بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد فقد طلب مني كثير من الإخوة في بلاد المهجر إبداء رأيي فيما أفتى به شيخنا الحسين آيت سعيد في جواز صلاة تراويح شهر رمضان المقبل اقتداءً بإمام من وراء شاشة التلفاز ما دامت صورته مشاهدة وصوته مسموعا، ومع ما أبديته من امتناع عن بيان رأيي فيما ذهب إليه شيخنا إلا أن الإخوة ألحوا في طلبهم لحسن ظنهم في شخصي الضعيف فأجبتهم إلى ما طلبوا مع بيان بعض من الأمور: أولا: لقد سبق أن تتلمذت على شيخي العلامة الحسين آيت سعيد في دورة علمية خاصة بقواعد المذهب المالكي لما كنت إماما بمملكة الأراضي المنخفضة وأعرف مقامه في العلم ولا أبلغ مقام الرد عليه فهو شيخنا ومنه نستفيد. ثانيا: عدم ردنا على الشيخ لمقامه في العلم لا يمنع من مناقشة ما ذكره في فتواه من الأدلة والنصوص الفقهية وقد عهدنا منذ القدم مناقشات بين الشيوخ وطلابهم لم نعدم منها خيرا وعلما مفيدا. ثالثا: أنبه مؤكدا على أن هذه مناقشة لفتوى وليست فتوى يعمل بها من بلغته، وإنما مثل هذه الأمور التي تتعلق بتدين الناس وعباداتهم أمر الإفتاء فيها مرده للمؤسسات العلمية المشهود لها بالعلم والضبط والاتقان والتي أقامها مولانا أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين سيدي محمد السادس أعلى الله أمره ونصره. رابعا: أنبه إخواني أنه في مثل هذه الأمور لا يُسأل الناس عن آرائهم وإنما يسألون عن حكم الشرع فيما نزل بهم، فلا رأي لرجل في شرع الله وإنما شرع الله هو الغالب على آراء الناس وتوجهاتهم، والرجال يعرفون بالحق لا الحق يعرف بالرجال. خامسا: سأناقش فتوى الشيخ في حيزها المالكي باعتبار أنني درسته في المعاهد الشرعية وعلى إلمام به ولو كان إلماما بسيطا، أما ما نسبه للشافعية فأتغاضى عنه تاركا أمره للمتخصصين في فقه الشافعية فهم أعرف به منا، على أن معتمد فتوى الشيخ كانت على نصوص مالكية فإذا ناقشناها فلا حاجة للتعقيب على أدلة الشافعية. بعد هذه التنبيهات الضرورية أقول مستعينا بالله: لقد أفتى العلامة الحسين آيت سعيد بجواز صلاة التراويح اقتداء بإمام من وراء شاشة التلفاز بلا اعتبار للمسافة ما دام صوته مسموعا لمن يصلي اقتداء به من وراء الشاشة وملخص ما اعتمد عليه في فتواه الأمور التالية: أولا: أن هذه المسألة تناولها فقهاء المالكية والشافعية منذ القدم فليست وليدة اليوم. ثانيا: مسألة النوافل وسّع فيها الشارع ما لم يوسعه في الفرائض، فأجاز النوافل جلوسا بلا علة وعلى الدابة وجماعة وفرادى. ثالثا: مناط المسألة من حيث الدليل هو كون اتصال الصفوف ورؤية الإمام شرطا كمال لا صحة عند المالكية والشافعية. لهذه الاعتبارات الثلاثة أجاز شيخنا الكريم جواز صلاة التراويح خلف التلفاز بناء على أن شرطي الاتصال والرؤية شرطا كمال لا صحة، وما دام أن المالكية أجازوا لمقتدٍ بإمام من فوق ظهر مسجد أو من وراء نهر صغير في الفرائض فالنوافل أولى بالجواز، وخلص إلى [أن صلاة الناس التراويح بالتلفاز أمر لا غبار عليه وأنه جائز للفوز بفضل الجماعة الكبيرة وبهذا أفتى هؤلاء الأعلام الكبار ومستندهم صحيح لأنه من الأمر القديم في دار الهجرة]. ولمناقشة هذه الفتوى نلاحظ فقدانها للدليل الصحيح الصريح المتمثل في كلام الله وكلام رسوله ﷺ مع استفاضة الأحاديث النبوية في مسألة اتصال الصفوف والاقتداء بالإمام ، ففتوى الشيخ تأسست على أقوال وردت عن مالك في المدونة يدور أمرها بين الكراهة وأول الأمر، ومثل هذه الأقوال لا تتأسس عليها الفتاوى العامة في نوازل الأمة، بل عليها أن تتأسس على منهج علمي رصين يقوم على قواعد وضوابط يُدْرَسُ على ضوئها ما يَجِدُّ على الساحة من مسائل وحوادث ونوازل يستدعي الأمر فيها استعراض أقوال أهل العلم وقواعدهم التي تساعد في الوصول للحق إما عن طريق القياس عند غياب النص أو بالاستقراء منه عند وجوده، لا الاكتفاء بقول أو قولين في المذهب وإغفال الباقي الذي قد يكون رأي الجمهور، كما يستدعي الأمر كذلك التؤدة والتريث ومراعاة المآل، فكثير من النوازل التي يكون حكمها العام الجواز لكن بمراعاة مآل الحكم وآثاره على تدين الناس وتعبدهم يصير الحكم المنع لا الجواز. فأما المسألة الأولى التي انطلق بها شيخنا الكريم، وهي: أن هذه المسألة تناولها فقهاء المالكية والشافعية منذ القدم فليست وليدة اليوم. فنخالف الشيخ في هذا، فالمسألة وليدة اليوم ولم يعرف لها فقهاؤنا القدامى مثيلا ولا شبيها، بل لم تخطر على بالهم، ولم يجر على عقولهم أن الصلاة فريضةً كانت أو نافلة ستنقل عبر الأقمار الصناعية ليشهدها الناس عبر فراسخ وأميال، وإنما علماؤنا قديما تناولوا مسألة الحاجز بين المأموم وإمامه في البقعة والمكان الواحد حيث يجمعهما زمان ومكان واحد، باعتبار أن هذا الحاجز مما يتعذر رفعه، كأن يمتلئ المسجد فلا يجد الرجل إلا مكانا فوق المسجد لا يرى فيه إمامه بل يسمع صوته، أو حيل بينه وبين إمامه بنهر صغير يرى صورته ولا يكاد يسمع صوته، هذه هي الحالة التي تناولها أهل العلم قديما لا أن الرجل يصعد لظهر المسجد تشهيا أو استجماما ليدركه وقت الصلاة فيصلي فوق المسجد باعتبار أن اتصال الصفوف شرط كمال لا شرط صحة. فإخراج هذه المسألة عن صفتها وإلباسها لباس العصر اليوم أمر فيه نظر، فكان حريا بالشيخ الفاضل أن يذكر صفتها الحقيقة ثم يبني ويقيس عليها، أما أن يقول عنها أن فقهاء المالكية والشافعية تناولوا اقتداء المأموم بالإمام من خلف التلفاز فهذا أمر لا يقبله عقل مطلقا، ولا أظن الشيخ قصده وإنما وقع له السهو والغفلة في قياس القديم على الجديد وإلا ففقهاؤنا لم يعرفوا التلفاز ولم ينبسهم شره فضلا على أن يجيزوا الصلاة خلفه. اللهم إلا إذا كان يقصد بفقهائنا القدامى الشيخ العلامة أحمد بن الصديق الغماري في فتواه الشاذة بجواز الصلاة خلف المذياع، فزمانه غير بعيد عن زماننا ولا يشمله مقصود الشيخ الواضح. ثانيا: أن مسألة النوافل وسع فيها الشارع ما لم يوسعه في الفرائض، فأجاز النوافل جلوسا بلا علة وعلى الدابة وجماعة وفرادى. فعلا قد وسع الشرع في النوافل ما لم يوسعه في الفرائض لكن بحدود وضوابط، لا أن يصير التوسع في النافلة نصا يُسْتَنْبَطُ منه حكم الجواز والمنع