فاجأت كرونا العالم الكسول، أما العالم اليقظ ممثلا بالحركات البيئية والاجتماعية، فكان ينبه إلى مثل هذه الجائحة وما هو أخطر منها من قبيل انعدام المياه وانتشار الفيروسات المتعددة والمتنوعة التأثير، والأوبئة السريعة التدمير. ما كانت هذه الحركات تنذر به ولاتزال، يتجاوز فيروسا واحدا مهما كان فتاكا. إن الذين يدعون المفاجأة ليسوا على حق، وكان عليهم بالأحرى أن يتحدثوا عن عدم الإصغاء، أو عدم الانتباه أو عدم الوعي بالمخاطر. كيف لمن حصد غابات بأكملها (أساس التوازن البيئي) أن يأتي اليوم ويدعي أن كورونا فاجأته! اليوم، هل سينتبه صناع القرار في العالم للمخاطر التي أنتجت "كورونا"، ولأوضاع الهشاشة التي وجدتنا عليها الحائجة، ولأثر تجاهل الحداثة في التدبير وفي صناعة السياسات العمومية، ولخطورة التنكر لفرص المقاربة التشاركية والإصغاء المنظم والدائم للمواطنين ومؤسسات الرأي والاقتراح؟ المؤشرات الأولى لتعامل صناع القرار مع مرحلة ما بعد الجائحة تظهر من خلال ابتهاج أغلب الحكومات في العالم، إن لم نقل كل الحكومات، بالمقاربة المركزية في تدبير الجائحة وعودة القرارات العمودية من فرق لتحت، وتجاهل الرأي المختلف، واليقينية المطلقة بدون أدنى حد من التنسيب في القرارات الحكومية، وتعطيل مؤسسات الحكم المحلي ومنظمات المجتمع المدني وأحيانا بلغ الأمر إلى إلغاء الاختلاف. إن الاختلاف لا يلغي التضامن، ولا يتناقض مع مساندة قرارات الحكومات لما تكون صائبة. كما أن الاصغاء للمقاربات المختلفة لا يشكك في ضرورة القضاء على الحائجة. بل بالعكس، إن الحكومات التي استمعت إلى الآراء المختلفة هي التي تمكنت من تقديم مقاربات جديدة قادت إلى تغيير ما كان معمول به. وعلى سبيل المثال، نذكر الرأي العلمي القائل إن الفيروس يؤدي لتخثر الدم أولا، وليس إتلاف أنسجة الرئة كما كان الاعتقاد من قبل. وكذلك الأمر بالنسبة لاستعمال أدوية دون أخرى. وفي مجال الحد من انتشار الفيروس، تمكنت البلديات التي تدبر ملف الصحة بالكامل من تحقيق نتائج مذهلة بحكم سياسة القرب. وحدث هذا في دول عرفت انتشارا كبيرا للجائحة، لكن مدنا صغرى تمكنت من حماية مواطنيها ولم تسجل أية حالة بالرغم من تواجدها في قلب الإعصار. هذه الآراء لم يكن مرحبا بها، لكن أصحابها أصروا عليها وأقنعوا بها، فتحولت إلى سياسات قائمة. لست متفائلا بأن صناع القرار سيستفيدون بما يكفي من جائحة كورونا وينتجون سياسات مختلفة تقوم على النهوض بالبيئة، والقضاء على الهشاشة وإقرار سياسات التنمية المستدامة. أغلب صناع القرار قد ينسون الجائحة وينخرطون في العمل من أجل إعادة العالم إلى ما كان عليه، في حين أن ذلك العالم هو الذي جعل الجائحة تداهمنا ونحن شبه عراة. كل العالم "الحر" لم يكن يعطي الأولوية لا للصحة ولا للتعليم ولا للسكن. وخلال الجائحة ظهر أثر الخصاص المهول في هذه المجالات على تعميق التأثير السلبي للحائجة. بدون