علمتنا كورونا ألا نثقَ في المستقبل أكثر من اللازم... أن نَعيشَ اللحظة الراهنة، دون اكتراث لما قد ولى... ولا حتى لما هو آت... فما قبلَها ليس كما بعدَها... وما بعدها بات بحد ذاته أقصى أمانينا، مهما كانت مَعالمُه... كالكابوس المُقْرِفِ تَسعَدُ بالاستفاقة منه ولو على واقع مُرّ... علمتنا كورونا أن نحمدَ اللهَ على كل تلك النعم التي لم نكن نُلقي لها بالا... كأن تَهمِسَ في أذن من تريد دون أن تخشى الاقتراب... وكأن تُقبِّل أطفالَك بمجرد الولوج إلى البيت... وكأن تعانق الأحبة بعد طول غياب... علمتنا كورونا أن نُقدِّرَ ما كان بأيدينا حَقَّ قَدرِه... أن نَتُوقَ إلى جلال القرب من الخالق في المساجد... وإلى جمال نُزهة الشِّواء وسط أشجار الغابات... وإلى الجلوس لتأمل الغروب في الشواطئ... وإلى الخروج وقتما حلا لنا، حتى دون أن نعرف إلى أين... علمتنا... أن الحرية قبل أن تكون بذلك التعقيد المثير للجدل هي مجرد أسلوب فطري في الحياة... علمتنا كورونا أن نهُبَّ عن بَكْرَة أبينا لإنقاذ الوطن... تلك السفينة التي تحملنا جميعا... ولو بمجرد المكوث في البيوت... ولو بالبسمة على مُحَيَّانا في الصباح، ونحن نستقبل يوما جديدا في الحجر... ولو بقليل تقشف يُسهم في تأخير الاضطرار للخروج... علمتنا كورونا أن نُعيدَ ترتيب أوراقنا... أن ننظر بمنظار آخر لأهمية تعليم أولادنا... ذلك الورش العظيم الذي به سنبني وطن الغد... ونستعد لكل طارئ ومستجدّ... وأن نتصالح مع مستشفياتنا ومرافق صحتنا... تلك الأماكن التي كنا نعتقد أنها لم تُبنَ إلا للآخرين... بِوَهْم دوام العافية... أو بِوَهْمِ أنها ليست أولوية... أو بِوَهْمِ أننا - كأمة عليها أن تحترم آدمية إنسانها - مُخَيَّرُون في ذلك... أو حتى بِوَهْمِ أننا لا نملك الثمن لذلك... علمتنا كورونا أن نلتفتَ إلى ضعفائِنا... أولئك القابعين في الدرك الأسفل من السفينة... نُلَمْلِم جِراحَهم... ونعينهم على نوائب الدهر... ونشاطرهم قطعا من الكعكة... ليس تفضلا ولا تَمَنُّناً منا... ولكن لسابق تفريطِنا في تعليمهم اصطياد السمكة... واكتفائِنا - في أحسن الأحوال - بالإمعان في إذلالهم بقُفَفِ الهوان... علمتنا كورونا أن نبصر احتياجَنا لسياسيين ومسؤولين يخاطبوننا بصدق النزهاء... ويشرحون لنا بأمانة حدود طاقة الوطن... ويضربون لنا الأمثال من حال أنفسهم، قبل أن يخاطبونا بألسنتهم... ويتذكرون دائما أننا مواطنون جديرون بالاحترام حتى ونحن نخطئ بعدم الامتثال للأوامر.... علمتنا كورونا أن نَذكُر َعُتُوَّنا وبَطشَنا... وجَوْسَنا خِلال الديار... أن نتَفَقّد المظلومين من أبنائنا... أن نفْتقِدَ ناصرا... وتوفيقا... وحميدا... الرجالَ الذين لم يقترفوا جُرْماً غيرَ أنهم أسقطوا ورقة التوت عن عوراتِنا... قبل أن تُسقطَها كورونا... [email protected]