لا شك أن وباء كورونا قد أحدث ثغرات وفجوات في الدول العربية على وجه الخصوص، يأتي هذا المقال راصدًا لتلك التأثيرات التي لا يسعها مقالًا واحدًا، بل ربما أكثر من مقالٍ؛ فما تركته كورونا من بصمات على الدول العربية ليس بقليل، كما أن النتائج المترتبة على هذا الوباء الفتاك أكبر مما كان يتوقع أحد؛ لذلك سنتعرف أكثر على موقع الدول العربية من هذه التغيرات العالمية بفعل وباء كورونا من خلال أسئلة متنوعة يجيب عنها المقال؛ لتغطي تلك البصمات ذات الأثر البارز، وأهمها: هل نحن أمام فشل الدولة الوطنية؟ في تسعينيات القرن الماضي، عند تسارع التغيرات العميقة التي شهدها العالم، شاع قول إن "الدول الوطنية باتت أصغر لجهة القدرة على معالجة المشكلات الكبيرة، وأكبر من حيث التعامل مع المشكلات الصغيرة"، وصحَّ هذا القول بنسب متفاوتة في غير منطقة من العالم، أما في بلادنا العربية؛ فبدت دولنا أعجز مما كانت في التصدي للمسائل الكبيرة والصغيرة، إلا ما يتعلق منها بالأمن وسياسات السيطرة. فبعد انفجار الثورات العربية؛ ازدادت دولنا الوطنية هشاشة، وفي بعض الحالات انهارت مؤسساتها أو تفكَّكَت، وباتت أضعف من حيث قيامها بأدوارها الأساسية في؛ سياسة شؤون الجماعة الوطنية، وحفظ حياة المواطنين، وصون حقوقهم، غير أنها، وفي بلدان عدة، استعادت إمكانياتها في إخضاع المجتمع بحجة محاربة العنف، إرهابيًّا كان أم سياسيًّا أو اجتماعيًّا، ومحاذرة الانزلاق إلى الفوضى التي يخشاها الناس. وفي الأيام الحاضرة؛ حيث يَفْرِض انتشار الوباء ومخاطره الكبيرة ابتعادًا وانكفاءً عن بعض الشؤون العامة، تَبرز الحاجة على نحو قاسٍ لدولة؛ تحمي مواطنيها، وترعاهم، وتُغلِّب الصالح العام على الأغراض الصغيرة؛ وأولها شهوة السلطة وطلبها لذاتها، بصرف النظر عما ترغب به أو تستطيعه، ولا تنحصر الحاجة هذه في مجال ضبط المجتمع، وفرض انتظامه تداركًا لاتساع المضار الكثيرة؛ فالضبط المتوخي، إن لم يتلازم مع سياسة اجتماعية رشيدة تُعْنَى بمن هم أضعف وأفقر، سرعان ما ينزع إلى تبرير مصادره؛ الفضاء العام، وتعطيل السياسة، وتقييد الحريات. هل نحن بحاجة لصمود الأمن الإقليمي العربي؟ رغم أنَّه قد يكون مُبكرًا تقييم الآثار الأمنيِّة الإقليميِّة لكورونا على منطقة الشرق الأوسط، يَنْظرُ المُراقبون إلى بداية انتشار الوباء؛ باعتباره الحدث الأجد ضمن سلسلة الصدمات، التي هزَّت الشرق الأوسط على مدى العقدَين الماضيين؛ إذ أنَّ الغزو الأميركي للعراق، والانتفاضات العربيَّة، والحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا، وظهور "داعش" وزواله، قد جعل بلدان المنطقة في تصنيف الدول الفاشلة، يضاف إلى ذلك، الصراعات الإقليميَّة، والكوارث الإنسانيَّة، وأزمة الشرعيَّة في أنماط الحكم السائدة في المنطقة. ومن المتوقع أن يؤدي انتشار "كورونا" على الأقلِّ، إلى