع في المنزل القريب من المسجد بدون مذياع كما كان في السلف، لأن المصلي خارج المسجد إنما يسمع تكبير الإمام أو المبلغ عنه وهو الأكثر أما السامع بالمذياع فإنه يسمع تكبير الإمام وقراءته وحركة ركوعه وسجوده كأنه خلفه في الصف الأول فهو أولى بالجواز مما فعله الصحابة والتابعون حيث كانوا يسمعون التكبير دون قراءة" (ص. 38-39). وأورد في هذا الباب ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عندما قال لمؤذنه في يوم مطير أن يقول بعد الشهادة في الآذان "صلوا في بيوتكم"، وقوله لمن استنكر أن ذلك من فعل النبي ﷺ، وكذا ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من أن رسول الله ﷺ أمر مناديه في يوم مطير فنادى: "إن الصلاة في الرحال"، وكان ذلك يوم جمعة. ومعناه صلوا هذه الصلاة أيضا، الجمعة، في رحالكم لأنهم كانوا يسمعون صوته ﷺ في غالب المدينة وصوت المؤذن وكلامه بالتفصيل، من جهة لصغر المدينة وغياب ما يمنع وصول الصوت إلى البيوت، ومن جهة ثانية لما روي عن الصحابة أنهم كانوا يسمعون صوته من بيوتهم مما لا يعلم سره إلا الله. ثم يأتي بعجيب الدليل على ما يربط عالمي الإنس والملائكة، ويجعل الصلاة حبلا واصلا أكثر مما يظن الناس. وأورد من طريقي البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما أن رسول الله ﷺ قال: "إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداها الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه" (لفظ البخاري). ويورد أيضا ما رواه البيهقي من حديث سلمان الفارسي رضي الله عن النبي ﷺ قال: "ما من رجل يكون بأرض فيء فيؤذن بحضرة الصلاة ويقيم الصلاة فيصلي إلا صف خلفه من الملائكة ما لا يرى قطراه- أي شقاه وطرفاه- يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه". وهذه أخبار لا مجال فيه للرأي يثبت منها أن الملائكة يأتمون بأهل الأرض في الفرائض ويصفون في السماء كصفوفهم ويؤمنون لقراءة الإمام، وبين السماء والأرض ما بينهما مسافة، فأين ائتمام رجل في بلد بإمام في آخر مهما كانا بعيدين من بعد السماء من الأرض؟ وهو ما يصحح ما قيل في المذياع نصا. ويدخل في هذا الباب صلاة الغائب على الميت الثابتة عن رسول الله ﷺ في الصحيحين في صلاته على النجاشي، حيث نعاه رسول الله ﷺ وخرج بأصحابه إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات، فدل على أن الحضور غير شرط، إذ كان الرسول ﷺ في المدينةالمنورة والنجاشي في الحبشة وأن الدعاء يصله حيث كان، بل وفي عالم الأرواح. ويصار من هذا إلى أن المراد من الصلاة خلف الإمام الاقتداء به وحصول ثواب الجماعة (ويحصل بسماع تكبيره وحركاته في الانتقالات وخطبته وغير ذلك)، إذ شرط صحتها وجود المصلى والطهارة وستر العورة واستقبال القبلة وأداء فرائضها من قراءة وركوع وسجود وغيرها، أما الاقتداء بالإمام فشيء زائد للحصول على الأجر والثواب الزائد على ثواب الصلاة. وعلى هذا المنوال، لصلاة الجنازة آداب في الوقوف على الميت وتقديمه أمام المصلي عليه وما إليها، أسقطها الشارع في صلاة الغائب ليدل على عدم شرطية الحضور في الصلاة لا مع الميت ولا مع الإمام. وحتى من يقول إن ذلك جاز من باب المعجزة وخرق العادة، "فقد وصل صوت الإمام إلى المأموم من باب ما جرت به العادة الآن، وإن كان قبل هذا قد كان خارقا للعادة، فإذا جازت الصلاة على ميت في قطر آخر من باب خرق العادة فالاقتداء بالإمام بطريق قد أصبح مألوفا من باب أولى"(ص. 49-50). وسائل الاتصال توسع المشمولين بالنداء يخلص من حديث "إنما الجمعة على من سمع النداء" إلى من كان بعيدا جداً عن المسجد ولا يصله عند سماع النداء إلا بعد فوات الصلاة ملزم، عند سماع النداء إليها في المذياع، بسماع الخطبة والصلاة لأنه سمع النداء وفي إمكانه صلاتها في بيته مع الإمام. نعم قبل ظهور المذياع، كان هذا الحكم ساقطاً "لأنه إما أن لا يسمع النداء لبعد المسجد والمؤذن، وإما أن يسمعه عن بعد إذا كان في مكان مرتفع ولكن لا تجب عليه الجمعة لأنه لا يصل إلى المسجد إلا وقد صلى الإمام، أما اليوم وقد ظهر المذياع المبلغ للصلاة والخطبة فإن الحكم ينتقل من الذهاب إلى المسجد إلى أدائها في البيت لقوله ﷺ 'من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر‘" (ص. 51). والمقصود بالإجابة هو الخطبة والصلاة، وما كان الشارع ليأمر هذا الذي يستطيع سماع الخطبة في بيته بأبين مما لو كان بالمسجد وكذلك الصلاة بأن يترك الجمعة (لعدم تمكنه من الذهاب أو الوصول إلى المسجد قبل الصلاة) ويصليها ظهراً، "بل هذا يكاد يكون مقطوعاً ببطلانه لمن عرف مقاصد الشريعة من التشريع وتحقق من نظر الشارع إلى المقاصد دون الوسائل، فإن الذهاب إلى المسجد ليس مقصوداً لذاته وإنما هو وسيلة لسماع الخطبة والصلاة مع الإمام، فكيف يترك هذا المقصد الأم لعدم تيسير هذه الوسيلة التي حصل المقصود بدونها"(ص. 51). وبعد ذلك التفت إلى وقت الصلاة، وهو ألزم وآكد ولا تصح قبله بل ولا بعده إلا بعذر، وكيف أن الشارع أسقطه في الجمع بين الصلاتين، فكيف لا يسقط وسيلة الذهاب إلى المسجد والصلاة فيه مع حصول المقصد في البيت. ولا تصح الصلاة من دون استقبال القبلة، لكن أباح الشارع للمسافر أن يصلي وهو راكب أينما توجهت به الراحلة. والقيام في الصلاة من فرائضها، لكنه أُسقط في النافلة. بل واكتفى الشارع بركعتين في السفر وواحدة في الخوف تخفيفا. فإذا جاز هذا في الفرائض والأركان فكيف بما دونها. شروط إقامتها خلف المذياع لكنه لم يترك المسألة مفتوحة تماما أمام من قد تسول له نفسه التلاعب، فاشترط لصحة الجمعة في المكان البعيد خلف المذياع (ووسائل الاتصال الحديثة بالتبعية) اتحاد وقت الإمام والمأموم، وتقدم البلد التي فيها الإمام إلى جهة القبلة عن بلد المقتدي به حتى لا يكون المقتدي متقدماً على الإمام، وتكوين صف ولو من اثنين. ولم يترك مسألة احتمال انقطاع التيار الكهربائي من دون تخريجة، فقال إنه إذا حصل في أول الخطبة ولم تسمع، وجبت صلاة الظهر. لكن إذا حدث بعد سماع الخطبة، يستخلف أحد المجتمعين وتكمل صلاة الجمعة. كلمة في الشروط والفوائد العامة لعل أصح الشروط هو اتحاد الوقت والبلد، أما مسألة تقدم الإمام فقد نقل العلامة الغماري نفسه عن ابن حزم أنه من حال بينه وبين الإمام والصفوف نهر عظيم أو صغير أو خندق أو حائط لم يضره شيء وصلى الجمعة بصلاة الإمام. بل إن أمر الرسول ﷺ بالصلاة في الرحال لم يلتفت إلى كون البيوت متقدمة أو متأخرة لجهة القبلة نسبة إلى وقوف الإمام، بل لم يتحر ذلك. وإنما هي مسألة نظر قيدت المسألة بلا دليل وتنافي تيسير الشريعة وحرصها على ألا يصيب المتعبدين عنت. وأمام ما يروج من آراء حائرة ومتضاربة بشأن المسألة وما حدث من توقف شعيرة الجمعة، تكتسي هذه الفتوى راهنيتها، سيما وأنها تحقق غايتين عظميتين من غايات الشريعة: حفظ الأنفس الذي قرر أهل الاختصاص ألا سبيل إليه إلا بالحجر الصحي، وحفظ شعيرتي الجمعة والعيد والاحتفاء بهما ورفع الحرج عن المؤمنين بتيسير أدائهما في البيوت. ولا شك أن هذه الفتوى تفتح المجال، في زمن جائحة كورونا الاستثنائي الذي قد يطول، للأخذ بعزيمة إقامة الجمعة من دون حرج على من أراد أن يأخذ بالرخصة. لكن على المستوى الأوسع، إعادة طرح هذه الفتوى للبحث ومواءمتها مع المستجدات يحمل في طياته إمكانات حل مشاكل دائمة لمسلمي المهجر. فمن جهة، يتحرق كثيرون منهم إلى إقامة الجمعة، ومن جهة ثانية يتعسر عليهم ذلك لبعد المسافات عن المساجد وضيقها بروادها أحيانا وكذا لإكراهات أوقات العمل في بيئات وثقافات لا تعترف بالجمعة ومكانتها. لكن باستخدام وسائل التواصل الحديثة واعتماد هذه الفتوى لعلَمٍ من أعلام الحديث والفقه في القرن العشرين، يتيسَّر لكل راغب في أن يحييها أن يفعل ذلك في وقت استراحته أو وقت يرتبه مع صاحب عمله في مكان عمله أو بيته. كما من شأنها أن تحل مشكلة كبار السن الذين تقعد كثيرا منهم أحكام الشيخوخة وإكراهاتها عن حضور الجمعات والأعياد، لكن التكنولوجيا الحديثة والتيسير الذي يطبع الدين الحنيف يفتحان الأمل في تلبية أشواقهم ومواصلة طقوسهم الروحية، بل ومع الإمام الذي اعتادوه والمسجد الذي ارتادوه طوال حياتهم. *إعلامي مغربي مقيم بالخارج