من أجل إنقاذ حياة المصابين بأخطر أوبئة العصر، المسمى فيروس كورونا المستجد "كوفيد -19" الذي اجتاح بلدان العالم. وبينما أرواح آلاف الضحايا تتساقط وضمنها أرواح الأطباء أثناء قيامهم بواجبهم المهني والإنساني، استرعت انتباهي أخبار عن إقدام كل من رئيس الوزراء الإيرلندي "ليو فاردكارد" وملكة جمال بريطانيا "بهاشا موخرجي" على الالتحاق بهيئة الصحة في بلديهما، باعتبارهما طبيبين سابقين، تعبيرا منهما عن روح المواطنة والتضامن في مكافحة الوباء. والطب من العلوم التي يعتمد فيها على ممارسة علاج مختلف الأمراض والأوبئة، وهو من المهن الرائدة في العصر الحديث، يزاولها كل شخص مؤهل لإسعاف المرضى عبر تشخيص المرض والوقاية منه، مستعينا في ذلك باستخدام أحدث الوسائل والتقنيات العلاجية مثل الأدوية والعمليات الجراحية. ويتعين على الطبيب أن يكون ذا إلمام واسع بمجال اشتغاله ومتميزا بمجموعة من الخصال الحميدة والأخلاقيات المهنية، من حيث الحكمة والصبر والتواصل والمرونة والرحمة والصدق والحرص الشديد على صحة وسكينة مرضاه... فتخصيص "ليو فاردكارد" يوما في الأسبوع للعمل إلى جانب الأطباء، وتخلي ملكة جمال إنجلترا "بهاشا موخرجي" عن لقبها والعودة لممارسة مهنتها الأصلية في هذه الظروف الحرجة، لا يمكن اعتباره إلا درسا بليغا في انتصار القيم الأخلاقية النبيلة على الشهرة والمال والنفوذ لدى من تستوطن قلوبهم الرحمة وتسكن أعماقهم الإنسانية، إذ آثر ليو وبهاشا وضع خدماتهما الطبية رهن إشارة هيئة الخدمات الصحية والمساهمة بما لهما من تجارب وخبرة في المجال، على عكس ما نراه عندنا من أطباء انخرطوا في العمل السياسي دون أن يكونوا قادرين على حل مشاكل البلاد والعباد الصحية والاجتماعية، أغرتهم المناصب وتنكروا لمهنتهم الشريفة، بعد أن استمرؤوا حياة البذخ والترف والاغتراف من آبار الريع، مرجحين مصالحهم الذاتية والحزبية الضيقة على المصلحة العليا للوطن... بيد أن هذا لا ينفي أن لنا جيشا من الأطباء الشرفاء لهم حضور بارز على عدة أصعدة وطنية ودولية، نبغ منهم الكثيرون خلال المناظرات الدولية ونالوا أعلى المراتب، لما عرف عنهم من اجتهاد في مجال العلوم والأبحاث الطبية والصيدلة والجراحة، رغم ما تعرفه البلاد من غياب استراتيجية وطنية واضحة في مجال البحث العلمي وهزالة ميزانيته وضعف الوسائل والتجهيزات. فهم لا يتأخرون في الاستجابة لنداء الوطن لا سيما في أحلك الظروف وخلال اشتداد الأزمات الصحية الخانقة، كما هو الحال اليوم أمام هذه الجائحة التي قضت مضاجع العلماء المتخصصين، في البحث عن لقاح مضاد يخلص البشرية من تداعياتها الوخيمة. ولا أدل على ذلك أكثر مما تبثه القنوات التلفزيونية من صور حية عن أطبائنا المدنيين والعسكريين وهم يحاربون بشراسة "كوفيد -19"، مؤمنين بقدرتهم على تحقيق النصر مهما كلفهم الأمر من تضحيات جسيمة، يبكون بحرقة على البعد عن أفراد أسرهم والخوف عليهم من العدوى، ويفرحون كما لم يفرحوا من قبل كلما تماثل للشفاء بعض مرضاهم هنا وهناك. فهؤلاء النساء والرجال لا يرعبهم الموت في منازلة الوباء، ما داموا يفضلون الاستشهاد في سبيل الواجب على التخاذل والجبن، وإلا ما كان ليعود بعضهم إلى العمل بعد تقاعدهم، رغم ما تتوارد عليهم من أخبار مؤلمة عن مصرع الكثيرين منهم في مختلف بقاع العالم. إذ حتى حدود يوم الخميس 9 أبريل 2020، فقد المغرب ثلاثة من زملائهم جراء إصابتهم بالفيروس اللعين، حيث أنه في ظرف أسبوعين فقط انتقل إلى جوار ربهم كل من الدكتورة أصياد مريم والدكتور عمران رويمي من مدينة الدارالبيضاء، والدكتور نور الدين بن يحيى من مدينة مكناس، رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته. ففي الوقت الذي يقبع فيه ملايين الأشخاص داخل مساكنهم يترقبون بشوق لحظة الإفراج عنهم، يخوض آلاف الأطباء والممرضين والمخبريين والمنظفين عبر العالم، معركتهم الطاحنة ضد الفيروس القاتل "كوفيد -19"، إذ كشف تلاحق الأحداث بالمراكز الصحية والاستشفائية عن حجم معاناتهم، وصراعاتهم المريرة مع هذا الوباء السريع الانتشار، يقاتلون بكل ما أوتوا من قوة من أجلنا جميعا، يوصلون الليل بالنهار غير مكترثين بالجوع والعطش، ولا بما يتلقونه من أنباء موجعة عن سقوط الكثيرين منهم على خط المواجهة الأمامي. إذ هناك من يفرضون على أنفسهم حجرا صحيا صارما خارج بيوتهم ويكتفون بالتواصل مع أفراد أسرهم عبر الهاتف ومنصات التواصل الاجتماعي، معتبرين أنفسهم في حرب مقدسة ضد عدو هلامي لا ينبغي الاستهانة بخطورته... إننا بكل تأكيد أمام معركة ضارية يخوضها كافة المغاربة باستبسال، وفي طليعتهم الأطقم الطبية والتمريضية بمختلف المستشفيات المدنية والعسكرية ببلادنا، التي أبانت عن علو همتها وحسن بلائها في مواجهة خصم عنيد، استطاع في ظرف وجيز تخريب منظومات صحية جد متطورة، مستفيدة في ذلك مما تراكم لديها من خبرة في معاركها السابقة ضد الأمراض والأوبئة وسواها بوسائلها الجد محدودة. وإذ نترحم هنا على شهدائنا، فإننا نرفع القبعة لجنود الخفاء على جهودهم الجبارة التي تظل مسجلة بمداد من الفخر في صفحات التاريخ، وندعو سائر المواطنين إلى المزيد من التعبئة والانضباط للتعليمات الوقائية والالتزام بالحجر الصحي، وأن تستخلص الدولة العبرة من هذا الوباء في إيلاء القطاع الصحي وغيره من القطاعات الاجتماعية العناية الضرورية في سياساتها العمومية.