في الأفعال أو مدعاة للإضرار بالفريضة، فمع ما وسعه الشرع في النافلة إلا أن النبي ﷺ وهو أعرف الناس بدين الله جعل صلاة القاعد في النافلة على نصف صلاة القائم فيها وفي المحكم ﴿لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ ﴾(1) فعن عمران بن حصين قال: سألت رسول الله ﷺ عن صلاة الرجل قاعدا فقال «إن صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد»(2) وضوابط توسع الشرع في النافلة محدودة بما يشمله العذر برفع الحرج كالقيام مثلا، لا أن نجيز للناس مشاهدة التلفاز وهم يصلون لأن ما يفعلونه نافلة وقد توسع الشرع فيها. فهذه النوافل ومع ما توسع فيها الشرع إلا أنه في كثير من الأمور يشملها ما يشمل الفرائض خصوصا في مشاركتها في الأوقات، فقد نهى الشرع عن إيقاع النوافل عند مقارنة طلوع الشمس ومقارنة زوالها ومقارنة غروبها ولم يجز إيقاعها لأنها نوافل تُوسع فيها. والشيخ خليل رحمه الله لا يكاد يتكلم عن جواز فعل في النافلة إلا ويعقبه بقوله [وإلا فلا] لبيان أن التوسع في النافلة مضبوط، يقول مثلا في فصل بيان صلاة النافلة وحكمها [ونظر بمصحف في فرض أو أثناء نفل لا أوله وجمع كثير لنفل أو بمكان مشتهر وإلا فلا] (3). على أن الشيخ خليل رحمه الله الذي أحالنا على مختصره الشيخ الفاضل قد أفتانا في مسألتنا هذه منذ زمان حيث قال [وتراويح وانفراد بها إن لم تعطل المساجد] أي كل واحد يصلي تراويحه في بيته أثناء تعطلها في المساجد ولا داعي لا لصلاتها خلف مذياع ولا تلفاز، فلو كنا خليليين كما يقال عنا لاكتفينا بفتواه، أما وقد أجزناها خلف التلفاز فقد صرنا تلفزيين لا خليليين، وربما غفل شيخنا الفاضل عن كون فقهاء المالكية والشافعية حينما تكلموا عن توسعة الشرع في النوافل دون الفرائض عللوا ذلك بكون الفرائض محصورة العدد معلومة الوقت، فإذا اشتركت النافلة مع الفريضة في ذلك كالتراويح مثلا التي حصرت بعدد من الركعات مقيدٍ بالسنة ووقتٍ مشهودٍ يقع بعد فريضة العشاء وقبل فريضة الفجر، أفلا يلزمها ما يلزم الفريضة لداعي الاشتراك؟ يقول الشيخ أحمد زروق رحمه الله في شرح الإرشاد [وكونها بعد صلاة العشاء وقبل الوتر هي السنة] (4) ولو قام أحد بتأديتها قبل العشاء من باب أنها نافلة يتوسع فيها منع عن ذلك، وفي الأبي شرح مسلم [المعروف أنه بعد العشاء الآخرة فلو أراد الإمام أن يقدمه عليها مُنِعَ]. فما يفعل من كان يصلي التراويح خلف شاشة التلفاز ويتابع الأخبار المعلنة في أسفل الشاشة، الإمام في التلفاز يقرأ قوله تعالى (الذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (5) والمأموم يقرأ في شريط الأخبار (لقد أحرز نادي أياكس أمستردام كأس دوري أبطال أوروبا) أو لعله يقرأ خبرا من الأخبار التي تؤثر على نافلته الموسع فيها كاكتشاف لقاح لكرورنا، فلعله يخرج من صلاته بسلام؟؟ وإذا أجزنا للرجل في داره أن يصلي النوافل خلف التلفاز فما يفعل بالفرائض التي تكون قبلها أو بعدها؟ تصوروا معي رجلا جمع أولاده وأهله في منزله في رمضان فصلى بهم العشاء إماما لعدم جوازه خلف التلفاز عند شيخنا لأنه فريضة ثم بعد انتهائه من العشاء يقدم التلفاز ليصلوا التراويح خلف إمام في الدارالبيضاء أو في الحرم المكي؟ فهل هذا أمر يقبله عاقل لأن الشرع وسع في النوافل؟ أليس من التوسعة في النوافل أن نبيح له رفع المصحف والقراءة منه فيصلي إماما بأولاده وأهله صلاة التراويح؟ أليس من التوسعة أن نبيح له ولأهله أن يقتدوا بولده الصغير المحسن للقراءة؟ وحتى ما ذكره الشيخ كمثال على توسعة الشرع في النافلة من صلاتها جماعة أو فرادى فليس على إطلاقه بل قيده العلماء والمالكية على رأسهم بأن يكون الجمع خفيفا له داع من الشرع لا أن يجتمع الناس في أي وقت شاءوا ليصلوا النافلة جماعة لأنه متوسع فيها، يقول الشيخ الحطاب في مواهبه عند قول خليل (وجمع كثير لنفل أو بمكان اشتهر) [يريد وكذلك في الأوقات التي جرت عادة الناس بالجمع للنافلة فيها، وصرح العلماء بأن ذلك بدعة، قال في الذخيرة في باب صلاة النافلة: قال في الكتاب: يصلي النافلة جماعة ليلا أو نهارا قال ابن أبي زمنين: مراده: الجمع القليل خفية كثلاثة لئلا يظنه العامة من جملة الفرائض ولذلك أشار أبو الطاهر يعني ابن بشير وقال: لا يختلف المذهب في كراهة الجمع ليلة النصف من شعبان وليلة عاشوراء وينبغي للأئمة المنع منه] (6) ثالثا: مناط المسألة من حيث الدليل هو كون اتصال الصفوف ورؤية الإمام شرطا كمال لا صحة عند المالكية والشافعية. ومع كونهما شرطا كمال لا صحة فليس ذلك بمجيز لما ذهب إليه الشيخ الكريم لجواز وقوع الفرقة اليسيرة المحتملة في حدود المكان كامتلاء المسجد أو الفصل بنهر وطريق وغيرهما. ثم إن الإشكال ليس في اتصال الصفوف، فهذه صلاة النساء صحيحة عند علمائنا وقد انفصلت صفوفهن عن صفوفنا وهم أعلى مكانا منا في المسجد، فالإشكال في عدم تحقق الإمامة في صلاة التلفاز لبعد الإمام وافتراقه وغيابه زمانا ومكانا عن المأمومين وللشرع الحكيم مقاصد في وضع الإمامة لا تتجلى في النازلة المذكورة، فإذا تعذرت الإمامة تعذر معها كل شيء وفي أحاديث المصطفى ﷺ حرص على تحققها لما يلزم الإمام بها وما يلزم المأموم فيها كقوله ﷺ «وسطوا الإمام وسدوا الخلل»(7) فكيف نوسطه ولا حقيقة له بيننا؟ وقوله ﷺ «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا»(8) فكيف نأتم به وبيننا وبينه حواجز اعتبارية وقياسية؟؟ إضافة إلى أن الصلاة لها تعلق بالمكان الذي يوجد به المصلي فأينما أدركته الصلاة صلى فالأرض جعلت للنبي ﷺ مسجدا وطهورا كما في حديث جابر(9) لا أن يبحث المصلي عن إمام خارج حدود مكانه وزمانه ليقتدي به. والمسألة التي ذكرها الشيخ الفاضل في كون تجويز مالك لصلاة المأموم فوق ظهر المسجد فقد رجع عنها مالك إلى الكراهة، واختيار ابن القاسم للقول الأول لا يرجع مالك عن قوله ولا يخرج المسألة عن إشكالها المتعين في البعد وتفريق الصفوف على أن الشيخ الحطاب رحمه الله جعل لاختيار ابن القاسم مخرجا وهو أنه رأى أن هذا البعد يمكن معه مراعاة أفعال الإمام بحصول السماع من غير تكلف (10) على أن افتراق الصفوف عنه لا يضر لكونهما في مكان واحد يكون الإمام أسفل من مأمومه ولو