شهد العالم اليوم ونشهد معه تاريخا غير تَوقعات الإستراتيجيين الدوليين، وغَير معه أنماط قيود العقل الجمعي لمخلفات جرثومية سابقة، مخلفات فايروسية شلت الإرادة وكبلت العقل، داخل حدود رسمت له عن بعد. ليعيش في دائرة جيتو الاستهلاك لا الإنتاج..هي قواعد ومنظومات فكرية تُدُوٍلت عبر مراحل. لتشحن أدمغتنا إلى درجة التخمة بأن الغرب هو المخلص الوحيد لنا، والمنتشل لكل إخفاقاتنا وفتور إرادتنا، في محيط الجهل والركود والخمول العقلي والنفسي الذي نعيشه.. لما نحاول القراءة والمطالعة وهناك من يقرؤون لنا عن بعد؟ لما نحاول الفهم والإبداع وهناك من يفهم ويبدع ويخترع لنا؟ لما نسأل عن المستقبل ولا قدرة لنا على الإجابة؟ فالغرب كفيل بجواب فاعل، ونحن مختبرات التجارب وضعنا أنفسنا رهن وقيد برمجة تطوير منتوجاته، التعليمية، والفكرية، والتكنولوجية، والبيولوجية المعاصرة. ألم نقتل الإبداع فينا؟ ألم نجرده من عقول أبنائنا؟ ألا نلهث سعيا وبعبث ناعم لإقرار مبدأ الحصانة الكلية بخلاص شامل لما وراء البحار! لنرفعها صاغرين، عن الأرض التي تضمنا وتربينا؟ ألا نرفع هبة الوطن في عيون صغارنا، ونحن نؤطرهم تباعا، بمعادلات اللارتباط بأوطانهم، ونشجعهم على الارتماء في أحضان الوطن الوهمي المخلص!؟ نعم نحن ومن دون وعي منا جردناهم بثقافة ناعمة يومية من أمل إمكانية الاستثمار الإبداعي في بلدهم.. أخبرناهم بهمس في آذانهم، عند حكايات ساعة نومهم، أن الخلاص في العبور نحو الضفة الأخرى، وأن الوطن سيربطنا بكم، كعابري قارات، لصلة رحم مؤقتة إلى حين مراسم دفننا.. برمجنا عقولهم الصغيرة على أن الوطن مقبرة الآباء، ومقبرة المستضعفين، وأن النجاة في هجرة وشتات وتشرد هوياتي معنوي في رحم عابر للقارات. كنت أكبر ويكبر معي الإحساس بالارتباط، بأرض المقبرة التي وصفوها، وأحس أحيانا من فرط هجرة كفاءات ترعرعت معها بأنني تلك الفتاة التي تعيش في بلد مقفر موحش كما تصوره أفلام هولويود، وأن طائرة هيلكوبتر تنزل أمامي كل يوم لتنقل عشرات الحالمين بالنجاة نحو ضفة النجاة وتحقيق الحلم! ومع ذلك كنت مصممة على عدم الجلوس في صالة المغادرة رغم نصح الناصحين. أملي كان كالعديد من أبناء وطني في البقاء، ومحاولة الإبداع والتميز في هذا الوطن، فالحضن وطن، والحماية وطن والهوية وطن، واستنشاق نسيم تمازج عطر ملح المتوسطي والمحيطي وطن. غادر أصدقائي نحو تحقيق حلم العيش في قداس بلدان الخلاص، حصلوا على العيش المريح، والمال الوفير، والسيارات الفارهة، وأدخلوا أبناءهم أحسن الجامعات، عاشوا في شقق وفلل تطل على أجمل وديان وطبيعة خضراء؛ لكن حين أسألهم عن الحياة يقولون هو عيش مريح، لكنه استعباد من نوع جديد، نجري ونتعب ونربح، وننفق كل ما ربحنا في بيت لا يشبهنا، وشوارع لا تشبهنا، ووجوه تتبرم منا.. ومع اتساع البيت والشرفات، نحس بقنط شبيه باختناق..