الصمت في كل مكان، والفعل المحرك للدورة الاقتصادية وللعلاقات الاجتماعية في الوقت الراهن في حالة سكون استثناء، ليفسح المجال "للفكر"، للفلسفة، وللتدبر، من أجل محاصرة الخطر، خطر الفراغ. وكما يقول عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر Henri Lefebvre في مؤلفه "إنتاج المجال"، وهو يؤسس لنظرة جديدة لعلاقة الإنسان بالتراب، ما مضمونه وبتلخيص شديد: "ينتصر التصور le conçu على المُعاش le vécu، فيمارس عليه السيطرة، une domination، وبدون حدود، في وقت تسكن الأحاسيس النفوس perçu، التي قد تطفو على السطح في الوقت المناسب". فالسيطرة بحسب لوفيفر هي علاقة rapport، تنجلي في الطريقة التي تفرض بها التصورات على الواقع السوسيو مجالي والثقافي، والسياسي، في علاقة مع تحول قيمة المجال نفسه، من قيمة الاستعمال valeur d'usage، لقيمة التداول valeur d'échange. وإذا كان من المفروض للحياة السليمة المتوازنة أن تُعاش بالفكر وبالفعل معاً، كما تقول الفيلسوفة والباحثة في السياسة هانه أرند Hannah Arendt، فالظروف التي تعيشها البشرية هنا والآن، يفرض عليها فيروس كورونا المستجد، العودة للتدبر، مع المكوث بالبيت، لأن التعليمات صارمة جداًّ. كُتب على البشرية قاطبة أن تدخل في وقت واحد ودقيق من تاريخها، أن تدخل لحجرة الدرس الجماعي، لتختبر قدرتها على تحمل الحجر الصحي، وتتحمل الفراغ، وخصوصا الصمت، وهي فرصة لتجدد نظرتها للذات وللآخر. 1) العودة الاضطرارية للذات وللبيت: عاد الإنسان في لحظة واحدة لزمن ضنه اختفى، هو زمن اكتشافه للنار الذي يعود ل 400 ألف سنة، للكانون العائلي feu=foyer، لأن المنافذ بالخارج أغلقت، شريطة الإدلاء بالرخصة، لقد استحال مع حالة الطوارئ الاقتراب من الآخر، واستحالت مع الفيروس المصافحة باليد وبالوجه، وغابت فجأة الثرثرة. العودة للبيت la maison مطبوعة بدلالة الدفء، بوجود أعمدة الخيمة، وهما يجسدان ثنائية غريزة الأم، فالجنة تحت أقدامها طبعا، والحاجة للمطبخ ضرورة، أي "النار" أو "الكانون"، والبيت برمزية اجتماعية يعكسها تصالح الإنسان مع هذا الفضاء، ومع الذات Home=Homme. في هذه الظرفية بالذات استرجع المنزل مكانته بوجود الخوف خارجه، والآتي من الغريب étranger، على حد قول الكاتب ألبير كامي Albert Camus، وهو يروي انتشار الطاعون بمدينة وهران. الفزع المنتشر في كل مكان عزز من سلطة الدار، وخول لها الانبعاث، فاستعادت مكانتها المفقودة ولو مرحليا، والتي كادت أن تضيع. الجنود العائدون من المعارك المُميتة يعرفون جيداً معنى العودة للبيت، لأن ميدان المعارك لا ينطق إلا بصرخة الحق ""return at home، والدارجة المغربية مشبعة هي الأخرى بالمعاني المرتبطة بقدسية البيت وبقيمة العودة للذات؛ "ولد الزنقة" في مقابل "بنت دارهم"، و"الخبز ديال الدار" في مقابل "المكلة ديال الزنقة"، والتمثلات كثيرة في هذا الباب، ولا حصر لها. وركزت المفاهيم الفلسفية على مثل هذه الثنائيات على سبيل المثال لا الحصر: "الداخل" مع نقيضه "الخارج" ما يعبر عنه بالفرنسية dedans"..." "dehors" vs "clos" vs "l'ouvert"، كما تداولها الفيلسوف برغسون، وهو يتغذى من ما سبقه من الفلاسفة كسبينوزا وغيره، وهم جميعا يتغذون من أفكار بعضهم البعض، والمصدر الحقيقي للفكر هو الميدان الاجتماعي مع حضور الكتاب، ووجود الصمت، بشهادة كانط، نيتشه، بروست.... والقائمة طويلة. حقيقة كادت المطابخ أن تُغلق لأن سكان المعمور شرعوا في تناول وجباتهم بالمطاعم بالشارع العام، لكن هذه الأزمة أعادتهم للبيت، ففُتحت الأبواب على مصراعيها للرجال قبل النساء، للغرب قبل الشرق وبدون