يبدو الكلام في المبتغى والمعنى من الحياة.. للوهلة الأولى ترفاً لغوياً أو زينة لفظية لا يجذب انتباه الكثيرين لمتابعة القراءة، لكن امتلاك المعنى والسعي لتحقيقه غاية وجودك في هذا الكون الشاسع، ينعكس حتماً على كل مجالات حياتك المختلفة وشكل علاقتك بنفسك وبالآخرين، كذلك يمهد الطريق لمستقبلٍ أكثر ذكاء وتطورًا. تملك نحوه شعوراً طيباً بالمسؤولية وتكون مستعداً لكل ما يخبئه الغد من مفاجآت وتحديات. الحياة مليئة بالأعطاب والمَزالِق والملذات، وبالهزائم والانتصارات، نتعلم منها "الصحيح والخطأ"، ونتذوق من خلالها الجمال والسلام والمحبة عندما ندرك المعنى والمعاني العظيمة في حياتنا وأعمالنا وأفعالنا ونياتنا الخالصة ومن كل شيء يصادفنا في الحياة. فبالمعنى يشعر الإنسان بقيمته وبإنسانيته ويقبل على الحياة يتفاعل ويتجاوب معها، ويحقق التميز والتفرد والسعي نحو تحقيق أهداف تكاد تبلغ في سموها عنان السماء وبافتقاد المعنى يصبح الإنسان مفعما بالكثير من الاضطرابات النفسية والمشكلات، وربما تراوده أفكار الانتحار والتخلص من الحياة. وفي هذا صدد يقول فيكتور إيميل فرانكل، وهو طبيب نفسي نمساوي وأحد مؤسسي العلاج بالمعنى: "لا يوجد شيء في الدنيا، يمكن أن يساعد الإنسان بفاعلية على البقاء حتى في أسوأ الظروف، مثل معرفته بأن هناك معنى في حياته". بعضنا يسير مغمض العينين في دروب الجهل، يترك النفس سادرة هواها لتتلاعب به الأيام، ثم يندب حظه! ويلقي باللوم على القدر عله يرضي ضميره النائم ويبرر عدم إيجاد الظروف المساندة له، يضيع الكثير من الوقت في العتب واللوم على ظروف الحياة واستصعاب كل شيء بالتفنن في خلق الحجج والأعذار الواهية فلن يأتي إلا بالفشل الذريع والسقوط المريع والندم وخيبة الأمل والغرق في سفين الكسل والهاوية، فيخسر كل شيء، ويقف عاجزا عن إدراك المعنى العميق والمؤثر في حياة الإنسان ووجوده وسلوكه. المعنى هو ذاك الشعور العميق والامتلاء التام الذي يجعل كل منا يتذوق طعم الحياة ولذتها في ضيقها واتساعها، في سلبيتها أو إيجابيتها، في الظروف القاسية أو الهبات السعيدة. نعم، لكي ندرك المعنى (أي الجوهر) من حقيقة أدوارنا لا بد أن ندرك الشيء ونقيضه، ندرك الحلو والمر فيه، ندرك ما نحصل عليه وما لا نستطيع الحصول عليه. من خلال ذلك نعرف ونعي قيمة كل شيء، فنقدر الموجود وغير الموجود، أي نكون في حال من الرضا التام وحال من العمل والأمل، لا يعيق حركتنا أي شيء، طالما كانت نظرتنا عميقة جداً وواعية في أمور الحياة. من يستطع أن يستخدم كلاً من العقل والعاطفة في مجاله الصحيح، لا يُطغي العقل المحدود ف أمور أعمق من تفسيرها. ولا يُطغي القلب في العواطف أو المشاعر التي تعتبر أحياناً عائقاً في مسيرتنا في الحياة. يقول الدكتور بكار: "العواطف عمياء لا تملك القدرة على الاختيار والتمييز، والعقل راسم خطط وخرائط عليه أن يوجهها الوجه الصحيحة لهذا من الجيد الاستفادة من كل ما يمتلكه الإنسان من عقل وقلب وتفكير متوازن، والتأمل في حياتنا في فهم المعنى من كل موقف أو دور أو ردود الفعل، أو المسؤوليات التي علينا تجاه أنفسنا والآخرين القريبين من الأهل والأصدقاء والزملاء والمجتمع بأسره". والسر الغائب هو أننا نشكل وحدة كاملة. في سياق