تنامي هذه الديناميات، كما سيُشَكِّل اختبارًا قاسيًّا لمرونة وقدرة صمود ليس فقط دول المنطقة على الصعيد الفردي، إنمّا النظام الإقليمي ككل. حيث سيكون تأثير الوباء أكثر حدة في الدول الضعيفة، أو الدول التي توشك على الانهيار؛ إذ أنَّها تقع في صميم محاور الصراع المتعددة داخل المنطقة؛ وهذا سيغذي حتمًا حلقة مفرغة من الصراع، واحتمال تجدد موجات الإرهاب والتمرد، والتدخل الإقليمي؛ الأمر الذي سيؤدِّي بدوره إلى خسائر فادحة لدى السكان في مناطق الصراع المنكوبة. كل هذا سيزيد، بلا شك، من الضغط على البيئة الأمنيَّة الإقليميَّة المجهدة أصلًا، لكن رغم ذلك، تُقَدِّم الأزمة فرصة لتقليل التوترات الإقليميَّة. هل نحن بحاجة إلى تعاون إقليمي عربي لتطوير نظم الصحة؟ يُشَكِّل الوباء العالمي المستجد تحديًا للتنمية بمختلف أوجهها، وللنظم الصحية في كل البلدان؛ وخاصة في شرق المتوسط؛ حيث تشير الدراسات الاستشرافية إلى التأثيرات السلبية على مختلف الاقتصادات العالمية؛ من خلال الركود، وتراجع النمو الاقتصادي، وفقدان ملايين الوظائف؛ مما يحد من تمويل النظم الصحية، ويؤثر سلبًا على مخرجات النظم الصحية؛ وطنيًّا وإقليميًّا وعالميًّا. كما أن حوالي 90% من سكان الإقليم يعيشون في دول ذات دخل متوسط وضعيف؛ ما يتسبب في ضغوطات مالية على النظم الصحية، التي تشكو من نقص التمويل وعدالته أصلًا، كما تجدر الإشارة إلى أن إقليمنا يأوي أكبر عدد من اللاجئين والمهجَّرِين، الذين يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية غاية في الصعوبة. والدروس الأولية المستخلصة من تجارب الدول في التعامل مع هذه الجائحة أبرزت قوَّة، وسرعة انتشار الوباء؛ حتى تجاوز في بعض البلدان الغنية مثل إيطاليا وفرنسا الإمكانيات المتاحة، ويهدد في حال عدم تراجعه بانهيار المنظومات الصحية بكاملها. كما ساعد التركيز على الاستراتيجيات الاستباقية للتعامل مع الوباء وتطوير آليات المشاركة الفردية والمجتمعية في الوقاية وتعزيز الصحة؛ من أجل تفادي الضغوطات الكبيرة على الخدمات العلاجية، بخاصة في ظروف ندرة الموارد المادية والبشرية. أما على المستوى الإقليمي؛ فأظهرت هذه الجائحة الصحِّية؛ أهمية الاستثمار في البنية الصحِّية، وفي تقوية النظم الصحّية؛ لتطوير الاستجابة للحاجات المستجدة، والتعامل مع الأوبئة العالمية. مكافحة الوباء يحتاج إلى حركات التغيير في الدول العربية رغم أن الفيروس لا يميَّز بين الأشخاص على أساس ثروتهم؛ فإن مستوى الدخل يؤثِّر على آليَّات التكيُّف المتاحة؛ إذ لا يتمتَّع العمَّال ذوي الدخل المنخفض، في جميع أنحاء المنطقة، بالقدرة على إنجاز عملهم عن بُعد (في المنزل)، ولا يحصلون على رواتبهم إذا تَغيَّبوا عن عملهم. ومع استمرار الحجر المنزلي ودخول الاقتصادات في مرحلة الركود، ستتضرَّر شرائح المُجتمع الأكثر فقرًا -التي