الحقيقة الحتمية الوحيدة التي نعيشها اليوم هي أن هذا العالم سيتغير ولن يعود كما كان، فكل تفاصيله على وشك الانهيار وإعادة البناء، لذلك فإنه من باب المجازفة العلمية والفكرية طرح أي خلاصات نهائية أو استنتاجات قطعية لواقع عالمي مضطرب يعيش على إيقاع موجات من التحولات والانقلابات المعرفية والاقتصادية والقطائع الإبستمولوجية، فكل ما يمكن أن يطرحه الاجتهاد البشري اليوم يستدعي الانطلاق من فرضيات واحتمالات، ويجب على العالم انتظار اختفاء فيروسCOVID 19، وصناعة الأدوية المضادة له وطرحها بالسوق الدولية لكي تتحقق. إذا كيف سيكون العالم بعد القضاء على فيروس كورونا، هل سيكون عالما أقل حروبا وأكثر إنسانية، أم عالما أقل انفتاحا وأقل عدلا وأقل حرية وأقل إنسانية.... هل ستعيد الحكومات والأنظمة السياسية التي هزمها الفيروس النظر في أولوياتها واختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلاقاتها الدولية؟ هل يمكن اعتبار هزيمة أمريكا أمام الفيروس إعلان مباشر بانتقال مركز العالم وقيادته من أمريكا إلى الصين؟ وهل ستكون عوامل العزلة الاقتصادية المفروضة والإجراءات الصحية الصارمة وسياسة غلق الحدود من عوامل بروز وعودة القوميات والسلطوية الى الديمقراطيات التقليدية؟ وهل يشكل عودة نظام دولة الرعاية الاجتماعية إلى العديد من الدول التي تعيش لحظات الانتقالات الديمقراطية فرصة تاريخية للانتقال السريع إلى الديمقراطية الحقيقية عبر ضمان الحقوق والحريات التي تتأسس عليها منظومة الديمقراطية الاجتماعية ونظام الرعاية الاجتماعية الذي أصبح خيارا عالميا لا رجعة فيها. بسبب تفشي وباء كورونا عبر أرجاء العالم تحول الشعار الشهير لآدم سميث "دعه يمر، دعه يعمل (Laissez passer, Laissez faire) إلى شعار آخر أكثر مأساوية "ابقى في بيتك، ومُتْ في بيتك" (rester chez sois, mourir chez soi). . وجعل أكبر عواصم العالم مدنا أشباحا فارغة، بعد أن كانت فضاءات تعج بالحياة والنشاط الإنساني بكل أوجهه وأشكاله، ولعل من مكر التاريخ أن يتحول النظام الرأسمالي كنظام اقتصادي إلى أفضل بيئة حاضنة لفيروس كورونا مستفيدا من أسواقها وامتيازاتها وتسهيلاتها وسلعها العابرة للجغرافيا وللشعوب وللأفراد، فقد ظهر الفيروس لأول مرة في الصين ثم انتشار بعد أسابيع قليلة في كل بقاع العالم، فسياسة دعه يعمل دعه يمر تشمل حتى الفيروسات. وأمام الأزمة الوبائية الخطيرة لهدا الفيروس، انهارت أقوى الأنظمة الصحية في العالم (فرنسا، إسبانيا، الولاياتالمتحدةالأمريكية، إيطاليا، بريطانيا)، ووضعت أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية موضع ضعف وشك وعجز خطير سيجعلها تعيد التفكير في مقومات وأسس أنظمتها الصحية والاجتماعية وسياساتها العمومية في مجال الرعاية الاجتماعية، كما أن هاته الأزمة الوبائية ستكون سببا في بروز أسئلة سياسية عميقة مرتبطة بفعالية الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لعدد كبير من الدول والحكومات التي عجزت عن محاصرة الوباء، وكذلك التي نجحت نسبيا في تجنب النتائج الكارثية، لذلك فإن الفيروس القاتل جعل الإنسانية في حالة من الشك واللايقين شملت جملة من الحقائق وبعض المسلمات العلمية، وكذلك فعالية الأنظمة الاقتصادية والقيم الاجتماعية، ونظم العلاقات الدولية وقوانين الحياة الدولية، وأولويات السياسات العمومية، والقرار السياسي لجل الأنظمة السياسية. وأصبح العالم أمام اختبارات حقيقية، مرتبطة بالعجز المؤسساتي وانهيار قيم التضامن الدولي وهشاشة المؤسسات الدولية والإقليمية الاتحاد الأوربي، الأممالمتحدة، حلف الناتو، دول التعاون الخليجي، مجموعة العشرين وهي كلها مؤشرات تحيل إلى نهاية الصيغة الأولى للعولمة في شكلها الأمريكي وانتقالها إلى الصين كمركز جديد للعالم والقوة، وهو تغيير بدأ بالفعل قبل ظهور الفيروس غير أنه تحقق بالشكل الواضح مع الحديث عن نجاح الصين في السيطرة على القضاء على الفيروس وفشل المنظومة الأمريكية بشكل ذريع في ذلك.