استثناء. يقول علماء الأنتربولوجيا عن المنزل، خاصة مع كتابات الباحث لفي ستروس Claude_Lévi Strauss، هو السقف toit، يجسد اطمئنان الإنسان للأعلى، للخالق؛ يُفتح المنزل على الخارج بنوافذ وبطاقة، والطاقة عند سكان الجبل بشمال المغرب هي نافذة، وكذلك هي الطَّاقة énergie، والسقف كذلك هي مادة مكونة من القش، كانت إلى وقت قريب تغطى بها البيوت بالقرى. في مثل هذه الحالات الاستثنائية يتوقف المختصون عن التنظير لأن الواقع يقدم الدروس بسخاء، وسكان المعمور، أي ما يزيد عن سبعة ملايير نسمة، منضبطون وينصتون في هذه الأثناء لدواتهم وللطبيعة، تفصلهم مسافات عن بعضهم البعض. 2) هل اختفت المسافة أم انبعثت من جديد؟ في خضم أحداث انتشار فيروس كورونا المستجد بالعالم، استطاعت التكنولوجيا أن تطفو على الواجهة لتربط الجنس البشري بعضه ببعض، وبتشبيك قوي، حتى وإن فرض عليه الالتزام بالمكوث في البيت، وترك مسافة أمتار بينه وبين الآخر عند ضرورة الخروج. استطاعت التكنولوجيا كوسيلة أوجدها الإنسان أن تقوم مقامه، وتنوب عنه، وخدماتها لا تحتاج للدليل. وعندما تقلصت المسافة بفعل سحر الانترنت، ابتعدت اليد كذلك عن ممارسة وظائفها الطبيعية، فابتعد الإنسان عن أخيه، بل ابتعدت اليد عن الجسد نفسه، وأصبح الأصبع لوحده يقوم بكل شيء؛ يطلب، ويوقع، ويكتب، ويتصفح مئات الملفات الرقمية...، ومازال بإمكانه أن ينطق بالشهادة. وجذور الرقمنة أو ديجيتال digital على مستوى الإتيمولوجي للكلمة فهي من digitum، يعني باللاتينية الأصبع doigt، "qui se rapporte aux doigts". دخلت العين في صراع قوي مع اليد في زمن الصورة والتكنولوجيا، وتكاد تقطعها من دون شفقة، باستثناء الأصبع الذي يقاوم حتى آخر نفس. كورونا هي كذلك معركة المرئي ضد اللامرئي Le visible contre l'invisible، فالموت لا يأتي فجأة على حد قول الفلاسفة، ففي كل يوم يموت من الإنسان شيء معين، والهوية الشخصية تندحر على وقع نظرة بسيطة على المرآة، وكما يقول هيدغر: «Dès qu'un humain vient à la vie, déjà il est assez vieux pour mourir ». المسافة جعلت الإنسان يقطع العلاقة بالخارج، والخارج الفعلي بالمعنى السوسيولوجي للمفهوم هو الساحة العمومية، espace public، حيث تقام المسرحيات، La mise en scène، وتُمارسُ السياسة، وتفتح الأفواه للنطق بالكلمات. وعموما فالثرثرة bavardage ما هي إلا وسيلة لنسيان الموت، ليس إلا، على حد تعبير الفيلسوف هيدغر، والتواجد في الفضاء العمومي في حد ذاته ترجمة للرغبة في التنكر وإخفاء الهوية anonymat، والحاجة للحرية دون مراقبة. عند الرجوع للبيت تسقط الأقنعة، ولا يمكن للإنسان أن يزاول حقه في التمثيل، في التنكر، وفي الحرية. وفي غياب حق ممارسة النشاط الحيوي والاجتماعي بساحة المدينة، تصبح العودة للحياة في القرية أرحم لأن فضاءها مفتوح حتى وإن كانت حياة الفرد مراقبة وتحت سيطرة العقل الجمعي. ظل سكان القرية دائما يرغبون في الهجرة للمدينة، وعلى حد قول الجغرافي المغربي محمد الناصري: "تصبح المدينة مرغوبة للحاجة لإخفاء الهوية"، وتُطلقُ كلمة المدينة رمزيا على المقبرة، كتعبير مزدوج؛ الخوف من الموت من جهة، ومن جهة أخرى "الرغبة في المدينة"، أو ما اصطلح عليه ب Désir de ville. الآن وفي ظل الأزمة، فالساحة بالمدينة فارغة، وفراغها يخيف، هو اللاحوار بعينه، الكلمة الآن للصرامة، بنزول الجيش للشارع، لأن الأمر يتعلق بالحفاظ على الجنس البشري من الانقراض. بنزول الجيش للشارع، ووضع المتاريس يُرفع الحق في ممارسة إخفاء الهوية anonymat؛ وتنتفي بصفة استثنائية الذات، لأن المواطن معرض للمساءلة في حالة خروجه، وعلى