اختلفا فصار الإمام أعلى والمأموم أسفل لما جاز لقول مالك [ولا يعجبني أن يكون فوق وهم أسفل] (11) قال ابن بشير [وقد نهى ﷺ أن يصلي الإمام على أنشز مما عليه أصحابه](12). فإذا تعذر على المأمومين متابعة أفعال الإمام لبعد المسافة ولو نقل صوته بأجهزة البث والاتصال فقد يركعون وهو ساجد أو يسجدون وهو راكع، لكان قول ابن القاسم فيها الكراهة بلا خلاف ولرجع لقول مالك، لعدم المتابعة والموافقة ولو بالمشاهدة والسماع. والمعروف عن مالك في مذهبه أنه كره لمن كان على جبل أبي قبيس أن يقتدي بإمام المسجد الحرام وهو لا يبعد عنه إلا أمتارا معدودة فكيف نستدل بكلامه لنجيز صلاة من بينه وبين إمامه فراسخ وأميال يقول في المدونة [ولا يعجبني أن يصلي على أبي قبيس وقعيقعان بصلاة الإمام في المسجد الحرام] قال الحطاب [هذا يدل على أن لا يعجبني على التحريم](13) وعلل غير واحد من المالكية كراهية مالك لهذا الفعل بالبعد واتساع المسافة. أما مسألة الدار التي احتج بها شيخنا الفاضل في تجويز الصلاة عن بعد فإن مالكا أجاب عن الدار القريبة من المسجد يصلي أهلها بصلاة الناس في المسجد وهو كالشرط في الجواز فيكون للدار حكم المسجد للاتصال الجغرافي، فكل ما اتصل بالمسجد وخالطه وكان له باب مطل عليه له حكم المسجد وهو معروف في المذهب وعليه يخرج قول ابن رشد في البيان [ليس في ذلك اختلاف في مذهبنا] وتحت هذا يُفْهَمُ اقتداء الصحابة بالنبي ﷺ في صلاة التراويح خلف جدار قصير، وهم داخل المسجد وهو في حجرته. وكذلك دار أبي عبد الله التي كان يصلي فيها أنس بن مالك بصلاة الإمام في المسجد فقد كانت متصلة بالمسجد ولها باب صغير يشرف عليه وكان أنس يرى ركوعهم وسجودهم كما في مصنف ابن ابي شيبة (14). ولو أغلقوا على أنفسهم الباب فلا يتصلون بالمسجد وحجبوا عنه لتغير الأمر كما أشار إليه ابن حجر في الفتح أنه من قول الحنفية(15) وكان فقهاؤنا قديما لا يجيزون الصلاة في السَّاباط لعدم اتصاله بالمسجد الذي هو مكان تحقق الإمامة فإذا كان مفتوحا على المسجد بباب يطل عليه أجازوا ذلك كما ذكر ابن الحاج في نوازله (16) ويفهم من هذا أن تجويز مالك مع الكراهة لما سبق من الحالات محصور باتحاد المكان والاتصال بحيث يكون ذلك في حدود المشاهد المسموع أما ما يفوق ذلك فلا وجه له في المذهب ولن تكون نصوص مالك في الجواز مع الكراهة قواعدَ يبنى عليها خلاف مقصده. وعليه فلا اعتبار لصلاةٍ يقتدي فيها المأموم بإمام لا يجمعه فيها به مكان ولا زمان بعينه لافتراق الأماكن واختلاف الزمن ولو بدقائق معدودة لتخلف أفعال الصلاة بسبب ذلك بين الإمام ومأمومه فلعل الإمام قد رفع من ركوعه والمقتدون خلف التلفاز لا زالوا راكعين لتأخر الصوت بطول المسافة طبقا لسرعته كما هو معروف، ولعدم تعين الإمامة وتحققها مع اعتبار ما يؤول إليه الأمر بالجواز من اعتماد الناس على التلفاز وارتباطهم به في عباداتهم مما يفتح إمكانية أداء مناسك الحج والعمرة كذلك لتعذر الوصول ما دام النقل مباشرا من البقاع المقدسة وهذا لا يقول به عاقل لأنه فتح لباب العبث في دين الله، ثم إن