نظام صحي قوي، وجد الناس أنفسهم يواجهون المرض بوسائل بدائية. وبدون تعميم تكنولوجيا المعلومات في التعليم، وجد تلاميذ أنفسهم مهمشين وغير قادرين على التعلم عن بعد، ناهيك عن الأشخاص في وضعية إعاقة وسكان القرى والمناطق الجبلية. أما بالنسبة للسكن المكتظ وغير الصحي، فقد ضاعف من معاناة الأسر. خلال مرحلة ما بعد الجائحة، سيكون هناك صراع كبير في العالم بين أنصار استمرار الأوضاع على ما هي عليه، والتغيير نحو أفق جديد. أنصار الحلول السهلة سيحاولون نسخ الماضي وإلصاقه على الحاضر. ومصدر تشاؤمي أن الكثير من التكرار لما مضى سيُغلف بمساحيق الجدة ويُزف إلى الجمهور بالطبول. أما منبع تفاؤلي، فهم وهن أنصار التغيير نحو أفق جديد الذين سينخرطون في ورش جديد للإبداع من أجل ابتكار الحلول الذي تؤهل الأمم لتكون أكثر مناعة في مواجهة أية جائحة وأية كارثة طبيعية أو بشرية. ومن بين معالم التغيير الإيجابي المنتظر ما يلي: • اعتماد المقاربة التشاركية في السياسات العمومية وطنيا وجهويا ومحليا؛ • النهوض بسياسات ومؤسسات الحماية الاجتماعية وحمايتها؛ • نهج سياسات بيئية مندمجة والتزام الحكومات باعتماد خطط استراتيجية ملموسة في الموضوع؛ • تعزيز الحكم المحلي وتمكين مؤسساته من الإدارة الكاملة للصحة والسكن والتعليم؛ • تقوية مؤسسات الوساطة الاجتماعية وخصوصا المجتمع المدني؛ • النهوض بالتربية المدنية وحقوق الإنسان؛ • تقوية أكبر للشفافية والمحاسبة؛ • الاستفادة من الدروس المباشرة للجائحة وأهمها: - اعتماد مقاربات جديدة لسياسات الصحة والتعليم والسكن وأن تكون أولوية في المجتمعات؛ - ضمان تسجيل كل مواطنة ومواطن في نظام للحماية الاجتماعية حتى لا تجد الحكومات نفسها مطالبة أن تدفع لتغطية تكاليف عيش ذوي الحاجة؛ - تطوير استراتيجيات فعالة لتعميم استعمال التكنولوجيات والتعميم الواسع للمعلومات؛ - الانخراط في مسار العمل عن بعد وتحرير بلايين الدولارات المرتهنة في عقارات تستعمل مكاتب لإدارات عمومية يمكن التخلص منها وتحويل أموالها إلى ميزانيات الاستثمار؛ - التعليم والتكوين عن بعد، وإعادة النظر في الزمن المدرسي أو زمن التكوين لصالح الفعالية والترشيد. هذه العناصر مجتمعة تشكل معالم أساسية لدولة الرفاهية الاجتماعية. وفي عالم ما بعد كورونا، الذي يجب أن يكون مختلفا تماما عن عالم ما قبلها، يجب أن نسير في هذا الاتجاه وأن يصبح الهدف الأساسي هو أن تكون لدينا دول قائمة على سلطة العلم في كل المجالات من أجل إنتاج الرفاهية الاجتماعية المتمحورة حول الإنسان والقائمة على حماية البيئة بطرق مستدامة. ستكون الصراعات الاجتماعية المقبلة بين أنصار الاستفادة من دروس الجائحة، والنزعة التي ستتمسك بما سيصبح ماضيا وستعمل على استنساخه باستمرار، وهذان هما الوجهان الجديدان لأنصار التقدم وأنصار المحافظة خلال مرحلة ما بعد كورونا. *خبير في الحكامة الديمقراطية والسياسات العمومية