تشكِّل غالبيَّة المواطنين- بشكلٍ غير متساوٍ؛ إذ سيجد اللاجئون والعمَّال المُهاجرون أيضًا أنَّه من المستحيل التعامل مع تداعيات هذا الوضع، ومع ذلك، لا يبدو أن أيًّا من حكومات المنطقة لديها خطة حول كيفية تقليل الضرر الاقتصادي، أو معالجة الانقسام المتزايد في مجتمعاتها. كما سيكون لكورونا أيضًا تأثير سياسي أبعد بكثير مما يمكن أن يتوقَّعه المرء في أجزاء أخرى من العالم؛ فقد نجح الوباء في تفريغ شوارع المتظاهرين في الجزائر ولبنان والعراق، ورأينا جُيوش المنطقة تستعيد الساحات العامَّة؛ بحجة تنفيذ إجراءات "الحجر المنزلي". والخوف يكمن في أن تَستخْدِم الأنظمة الاستبداديَّة الوباء؛ لتعزيز السيطرة الاجتماعيَّة، من خلال الإجراءات التي يتمُّ الترويج لها تحت ضغط الضرورة للسيطرة على الفيروس؛ لتتتبَّع أيضًا حركة المتظاهرين والمعارضين. هل نحن بحاجة إلى نظام صحي جديد؟ أظهرت هذه الجائحة أن مجموعة من الشركات الصحية الربحية؛ مهما كبر حجمها، وكثر عددها، لا تصنع نظامًا صحيًّا، وستبقى إلى الأبد شركات متنافسة تتاجر في سلعة، وهي صحة الإنسان؛ فلا يمكننا مكافحة هذا الوباء، أو أي وباء آخر قد يظهر مستقبلًا، إلا بالقضاء على ظاهرة تسليع صحة الإنسان؛ وهذا يتطلب تغييرًا في عقلية النظم السياسية، ذلك أن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالخلاص الجماعي، وتؤمن بالخلاص الفردي، لن تكون قادرة حتمًا على محاربة هذه الجائحة. كما أن هذه الأنظمة التي نتحدث عنها؛ هي تلك الرأسمالية، التي دائمًا كانت تضحي بفئات مجتمعيَّة (تصل حدَّ الإبادة) سواء كانت عرقيَّة أو اجتماعيَّة (نساء، أطفال، أقليَّات عرقيَّة)؛ للخلاص من أزماتها البنيويَّة، وهي الآن ما فتأت تروِّج لفكرة "مناعة القطيع" والتضحية بكبار السن؛ لإنقاذ الاقتصاد من العواقب المدمرّة؛ وبالتالي، لن يكون تقديس الحلول التكنولوجيَّة السريعة؛ مثل اللقاحات، كوسيلة للهروب من هذه الضرورة التاريخيَّة، إلا تعمية عن المشكلة الأساسية؛ كما لن يؤدي ذلك إلا إلى إطالة أَمَد المُعاناة الإنسانيَّة وزيادة حصيلة الوفيّات. وأخيرًا، إن الوتيرة السريعة لانتشار كورونا، تجعل الوضع مقلقًا؛ بشكل خاص لأولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى خدمات وأدوات النظافة الأساسية، أو لا يستفيدون من الاستجابة للأوضاع الخاصة بالمرأة اللاجئة، أو للمهمشين الذين يعانون ظروفًا صحية صعبة؛ والتي هي، في كثير من الأحيان، الصبغة السائدة لأوضاع اللاجئين التي من شأنها أن تضاعف من معاناتهم. ولكن هناك فرصة؛ حيث يجب الاستمرار في بذل جهود جماعية ومتضافرة كمجتمع ككل: مؤسسات مجتمع مدني، مؤسسات دينية، قطاع خاص، أكاديميين، فنانين، وكل من يؤثر في الرأي العام؛ من أجل إيجاد حلول شاملة للملايين في المنطقة، والاستفادة من الخبرات الطويلة لإدارة الأزمات.