مذهبنا يتميز بقواعد يكون من اللازم الاحتكام إليها دفعا للفتنة والشبهة كسد الذرائع مثلا، فأن ندعو الأب لإمامة أهل بيته في الفرائض والنوافل أولى من تجويز إمامة التلفاز دفعا للمفاسد المحققة وجلبا للمصالح المتوقعة، وما أحوجنا لهذا الضابط في هذه الظرفية. وفي السُّنة أن عتبان بن مالك كان يحول بينه وبين المسجد القريب منه الذي يؤم فيه قومه وادي يفيض بالماء فأتى النبي ﷺ في صلاة الجمعة وطلب منه أن يزوره في بيته ليعاين حالته فجاءه النبي ﷺ يوم السبت فطلب من النبي ﷺ أن يصلي في موضع في بيته فيتخذه مصلى فأجابه النبي ﷺ لطلبه ولم يأمر جماعته أن تقتدي به خلف الوادي ولا أن يصلي هو بهم من خلفه مع أنه لا يفصله عن المسجد سوى ذلك الوادي الصغير(17). ثم إنه يجب على علمائنا أن يراعوا في فتاويهم واقع الأمة وأحوال الناس فهل غفل العلماء عن حال الناس اليوم وعمي عليهم جهلهم بالدين وهجرهم للمصاحف حتى نزيد الطين بلة فنجيز لهم ما يزيدهم اتصالا بالهاتف والتلفاز من أجل أن يحققوا شعورا يحسبونه تعبدا، أليس من الأولى أن نفتي الناس بما يقوي علاقتهم بالمصحف والصلاة؟ أليس في نصوص ديننا وأقوال علمائنا ما نؤسس عليه ربط الناس بكلام الله في هذه الأحوال الصعبة حفظا وقراءة وتدبرا أولى من أن نتمسك بأقوال مكروهة في مذهبنا لنربط أبنائنا بالتلفاز، أليس من الواجب أن نفتح للأباء باب الإمامة بأبنائهم وأهليهم ليرى الابن مقام الإمامة في أبيه التي لم يره عليها مطلقا، أولى من أن نحيلهما معا على التلفاز. فأية ضرورة تبيح لفقهائنا تجويز صلاة النافلة خلف التلفاز؟ هل هي ضرورة الحجر الصحي أم ضرورة فضل الجماعة أم ضرورة الأحاسيس الرمضانية؟ وهل ما سبق يعد ضرورة لتجويز الصلاة خلف التلفاز؟ إن ما سبق يعد ضرورة لفتح باب التضرع لله والبكاء عليه، ضرورة لتصحيح العلاقة مع القرآن الكريم، ضرورة لإرجاع الصلاة لبيوتنا والجهر بالقرآن فيها، ضرورة لسماع الابن الفاتحة من فم أبيه لا من مكبرات التلفاز، ضرورة لأن يعرف الناس مكانة المسجد الذي كانوا يمرون عليه وهم عنه غافلون، ضرورة لأن يعرف الناس مقام الإمامة وشروطها وكيفية إيقاعها بعد أن كانوا يحصرونها في الأئمة فقط. إنها فرصة لنجعل من أبنائنا وآبائنا أئمة يلهجون بكتاب الله في البيوت والمنازل لا أن نشعل الحرب بين النساء والرجال حول التلفاز بعد الإفطار، بين من يريد متابعة الأفلام والسهرات الرمضانية وبين من يريد صلاة التراويح فأيهما تكون له الغلبة يا ترى؟؟؟. 1 – سورة النساء الآية 95 2 – صحيح البخاري حديث رقم 1115 3 – مختصر الشيخ خليل صفحة رقم 35 4 – مواهب الجليل (2/351) 5 – سورة الزمر الآية 18 6 – مواهب الجليل (2/355-366) 7 – أبو داوود حديث رقم 681 8 – صحيح البخاري حديث رقم 733 9 - صحيح البخاري حديث رقم 438 10 - مواهب الجليل (2/420). 11 – مواهب الجليل (2/403) 12 – سنن البيهقي (3/109) 13 – مواهب الجليل (2/403) 14 – مصنف ابن أبي شيبة (2/232) 15 – فتح الباري (1/818) 16 – (2/78) 17 – صحيح البخاري حديث رقم (425) *باحث في سلك ماستر فقه المهجر