معركتان متوازيتان يعيشهما العالم بأسره منذ شهور، بنفس حجم الضرر والألم، بنفس حجم القلق والخوف والتوجس أو ربما أكثر.. الفرق بينهما أن كورونا جائحة جديدة، لقاحها سيعدُه المتخصصون في غضون الشهور المقبلة ثم تختفي، لكن الجائحة "المستترة" بتعبير وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، هي الأخطر والأسوأ إطلاقا.. إنها جائحة العنف والاضطهاد الممارس ضد النساء، العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي بتعبير حقوقي واضح. مَن كان يتوقع أن الحجر الصحي الذي التزمت به حكومات دول العالم لمحاصرة وباء كورونا المستجد، سيفتح المجال أمام تفاقم "وباء" العنف ضد النساء؟ من كان يتوقع أن التباعد الاجتماعي الذي فرضته معظم الدول على مواطنيها سينقلب إلى تقارب من نوع آخر، تقارب موجعٌ ينتِجُ العنف الزوجي بما فيه العنف الجنسي؟ من كان يفكر في أن العزلة التي يعيشها الناس الآن بتداعيات سلبية متفاوتة، ستعيشها المرأة بتداعيات مضاعفة، على المستوى النفسي والأسري والعاطفي والاقتصادي؟ من كان يظن أن المرأة هي أكثر الضحايا في معركة كورونا كما باقي المعارك المستمرة؟ لا أتقاسم هذه الهموم لأنني امرأة، ولكن لأنني أنتصر لحقوق الإنسان، وأرفض العنف القائم على النوع الاجتماعي، سواء أكان امرأة أو رجلا، غير أن الواقع الذي نتابعه لا يصور لنا سوى العنف الممارس ضد المرأة، وأرقام تقارير المؤسسات الرسمية أكبر دليل، بما فيها منظمة الأممالمتحدة. منذ أسابيع قليلة تابعتُ فيديو لامرأة مغربية تصرخ وتبكي أمام كاميرا صحفي، تستنجدُ الجمعيات المدافعة عن حقوق النساء لمساعدتها بعدما طردها زوجها من البيت، والسبب كما تقول: "مكانش كيبغي نمشي نقابل الوالدة ديالي ومني ماتت جرا عليا من الدار، وجرا عليا دابا فهاد الظروف ديال كورونا، وبيناتنا خمسة ديال الوليدات"، وأضافت تفاصيل أخرى لا تكذبها ملامح "القهر" و"الخوف" و"العذاب" البادية على وجهها. تابعتُ كذلك منذ أيام فيديو لامرأة مطلقة اسمها "إيمان الخطيب"، بثته قناة "فرانس 24" في يوميات "امرأة في زمن الجائحة"، تحكي كيف هربت من منزل عائلتها برفقة ابنها، وكيف استطاعت أن ترفض حياة العذاب و"الإرهاب" كما أسمتها، وكل العنف الذي تعرضت له، لتختار مسارا جديدا آمنا لها ولابنها. أنا متأكدة أن إيمان ليست الضحية الوحيدة في العالم، هناك الكثيرات من "إيمان" في مختلف دول العالم، وهناك الكثير من الجلادين المُعتدين، لغتهم هي العنف وشعارهم هو تعنيف المرأة، لأنها –حسب عقيدتهم البالية- الحلقة الأضعف في كل مكان، وهي كذلك الحلقة الأكثر ضعفا في "الحجر الصحي"، ويظنُ الكثير منهم أن الحكومات منشغلة الآن بمحاصرة وباء كورونا، ولن تكلف نفسها الانشغال بالوباء الذي يفاقمونه يوما بعد يوم، ربما يظنون أنهم في عزلة.. هم أحرار في فعل "العنف" و"الاضطهاد" الذي يمارسونه على نسائهم. اليوم، وفي كل مكان، توجد امرأة ضحية، مع ارتفاع متزايد للعنف المنزلي، كما سجله تقرير منظمة الأممالمتحدة للمرأة بالمغرب، إذ تضاعف معدل تعنيف النساء في الصين ثلاث مرات عدد الحالات المبلغ عنها للشرطة خلال فبراير الماضي من هذه السنة مقارنة بالسنة الفارطة. وفي المغرب، يعرف الوسط الزوجي والأسري تفشي العنف بنسبة 52 في المائة، أي 6 مليون امرأة معنفة، حسب تقرير حول انتشار العنف ضد المرأة عام 2019، أنجزته المندوبية السامية للتخطيط. الأرقام مرشحة للارتفاع المهول خلال الحجر الصحي، خصوصا مع صعوبة خروج النساء للتبليغ عن أزواجهن وتقديم شكايات إذا تعلق الأمر بالضرب أو تداعيات أخرى سيئة. الأمر حقيقة مؤلم جدا، كما لو أن آلام النساء لا تؤول إلى النهاية، رغم القوانين التي تردع المُعنِّف وتعاقبه بالجزاء الذي يناسب جريمته. بقدر الفرح الذي أحسست به بعد إطلاق جمعيات نسائية مغربية مجموعة من المنصات الإلكترونية للاستماع للنساء ضحايا العنف خلال الحجر الصحي، وبقدر الاطمئنان الذي أحسست به لحظة توفير أرقام رهن إشارة النساء المعنفات للتواصل مع الجمعيات المختصة في الدفاع عن النساء، بقدر ما أشعر بخيبة كبيرة وبإحباط أكبر، لأنني أعرفُ جيدا أن العنف داخل جدران معدودة وغير آمنة لن يلملمه اتصال هاتفي ولن تشفيه فضفضة نسائية، -هذا إن تمكنت النساء من الاتصال فعلا بالجمعيات المكلفة- ولن تنهيه شكاية هاتفية، لأن تداعيات العنف النفسية والجسدية والجنسية أكبر بكثير.. وأكبر حتى من "نداء السلام" في المنازل الذي وجهه الأمين العام للأمم المتحدة منذ أيام قليلة، إلى دول العالم. وطبعا لا أنسى النساء اللواتي وقعن الطلاق -قسرا- قبل نهاية الحجر الصحي، فقط لأنهن اخترن البقاء ضمن جنود وجنديات هذا الوباء وخدمة الوطن، ومنهن الطبيبات والممرضات على وجه الخصوص. أجد نفسي أتضامن مع أزواجهن الذين رفضوا عملهن في ظل الظروف الصعبة، ولم يصبروا على واجب العناية والاهتمام بأبنائهم في غيابهن، واختاروا تطليقهن بكل سهولة.. أتضامن معهم لأنهم اعترفوا –بجُبن- أن عمل المرأة كله تضحيات وكله نكران للذات، وهو عمل لن يقدر عليه أي رجل، كيفما كان. وفي المقابل أحيي كل رجل شجع زوجته العاملة في القطاع الصحي وغيره، ودعمها من أجل العمل في هذه الظروف الصعبة.. أحييه لأنه انتصر للواجب وليس للأنانية "الذكورية". تضامني مع كل النساء ضحايا العنف الزوجي.. تضامني مع كل النساء اللواتي "يصبرن" على قهر الحياة الزوجية.. تضامني مع كل النساء اللواتي تجندن في سبيل الوطن.. تضامني مع كل امرأة قُدِّر عليها أن تكون ضحية.. وهُن كثيرات، أقول لهن: لا تصمتن، وإن غدا لناظره قريب..