واحد، ونسيج واحد لا ينفصل بعضه عن بعض، ولا يتميز بعضه عن بعض. المعنى الحقيقي أن يعرف الفرد دوره المهم والمناسب ومسؤوليته في نضجه وتمام وعيه بهدفه الحقيقي في الحياة وبإعماله سنن القوة والنصر والتمكين في الأرض.. وألا ينتظر من الآخرين أن يكونوا وصايا عليه، بل يعلم أنه المسؤول الأول عن دوره في الحياة، بأن يهذب هذه الروح المتحررة والنقية ويصقل ذوقه ويربي نفسه على القيم النبيلة والمبادئ السامية، ويسعى في تطورها الروحي والعقلي والثقافي والاجتماعي والأخلاقي. لو كل واحد منا يعي دوره العظيم الذي جاء من أجله نزيلاً على هذه الحياة، ولم يتأسف على ماضٍ ولّى وفات ولم يحزن على ألامه وجروحه، أو يسقط على سلبية الظروف والمواقف المزعجة ويبالغ في تقييمها وينظر إليها ولنتائجها نظرةً تشاؤميّة، لأصبح المجتمع نيراً وواعياً وإنسانياً وأكثر حماية وأمانا، وتخلص من اللعبة القديمة التي تتكرر مشاهدها عبر الأزمنة باختلاف المجتمعات وثقافتها، لأنها كلها متشابهة في سلوكها الإنساني، ما عدا المجتمعات المتقدمة في الوعي الداخلي الحقيقي في مفهوم الإنسانية وليس المادية المصنعة والمفتعلة. عندما ندرك نحن - أفراداً - الواجبات الملقاة علينا. معرفة الذات؛ قوتها وضعفها سقطاتها وهفواتها، وندرك الهوّة التي تكون بين ما نظهر وما نخفي، وما نريده وما نستطيعه، من ثمة العمل على تطويرها واحترامها وتقديرها. معرفتنا بذلك يختصر مسافات كبيرة في القدرة على التعامل مع بعضنا برقي وإنسانية بحته، أولها الاحترام والتقدير لكل فرد نصادفه نعرفه أم لا نعرفه، نتفق معه في آرائه أم لا نتفق، لكننا نحترم وجوده معنا، لأننا جسم واحد، كتلة واحدة وجدت على هذه الأرض، لا بد أن تتعاون وتساند بعضها البعض في وحدتها الإنسانية الكبرى. عدم إدراك ذلك هو من يصنع لفرقة والكراهية والعداوة والقطيعة التي بدورها تنهش في كيانا ككل، فتعم الفوضى الإنسانية وتحل محلها قوى الشر والعدوان والغضب والانتقام. لذا قبل أن نطالب الآخرين لا بد أن نطالب أنفسنا أولاً في فهمها واحترامها؛ لأن من يحترم نفسه ويقدرها ويرفعها ويربيها ويهذبها سيعرف كيف يتصرف ويتعامل بذكاء ومرونة مع الغير، سواءً في العمل أم الوظيفة، الأفراد أم الأصدقاء، أو أي شيء في هذه الحياة. بعضنا يرتقي إلى مرحلة متقدمة من النضج الإنساني الفطري، فيحترم ويقدر حتى الطيور والأزهار والأشجار والحيوان الذي يسكن داخل الأرض التي يسير عليها وليس فقط أفرادها.. هذا هو المعنى الحقيقي في إرساء السلام والإخاء والمحبة والتسامح.. إن لكل شيء معنى وجوهر وهدف، غياب هذا المعنى هو ما يشعر به البعض اليوم، عندما نقول غربة الروح عن إدراكها، أو الشعور بالانفصال عن الآخر، أو الشعور بالوحدة الشديدة. كل ذلك مؤشر على أننا افتقدنا المعنى؛ جوهر التواصل والمحبة والتفاعل الحقيقي بين الأفراد والمجموعات، وهذا لا تغطيه الأبنية الضخمة والهياكل الكبيرة، ولا الأرصدة المرتفعة، يغطيه شيء واحد هو جوهرنا الإنساني، الذي - للأسف - بدأ ينزف كثيراً في اختلاف الوحدة الكلية للجنس البشرية في مفهوم قديم وبسيط جداً هو قيمة الإنسان واحترامه. وصيانة كرامته وحماية حريته، وضمان حقوقه، وتوفير أسباب السلامة لبدنه وعقله ونفسه وأحلامه وطموحاته.