يملك المجتمع المغربي ذاكرة قوية؛ لا ينسى الأحداث الأليمة كما لا ينسى الأحداث السعيدة أيضاً، وتأريخ الذاكرة للوقائع يتم عبر اللغة والعادات وأساليب العيش وأنماط التفكير، فنجد مصطلحات في الدارجة المغربية تدلّ على الهلاك والضياع، مثل "الجايحة" التي أصلها "الجائحة" وتقال لمن ضاع وانحرف انحرافاً شديداً مُهلِكاً له (ضربته الجايحة)، ونجد لفظ "بوكليب الأكحل" الذي يعني "الطاعون الأسود"، كما نجد المئات من قصائد تفريج الكربات، والتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما أضفى المغاربة على بعض الأماكن طابع القداسة أو الرعب، مثل باب الشريعة، في بعض المدن المغربية كفاس وتازة ومراكش، أطلق عليها المجتمع المغربي اسم باب المحروق، نظرا لمشاهد حرق الثوار والمتمردين على السلطان في بعض الفترات التاريخية، وباب الجياف، بمدينة فاس التي كانت تلقى فيها جثثت الموتى من وباء الطاعون وتترك لتجفّ تحت أشعة الشّمس. لقد عرف المغاربة الأوبئة والأزمات، وكافحوا من أجل البقاء، فاكتسبوا بذلك خبرة ترجموها إلى فنّ العيش، فقد كانت بيوتهم تتضمن مرافق لتخزين الغذاء، وضمّ المطبخ المغربي وصفات تقي البرد وتدفع الجوع لساعات طويلة، كم ضمّ وصفات للعلاج والتداوي، وتميّز اللباس المغربي بخصوصيات الحماية مثل الجلباب والسلهام واللثام، إلى جانب ثقافة التضامن، والقدرة على الخلوة والعزلة لشهور عديدة، حتى يرفع الله البلاء، وتمر المِحنة، وفي طياتها نِعمة وبركة، فكم من حافظ للقرآن كانت العزلة سبباً في حفظه، وكمْ من دارسٍ لبعضِ العلوم، كانت الخُلوة مناسَبةً لنبوغه، فضلاً عن بعض أرباب الصَّنائع والفنون والحِرف، الذين أبدعوا في أوقات الحجر الصّحي تحفاً فنية، وأعمالاً ظلت خالدة، كل ذلك خدم المغرب اليوم في مواجهة وباء كورونا، والذي يمثّل طاعون الأمس، ولكن بوعي اليوم وإمكانات العصر، لتصبح تجربة المغرب رائدة في مكافحة الأوبئة وجديرة بالتقاسم مع شعوب العالم، فينتقل المغاربة من الحجر إلى الجهر والنشر تعميماً للفائدة. لقد شكّل الوباء فرصة لتغيير وعي المواطن والارتقاء بالحسّ الوطني، فأثمرت الجهود ردود فعل إيجابية تجلّت في حجم التضامن الذي عمّ أرجاء المغرب، ونبوغ الكفاءات الوطنية، وارتفاع منسوب التضحية التي بذلها أطر التعليم والصّحة والأمن والوقاية والجيش والدرك والقضاء والسلطات المحلية والمجتمع المدني، من مبادرات قيمة، تروم الدفاع أمن المغاربة وسلامتهم، وهي مبادرات تمثل في الواقع شخصية المغاربة في أبعادها الروحية والإنسانية التي أعادت للواجهة معنى الاستثناء المغربي، في الوقت الذي نشهدُ فيه أنانيةَ بعض الدول وصراعاتها السياسية وحروبها الاقتصادية دون اكتراث بمصير المواطن. ولأنَّ الذاكرة المغربية حية وقوية، ولا تنسى الأحداث الكبرى، فقد أرّخ لهذه الجائحة عدد من المثقفين والأدباء فكتبوا المقالات والقصائد، وأبدعوا اللوحات التشكيلية والمقاطع الفنية بوسائل العصر من تكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي، كما انخرط أطفال المغرب في تأريخ الحدث بإبداعاتهم ويومياتهم، مما أكّدَ يقظة المغاربة بكل مكوناتهم، وارتفاع مستوى الوعي الجماعي، الشيء الذي ينبغي أن يُذكَرَ ويُشكَرَ ويُنشَر، ففي الأزمة تُمتحَنُ الأخلاق وتُعرَف معادن الشعوب، وكما قيل: ستعلم حين ينجلي الغبارُ، أفرسٌ تحتكَ أم حمار، هكذا لم تزد الجائحة المغاربة إلا وحدةً وتضامناً، وبفضل الذاكرة القوية، ستعلم الأجيال القادمة مقدار شهامة المغاربة في مواجهة جائحة كورونا. كتب المغاربة في زمن الحجر الصحي نصوصاً كثيرة، حتى أصبح الحديث عن نمط جديد من الإبداع أطلق عليه "أدب الحجر"، على غرار أدب السجون، وأدب المهجر، وأدب المنفى، ليشكّل هذا الأدب إضافة قيمة إلى حقل الإبداع الإنساني عموماً، ويؤكّد في الآن ذاته على يقظة الكتاب و الأدباء المغاربة، وسرعة تفاعلهم مع الحجر الصحي وآثار الوباء، ولعل المطلع على المقالات المنشورة في المجلات العربية الصادرة في زمن الحجر الصحي مثل مجلة الدوحة والمجلة العربية والفيصل والوعي الإسلامي والعربي وغيرها، ومعظم الجرائد العربية، والتي خصّصت ملفات حول وباء كورونا، سيجد حضور الكتاب المغاربة قوياَ، كما أنَّ المطلع على مواقع التواصل الاجتماعي يجد حضوراً لافتاً لتفاعل الباحثين