تزامن ظهور أزمة مرض "كورونا" مع تواتر وترادف سيناريوهات من كل صنف ولون تؤسس نظريات مختلفة حول مسألة المؤامرة. لا نملك الجزم في حقيقة هذه النظريات التي تتقاذفها جهات ونخب ولوبيات دولية لها مآرب وأغراض إستراتيجية وترويجية خلف بث هذا النوع من المزاعم؛ لكننا نملك إمكانية وحق وواجب التأمل في هذه المزاعم وما يحفها من حيثيات للوقوف على مدى مصداقيتها. فمن هذه النظريات ما يجعل مرض "كورونا" وليد فصول المقارعة بين الصين وأمريكا، حيث تقوم الإستراتيجية العسكرية طويلة المدى على سباق توفير وتطوير الأسلحة البيولوجية. ومنها ما جعل الفيروس أداة تعتيم وتمويه في الصين لوقف زحف التظاهرات الشعبية الملتهبة التي أخمدها الحجر الصحي فعلا وبشكل عجيب. وفي المقابل، هناك من يوجه أصابع الاتهام نحو المعسكر المنافس للصين، فيقول ببث الفيروس من قبل دونالد ترامب لاستعادة تبوء المكانة الأمريكية على هرم القوة السياسية والاقتصادية العالمية وشحن رصيد شعبيته استعدادا للحملة الانتخابية التي ستمكنه من فترة رئاسية ثانية. ومن النظريات أيضا ما يجعل كبريات المؤسسات البنكية العالمية ونخبا دولية وأسماء كغيتس وروتشيلد وروكفيلر وغيرهم خلف مخطط شيطاني للتحكم في الدول والأفراد، من خلال التضييق على الحريات والتجسس بذريعة المصلحة العامة ومستلزمات الاستشفاء من المرض؛ وهو ما يحدث تدريجيا وجزئيا الآن. ومن النظريات التي تبوأت هرم الشعبية تلك التي تجعل من تكنولوجية الجيل الخامس العامل الأساسي وراء تفشي فيروس "كورونا". انتشرت النظرية إثر ظهور مقطع فيديو لدكتور أمريكي على "يوتوب" في منتصف شهر مارس يفيد فيه بأن هذه التكنولوجيا أخلت أو زعزعت الاستقرار الكهرومغناطيسي الأرضي وسممت بالتالي جسم الإنسان الذي نقل الفيروس. وكان بالتالي من السهل الربط خرائطيا بين أول مدينة ظهرت فيها تقنية الجيل الخامس (ووهان) وبين الانتشار الفعلي لفيروس "كورونا". وهناك نظرية تضع الباحثين ولوبيات الصناعة الصيدلية والمختبرات الدوائية ذات الصلة وراء تأزم الوضع الحالي العالمي لبيع الأدوية بأسعار خيالية. وهناك أيضا نظرية الإبادة الممنهجة التي تقوم على انتقاء فئات عمرية وعرقية وعقائدية غير مرغوب فيها بدعوى مسوغ التخفيف من الكثافة السكانية العالمية وحماية البيئة. وهذا الشق ارتبط مؤخرا باسم بيل غيتس الذي تعهد بتمويل أبحاث وازنة في مجال ابتكار المصل المنتظر والذي أفاد بأن المرض هو مفتاح التخفيف من الكثافة السكانية العالمية، وهي إفادة تم تحويرها واستخدامها خارج سياقها الخطابي بغرض توليفها مع نظريات المؤامرة حول الفيروس. وفي هذا السياق، انتهت آخر فصول نظريات المؤامرة إلى ما تضج به مواقع الإعلام والتواصل الاجتماعي حول مزاعم وقوف بيل غيتس وشركته مايكروسوفت وراء انتشار مرض "كورونا" تأسيسا لتبرير فكرة غرس شريحة أو رقاقة رقمية تحقن في جسم الإنسان بدعوى اللقاح ضد الفيروس المميت. فالمدخل الذي يبرر تطوير هذه الرقاقات هو صحة الإنسان، وذلك يضفي عليها صبغة مصداقية المرامي الإنسانية البحتة، إذ تروم الرقاقة إعادة برمجة خلايا معينة في الجسم لتقوم بوظيفة الخلايا التالفة من أجل الاستشفاء تلقائيا من الإصابات وخلق نسيج عصبي متجدد. وهذه الرؤية تمثل قفزة نوعية هائلة في مجال الطب بتعزيزها استئصال الأمراض من خلال عملية تحفيز الدماغ والخلايا على إفراز ما يلزم من المضادات الحيوية وتنشيط جهاز المناعة للرصد المبكر للأمراض. ويمكن القول إن إمكانية ومجالات التطوير المتاحة أمام هذا المشروع قد تتيح مستقبلا دخول البشرية نظاما عالميا جديدا تقطنه أجسام وعقول سليمة لا تشوبها شائبة الأمراض والعلل. منطقيا وحسب طموحات ومرامي الرقاقة العجيبة، إذا كانت ترمي إلى تحفيز الدماغ على إعطاء الأوامر تلقائيا لإعادة برمجة الخلايا التالفة للحفاظ على وظائف الجسم، فقد تكون أيضا قادرة على جعله يتحكم في هرمون الشيخوخة لتتحول الكتل البشرية تدريجيا إلى سيبورغات (Cyborgs) تتشابه مؤهلاتها من حيث البنية والقدرة على العمل والإنتاج. وقد تؤخر أو تعدم الطمث لدى النساء فيزداد التوالد والتكاثر بعيدا عن مفهوم المرض والعاهة وأخطاء التقديرات البيولوجية والنفسية قبل الولادة. من يدري..؟ فالخيال والعلم لا زمام لهما. وللإشارة فقط، فإن هذه الرؤية يكتنفها تناقض صارخ مع نظرية المؤامرة المستندة إلى مسوغات أجندة الإبادة الفئوية التي تقول باستحداث مرض "كورونا" للنقص من الكثافة السكانية والحد من الإضرار بالبيئة. إلا أن حجة الوقاية من الأمراض هذه ذريعة ليس إلا، فالأمر مخيف وتقشعر له الأبدان إلى حد الرعب في أبعاده الخطيرة المرتبطة بالحد من حريات الإنسان وبث الترددات التي تمكن من التحكم في سلوك البشر من خلال التحفيز على إتيان أفعال غير إرادية. يبدو الموضوع شبيها بأفلام الإثارة والجاسوسية، وينم عن تصور يُدخل البشر نظاما كونيا جديدا يخضعون فيه لآلهة الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة. والفكرة ممكنة التحقيق على أرض الواقع إذا ما نظرنا إلى ما بلغته الصناعة الرقمية وتكنولوجيا النانو من مكتسبات وإنجازات مبهرة في عالم البحث العلمي والتطور التكنولوجي. وتقوم هذه الرؤية على تتبع جميع المعلومات الشخصية المتعلقة بالأفراد من خلال الأقمار الاصطناعية؛ وهي ليست فكرة جديدة ويتم تطبيقها فعليا وجزئيا على أرض الواقع في عدد من الدول والمدن في العالم، حيث يتنامى الإقبال على حقن رقاقات في جسم الإنسان، وإن كانت هذه الرقاقات إلى حد الآن تقتصر على البيانات التعريفية الخاصة بالحسابات البنكية وأرقام الدخول السرية. ستمكن هذه الرقاقة، حسب المزاعم المتداولة، من استقبال ترددات تسلب الإنسان إرادته وتجعله طوعا لرغبات الغير. وهذا أخطر أبيات القصيد. ما الفائدة من مجتمع سليم بدنيا وذهنيا ومدجن وخاضع فكريا وحسيا؟ إذا صدقت المزاعم، ستتمكن هذه الرقاقة من تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الأنظمة الدكتاتورية التي أثبت التاريخ أنها تعيش فترة من الزمن ويؤول مآلها عاجلا أم آجلا إلى الفشل والزوال كليا أو جزئيا بفضل مناوشات الفكر الآخر المخالف والمعارض. عندما نفكر في هذه الأشياء الرهيبة ونقارنها بما يحدث الآن من سحب تدريجي للحريات واستغلال الحجر الصحي لتمرير قوانين والمصادقة عليها (كقانون تكميم الحريات مثلا) لا يسعنا إلا أن نقلق ونفكر ونفتح عيوننا على خبايا ما يحدث وما قد يحمله القادم من الأيام من مفاجآت. من له مصلحة في التحكم بعقول ومصائر البشر؟ هل من قبيل الصدفة أن ينتشر هذا الوباء بهذا الشكل؟ وهل من قبيل الصدفة أن يتم تهويل أمره على هذه الوتيرة في مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؟ هل من الطبيعي أن تختفي وتتوارى المنظمات لصالح أوليغارشيات ونخب يتزعمها أفراد لتشير الأصابع إلى أسماء كبيل غيتس وروكفيلر وروتشيلد؟.. لنتخيل للحظة وجيزة كتلا بشرية مسلوبة الإرادة يتحكم فيها عن بُعد. لنتخيل مجتمعات من دون فكر الفلاسفة والمفكرين. لنتخيل مجتمعات من دون سجال إيديولوجيا المعارضة والنقابات. لنتخيل مجتمعات تخلو من وخز الأدب لضمير شعوبها. إن الأمر فعلا مخيف ويدعو إلى القلق. وكما قلت في بداية هذه الورقة، لا نستطيع الجزم بقوة الحجة في مصداقية هذه النظريات. ومن المؤكد أنها تخلق نوعا من البارانويا لدى المتلقين المهتمين، حيث إن الهدف من انتشارها هو سلبنا القدرة على النقد والتحليل؛ لأن النظرية تسعى جاهدة لتتبث أنها حقيقية باستدراج المتلقي نحو الاستنتاجات المتسرعة عوض طرح الأسئلة المناسبة وتفحص الحقائق وتقفي منابع هذه الحقائق. ولا ننسى في الوقت نفسه أنه في عالم المؤامرة يقوم تكذيب المؤامرة نفسها مقام الأثر على وجودها؛ لأن المؤامرة تتخذ من حجب الحقيقة منهجا وسبيلا للتحكم في العالم. فإذا تحققت المزاعم، سيصبح البشر مجرد دمى متحركة، قوية البنيان مسلوبة الأذهان، تتحرك كأشباح في عهد يتوارى فيه الكوجيتو الديكارتي: "أنا أفكر فأنا موجود" خلف الشعار الجديد: "أنا سليم فأنا مسلوب وأنفذ".