طول المحاور الطرقية، عليه أن يثبت من هو، وبالدليل، بل برخصة كذلك، بمعنى اختفاء الحياة العمومية في ظرفية خاصة. اعتبر نقاد السينما بأن "السينما الصامتة" هي اللغة الكونية التي يفهما الجميع وعليها أن تسود، ربما كانوا على حق، والشهادة للفيلسوف المعاصر جيل دولوز Gilles Deleuze، الآن البشرية تتحاور فيما بين أجناسها المختلفة عن طريق الصمت، والصبر، والصلاة، والصوم؛ الصمت الذي كسر الحدود الحسية ليفتحها على الميتافيزيقا من جديد. في خضم هذه الأحداث السريعة، والتي تهدد البشر وليس الحجر، فالدول لن يكون لها وجود إلا بوجود الشعوب، فالقلق يُسيطر على الجميع، بالأمس القريب تابعت الأممالمتحدة، وبقلق شديد المخاطر التي تواجهها بعض الجزر بسبب ارتفاع نسبة مياه البحر على اليابسة نتيجة الاحتباس الحراري، مما سيدفع أهاليها للبحث عن أراضي جديدة، حاليا النقيض هو الذي قد يحصل، قد تنقرض الشعوب وتبقى الأرض فارغة من دون سكان. البيت هو الملجأ للاستراحة، والأكل، والنوم، لكن الصمت يفرض طقوسه الصارمة، فتُغلق الأفواه بشكل تلقائي، تستعمل مجازيا لغة أخرى analogique، شبيهة بصوت الحيوانات، كتعبير عن قبول الخضوع للسلطة acceptation d'être dominé، وفي مثل هذه الظروف تتراجع حرية الفرد وتنفرد السلطة بالقرار، ما يعبر عنه في السوسيولوجيا وعلم السياسة ب "العنف الرمزي"، Violence légitime، كما تناول ذلك بالدرس والتحليل عالم الاجتماع الأماني ماكس فيبر Max Weber. ليس مطلوب من الأحزاب الكلام في مثل هذه الظروف، فلا قدرة لأحد على الكلام لأن الفضاء العمومي Agora أبوابه مغلقة، في انتظار اللقاح الفعال. اللغة المتداولة هي رموز من جنس البرامج المعلوماتية وتتقلب بين: صفر أو واحد، الالتزام بالبيت (نعم)، الخروج من البيت (لا)، في وقت يصيح الغرب من أوربا للشمال الأمريكي وحال لسانه يقول: "خذوا الحرية في الكلام، خذوا المال، والعدل مقابل الانتصار على الفيروس، هذا الغامض، كوفيد 19". أثبت هذا الفيروس لمن ما يزال يبحث عن الدليل، أن الحياة تجري في العالم الافتراضي، وما نراه بالعين المجردة ليس هو الواقع مطلقا، هي إدراكات وتمثلات فقط، يتعلق الأمر بأحاسيس الحواس الخمس، وبأفكار، وهما معا ليست لهم القدرة لرؤية كوفيد 19، على الأقل في الوقت الراهن. خلاصة القول: بإمكان البشرية أن تصدق وتقتنع بما يراه المتصوفة، الفنانون، والفلاسفة، والشعراء، والحالمون، وبإمكانها أن تثق في العلم ثقة عمياء، وتنتظر عما ستعلنه مختبرات البحث العلمي من مستجد. الحياة العادية جميلة جدا، لكنها سطحية، ومهمة في بساطتها، وسطحيتها ضرورية بحكم أن الإنسان خلق من تراب ويعود إليه، والذي يحرك الإنسان هي الرغبة في الحرية، في التنكر، في التحرر من قيود البيت، ما عبر عنه الباحث الأنتربولوجي مارك أوجي Marc Augé، وعالم الاجتماع يورغان هبرماس Jürgen Habermas بالرغبة في التواجد في فضاء "كل الآخرين" "lieu des autres". عندما اقتربت بعض المخلوقات البرية من نهايتها التجأت مكرهة لتعيش في البحر، وترسل الدلافين، ومنذ مدة طويلة بعض الأصوات للبشرية، لكن لم يستطع العلماء فك شفرتها في الوقت الراهن (أبحاث فريق العمل ريابوف L'équipe du Dr Vyachslav Ryabov)؛ فهل مع توالي الفيروسات المميتة سيضطر الإنسان لمغادرة الأرض مكرها للعيش في المياه البحرية كالحيتان؟ دور الفلسفة كما يقول جيل دولوز هو إيجاد المفاهيم لفهم الواقع البشري المستجد، بينما علماء الكمياء والأحياء دخلوا المختبر ومطالبين بإيجاد اللقاح الفعال للفيروس المسجد. الفهم يؤجل بعد الخروج من الأزمة، أزمة اضطراب الفكر والفعل البشري.