والأدباء المغاربة مع الوباء، فعدد كبير من الباحثين ينشرون يوميات الحجر الصحي، وحوارات وقصائد شعرية، وخواطر وأفكار وتأملات، كما أقيمت العديد من المحاضرات المباشرة والندوات التفاعلية، لمناقشة ظروف الحجر وآثاره، شملت عدة ساعات من التحليل، وضمّت محتوى إعلامياً جديراً بالمتابعة، خاصة وأن النقاش العام قد انخرط فيه كل فئات المجتمع، علماء وصفوة الباحثين وخبراء، ورجال السياسة والاقتصاد من وزراء ومسؤولين، وأساتذة وأطباء، ويبدو أن هذا الزخم من الحوارات والمناقشات و الكتابات قد عكس روحاً من النشاط العلمي والتفكير الجماعي في جائحة كورونا، في مختلف صيغه ومرجعياته، ينبغي توثيقه وجمعه حماية للمنجز، وصيانة لذاكرة المستقبل، فمثل هذا الجائحة بهذا الشكل المخيف الذي ظهر هذا العام 2020، لم يشهد تاريخ الإنسانية شبيهاً له في الماضي، فهو حدث متفرّد ولا يمكن نسيانه، وقد صادف وجود تكنولوجيا العصر في التواصل مما سهّل انتشار المعلومة، كما أسهم في انتشار الوباء أيضاً بفعل سهول تنقل الأشخاص في زماننا، فالتطور العلمي كان له وجه إيجابي وآخر سلبي، كما أن تأخر اكتشاف لقاء مضاد للفيروس أسهم بدوره في خلق حالة من الرعب والفزع لدى فئات عريضة من ساكنة الأرض، ومن مظاهرها ذلك التهافت على محلات بيع المواد الغذائية خلال بدايات الحجر الصحي، لأنه لم يكن واضحاً ما ستأتي به الأيام، بعد انتشار الفيروس أو حدوث مجاعات وفوضى بسبب الأزمة الاقتصادية التي ستنتج عن توقف المصانع والمعامل ومؤسسات الانتاج، حتى إن بعض الباحثين تحدثوا عن موجات جديدة من الثورات التي قد تعصف ببعض الزعماء في السياسة والاقتصاد، وتجعل بعض الدول تدخل في حروب داخلية وموجات من الاضطراب. وبالفعل شهدت بعض الدول موجات احتجاج وتمرد، بسبب غياب الإمكانات الطبية في المستشفيات، أو غياب تقديم دعم للفئات الاجتماعية المتضررة من توقف العمل ولزوم البيوت، كما شهدت الأسواق نفاذ بعض البضائع الأساسية مما زاد من وتيرة الغش والاحتكار والزيادة في الأسعار، فكان لابد للدول من بذل الجهد مضاعفاً، من أجل الحد من انتشار الوباء، وتوفير الحاجيات للسكان، والقضاء على الظواهر السلبية، وقطع الطريق على تجاز الأزمات. وبالعودة إلى المغرب، نجد أن الدولة قد وظّفت كل إمكاناتها في ترسيخ الأمن والاستقرار وتوفير الحاجيات الأساسية لعموم المواطنين، وسخّرت كل طاقاتها من أجل النزول إلى الميدان بكل جدية وحزم، فكان التواصل والتعاون بين كل الوزارات من أجل احتواء الأزمة والسيطرة على الوضع، وهكذا اتخذ المغرب إجراءات احترازية بشكل مبكر جداً وسنّ قوانين جديدة تساعد على ضبط الانحرافات الملاحَظة أو المحتملة، استعداداً لكل تدخل مرتقب، فكان الجيش حاضراً وكل قوات الأمن تساعد في توعية المواطنين وتقديم المساعدات، كما تدخلت هيئات المجتمع المدني في تقديم المبادرات وخاصة التضامن من أجل مساعدة الأسر الفقيرة والتوعية التحسيس، إلى جانب الإعلام الذي حوّل اهتماماته إلى التحسيس وتوجيه المواطنين إلى الشروط الصحية والتعليمات الطبية التي تعين على حماية الصحة والأمن النفسي، هذا فضلا عن مبادرات ملك المغرب أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله، الذي أشرف بشكل مباشر على كل العمليات والإجراءات وكانت تدخلاته الرشيدة في مستوى انتظارات الشعب المغربي، فقد أنشأ صندوق دعم جائحة كورونا، لوضع تبرعات المغاربة ثم توزيع المساعدات المادية على الأسر والعمال ومختلف الفئات التي تضررت بالجائحة، ولمساعدة المغاربة على التزام الحجر الصحي، كما كان عفو جلالة الملك على آلاف من السجناء في مبادرة إنسانية نبيلة وقع طيب على عدد كبير من الأسر المغربية، الشيء الذي مكّن من التخفيف من آثار الوباء، وحوّل المحنة إلى منحة، بسبب التركيز على الجهد الداخلي في توفير الحاجيات الأساسية، والتقليل من الاعتماد على الخارج، فكان ذلك مناسبة لاكتشافات كفاءات مغربية في مجالات الاختراع والإبداع والاقتراح، الشيء الذي غيّرَ إيجاباً صورة الذات لدى المغاربة، عندما نجحوا في تخطي الأزمة، والخروج منها بأقل الأضرار، بل ربحوا اتحادهم وتضامنهم ووعيهم المشترك، وأكّدوا للعالم قدرتهم على الصمود في وجه الأعاصير العاتية، وهو ما ينبغي أن لا ننساه بتأريخه وتوثيقه حتى يكون مصدراً لقوة الأجيال القادمة.