هي غربة وبعد عن الذات، هي علاقات إنسانية افتراضية نحياها بين الجيران عن بعد، لا حميمية فيها ولا روح، نعم حققنا نجاحات علمية، وبنينا أمجادا وعقولا لدول؛ لا تعرفنا لأننا لسنا من رحمها، أهدتنا رحما اصطناعيا، لم يتبن غربتنا لم يحتوينا بحنان أرض التراب الذي غادرناه..! كنت هناك أنصت وأنصت وأنصت لرفاهية طرق عيشهم، لكنني داخليا كنت أعلم أن شيئا ينقصهم، يبحثون عنه ليل نهار، بين الميتروهات، ومحلات التسوق الكبرى، بين القطارات، والطرق السيارة المضاءة ليل نهار، ينقصهم ما لا يوجد في أبهى مقاهي عواصم الإضاءات، الإحساس بنكهة الحياة في عزوة الوطن، ولين حضن الأهل والأحباب. كنت أفسر معاني عباراتهم، التي تتحدث عن رفاهية عيش، لكنه يخلو من عبارة طيبة حياة. وشتان هو الفرق بين المعيشة والحياة، بين "فإن له معيشة ضنكا"، وبين "لنحيينه حياة طيبة".. الوطن حياة، ونحن من نحييه بعقولنا، بإمكاناتنا البسيطة، نجمله، نزينه، نرفع قيمة ترابه إلى أن يصير كغيره من الأوطان. فالحياة وطن والمقبرة وطن، وما بينهما معيشة ضنكا بحرقة الغربة، مهما باعدت المسافات! اليوم ومع أزمة جرثومة لا متناهية الصغر، تعبر بخبث معابر القارات، وتفتك بصمت أعتى دول الخلاص، لتعيدنا إلى استحضار قيمة الأوطان التي تم غسلها من الذاكرة الجمعية، لنعرف قيمة وطننا، وطن حازنا بحضن أم، وحمانا بلهفة أب من تهلكة، أدخلنا إلى البيوت كما تدخل الأم صغارها خوفا عليهم من طوارئ خطر هالك! نعم إنه الوطن الذي عيًرناه بالضعف !! وتنكرنا لتربيته لنا في الصغر، داخل مدارسه وثانوياته، تنكرنا لمستشفياته التي عالجتنا من أمراض الطفولة، تنكرنا للطرقات التي قطعناها نحو المدن لزيارة جداتنا.. ذهبنا ولم نعد، لنصلح بما تعلمناه مناهج مدارسنا القديمة. انصرفنا نحو جني الأرباح والاستثمارات الذاتية، ولم نعد لنلقي نظرة في إمكانية إعادة بناء وتأثيث مستشفيات بأجهزة قد تحييها وتحيي مرضاها، ذهبنا ولم نفكر في إصلاح طرق قطعناها لرؤية جداتنا وعماتنا، وتركنا كل العبء على المهندس بإمكاناته الضئيلة ليبدع، تركناه فوق كاهل البيت الكبير الذي ربانا، وبرمنا عقد اتفاق عودة، بخسارة الروح وجسد هامد، ليكون آخر لقاء لنا البيت الذي جمعنا في الصغر..حولناه إلى مقبرة جماعية متفق على الاستثمار في توسيع رقعة أرضها. ألم يكن الوطن الذي يحرسنا اليوم في حاجة إلى البررة من أبنائه؟ ألم يحزن هذا الوطن من فرط التخلي عنه، عقوقا ومع ذلك يفتح بابه الحاني لاستقبال جثث أبنائه الهامدة! ألم يصبر ويكافح لوحده وبإمكاناته المحدودة لإعادة بناء البيت الكبير، من دون مساهمات من أبنائه الكثر الذين غادروه؟! ألم يحن الوقت لنعبر بجرأة وبثقافة اعتراف، يستحقها المعلم المغربي في المدن والمدارس والجامعات غير النيويوركية والباريسية واللندية، والهارفردية والكومبريجية والسوربونية... يستحقها وهو يكافح لترميم المدارس العتيقة، يرفع الجهل في الجبال والقفار عمن تركوا لمصيرهم المحتوم؟ ألم يحن الوقت للاعتراف بجهد الطبيب الذي يكافح لإعادة إصلاح المستشفيات بما تَوفر له من إمكانات جد ضئيلة، لرفع الألم عن أقربائنا؟.. هؤلاء الأطباء ورغم قلة مؤونة بيتهم الداخلي هم فرسان معركة العدو اليوم، هم شرفاء التضحية في ساحات مستشفيات عمومية تئن من آلام المرضى، ليثبتوا برهم ببيت أسرتهم الكبيرة، يخاطرون بأرواحهم كل دقيقة لحماية أرواح أبناء الوطن. ألم يحن الوقت لترك تفاهات العبث بفيديوهات تكرس الخوف والتذمر من رجال الأمن، للاعتراف بجهودهم الجبارة؟ هؤلاء الذين كان ينظر إليهم على المعابر بعين الريبة، من وجودهم المربك للمرور السريع، هاهم اليوم يحملون أرواحهم فوق أكتافهم يغامرون بحياة أسرهم بإمكانية نقل عدوى خبيثة لهم، ليؤمنوا مدخلنا لبيوتنا، نحو أمان الأمان ليل نهار. ألم يحن الوقت لاقتلاع وهم التنكر للذات؛ والتنكر لمشاريع إحياء الأرض والوطن؟ سؤال قد نطرحه بصوت عال، أين كانت المساهمات في بناء بيتنا الكبير، قبل هذا الجرثوم الكوروني؟ أين غاب العقل والعلم والبرمجة والاستشراف لبلدان التحضر التي احتضنتكم عن حرقة ونفير واستنهاض همم؛ لإنشاء صندوق خاص يُنتفع به وقفا لبناء مدارس ومستشفيات وطرق احتضنتنا في الوطن. قد يجيبني البعض، هي المسؤولية على الوطن يتحملها بمؤسساته لرفع مستوى ترابه.. أقول نعم هي كذلك، لكن البناء الحقيقي يكون بناءً جماعيا فاعلا، باستثمار عقلي مادي معرفي جماعي.. على قلب رجل واحد. فلا عز ولا حضن ولا شرف، ولا كرامة إلا بنسب الوطن. كورونا اليوم جعلتنا نفكك وهم نخبة الحالمة في العيش بأراض إيطالية وإسبانية وفرنسية وصينية ولوسانجيلية أمريكية... رفعت حصانتها وقت الشدائد على مواطنيها، فضلت أسهم اقتصادياتها وتداولاتها المالية الدولية على أرواحهم..لم تضمهم بسرعة للحضن! لتتدارك هول الفاجعة، بعدما ابتلعت الحرب الجرثومية المئات من أبنائها.. لم تنفع المستشفيات المجهزة! ولا التغطيات الصحية المتباهى بها، ولا التعليم المتقدم! ولا رفاهية الحياة! أكثر من سرعة الخوف على احتضان الأبناء وإدخالهم من الشوارع، قبل وقوع الحادث! كم أنت رائع يا وطني، كم أنت جميل اليوم بحبك لأبنائك، كم يسعدنا أن ننتشي اليوم على أغانينا الوطنية لنعيد أيام الزمن الجميل، بانتصارات شعب حكى لنا عنها الآباء. اليوم يحق لنا أن نرفع قبعة الاحترام لحبك لنا، لنبادلك نفس الحب، ونقف معك وطننا الحبيب وقفة أبناء بررة، بقلب واحد وعقل واحد وجيب واحد، وقفة بناء لا تنكر، وقفة احتفال لا دفن بمقابرك، ننشد أنشودة الحب معا، منبت الأحرار، لإعادة الأمل في عقول صغار شتتنا أذهانهم الصغيرة، ومحونا ذاكرتهم التاريخية، وبرمجناهم نحو عبور حتمي لضفاف أخرى، هي عالقة اليوم تحت رحمة الموت. فإلى الذين قضوا زهرة أعمارهم في بناء مجد هذا الوطن، إلى الذين لم يغتروا برواتب عرضت عليهم ليتركوا جيلا يحتكم لجهل مركب بلا رعاية، إلى الذين لم ييئسوا من بهرجة تفاهات صدى الملاعب ولم يأبهوا بثروة مجد صناعة الأنغام، إلى الذين اقتحموا فضاءات العمل رغم العراقيل والصعوبات ونقص الإمكانيات والرفاهية، والاعتراف، إلى كل هؤلاء، فرسان الوطن؛ علماء ومعلمين وأساتذة، وأطباء ومهندسين ورجال أمن وموظفي قطاعات مختلفة، وفلاحين وعمال... اليوم عيدكم، بعد حجز كورونا الصحي العالمي، اليوم تبين عطاؤكم ونجاحكم في بناء نساء ورجال الوطن. واليوم نلتم اعترافا جماعيا واستحققتم تكريما علنيا بأجود الأوسمة الوطنية. فكل الحب لكم ولكافة أبناء هذا الوطن عبر القارات. # كورونا انتصرنا بشهادة اعتراف كنت حجبتها عن الأنظار. *أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن طفيل