رحل الطاهر الجميعي عن هذه الدنيا، اسم قد لا يعرفه الكثيرون؛ لكنه كان حاضرا في المحطات الأساسية في تاريخ المغرب الراهن، إنه التاريخ المنسي في زمن صناعة الذاكرات. آن للرجل أن يستريح من عناء زمن أضر به، أكثر مما أفاده، ومع ذلك ظل صامدا، مؤمنا باختياراته، ورفض أي تعويض عن "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان". إنه رجل من "زمن الرصاص" أبى أن يموت منكفئا. التقيت الطاهر الجميعي أول مرة في المعرض الدولي للكتاب والنشر في الدارالبيضاء في العام 2010، وكان صحبة المرحوم عثمان بناني. الطاهر الجميعي من صنف متميز من الفاعلين في التاريخ الراهن، بادرني في ذاك اللقاء، ودون مقدمات، لست متفقا معك في ما جاء في مداخلتك حول كتاب سباطة (يحيل هنا إلى قراءة نظمت في الرباط حول مذكرات سباطة: ”كان الأمل حاضرا” الذي رتبه محمد برادة ونشر في العام 2008). كان الطاهر حاضرا في حفل القراءة، لكنه لم يقل شيئا حينها. سألته، بعد أخذ ورد، لماذا لا تكتب مذكراتك؟. كان الطاهر الجميعي غير راض عما نشر عن مرحلة التنظيم السري وليبيا وبنونة وإذاعة صوت التحرير وأحداث مارس 1973، وكان يؤلمه كثيرا "استيلاء" البعض على هذه الأحداث. اتصل بي الطاهر بعد ذلك هاتفيا، وعبر لي عن رغبته في كتابة مذكراته، ونسجت مع الرجل مرحلة جديدة، لم يسلمني فقط ذاكرته الممتلئة بتفاصيل قضايا كثيرة، بل وضع أمامي محفظة كبيرة من الوثائق والمخطوطات ورسائل بخط محمد بنونة والفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي وشخصيات مغربية وقادة فلسطينيين وعرب. وفي أول لقاء تسجيل للمذكرات بالصوت، أدركت لماذا كان عثمان بناني يلح علي في ضرورة الالتقاء بالطاهر الجميعي. الطاهر الجميعي رجل الأنفة والتواضع والوفاء لماضيه ولأصدقائه، كان أيضا قطعيا في مواقفه، صارما من حيث التمسك بالمبادئ التي وهب عمره من أجلها. في مسار الطاهر الجميعي إحالات إلى ثلاث شخصيات أساسية، تردد الحديث عنها كثيرا في مذكراته، وفي فيض دموعه، واختناق كلامه كلما عبر زمنا عصيا مؤلما: محمد بنونة، (محمود)، صديق الطفولة والشباب، الذي اقتسم معه حلم "الثورة"، وكان الفضل الكثير لأرشيف الطاهر الجميعي في قراءة وفهم منعرجات الأحداث المتعلقة بالتنظيم السري، وما كان يذاع في صوت التحرير من ليبيا، والعلاقة مع النظامين الجزائري والليبي. اطلعت على رسائل محمد بنونة إلى الطاهر، ومخطوطاته للمواضيع التي كانت تذاع في برنامج صوت التحرير، واكتشفت حينها تكوين بنونة السياسي، صورة تختلف كليا ما جاء في كتاب ابنه حول "الأب". في هذا السياق، يؤكد الطاهر الجميعي أن الابن وظف (بضم الواو) لتكسير ملامح المرحلة لكي لا يكون للفقيه البصري أثر أو امتداد فيها، وبالخصوص ألا يكون تقارب أو تحالف بين الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي. نجد في رواية الجميعي تفاصيل الخلاف مع بنونة حول افتتاحية في صوت التحرير، وانزعاج القيادة في الخارج من ذلك، قبيل محاولة الانقلاب العسكري في غشت 1972. أرشيف الطاهر الجميعي حول محمد بنونة مرجع مهم لإعادة بناء الأحداث في هذه المرحلة. الفقيه البصري، علاقة الطاهر بالفقيه هي ارتباط وإعجاب بشخص الرجل، أثناء أحاديثنا كان الطاهر الجميعي يؤكد، أنه رغم الأخطاء، خاصة التنظيمية منها، ظل الفقيه البصري محركا للأحداث التاريخية قبل وبعد الاستقلال. وانتقد الطاهر عددا من المواقف للفقيه، خاصة القرارات الفجائية في تعيين ممثلي التنظيم في هذا البلد أو ذاك، وما كان لذلك من أثر سلبي على مسار الأحداث. الفقيه البصري كان يراسل الطاهر كثيرا، في القضايا التنظيمية أو السياسية أو في العلاقات مع القيادات السورية والفلسطينية، علما أن الطاهر ارتبط ب"أبو جهاد"، الذي كشف للطاهر أنه حضر المؤتمر الثالث للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، بتطوان في يوليوز 1958. يحمل أرشيف الطاهر الجميعي أيضا رسائل مخطوطة يشتكي فيها الفقيه البصري قيادة التنظيم الاتحادي. كما تكشف مراسلات الفقيه للطاهر الجميعي مناطق الظل في علاقات اليوسفي بالفقيه البصري بين 1980 و1996، وما كان لحدث عودة اليوسفي إلى المغرب العام 1980 من أثر سلبي على الفقيه. عبد الرحمان اليوسفي، عندما يتحدث الرجل عن اليوسفي، يقول دائما "السي عبد الرحمان". يؤاخذ الطاهر الجميعي كثيرا من المواقف على عبد الرحمان اليوسفي منذ عودته إلى المغرب. انطلاقا من رسائل وبطائق اليوسفي إلى الطاهر، كما اطلعت عليها، كانت العلاقة بين الرجلين جيدة، وتمس المراسلات ما هو شخصي خاص، أو ما تعلق بالقضايا التنظيمية أو السياسية، وطنيا وعربيا. يقول الجميعي إنه عاد إلى المغرب في أكتوبر 1996 بطلب من اليوسفي، معضدا كلامه برسالة منه. يحكي تفاصيل ما بعد العودة، وصدمات مواقف كثيرة ممن كان يعتقد أنهم من الأقرباء. في مذكرات الطاهر الجميعي معطيات ووثائق كذلك حول مسارات عبد الرحمان اليوسفي قبل وبعد العودة إلى المغرب. منذ غشت 2010 إلى مارس 2012، أنجزت مع الطاهر الجميعي ثمان نسخ كاملة من مذكراته، المستندة إلى مئات من الوثائق، المخطوطة بالخصوص؛ لكن هذه المذكرات لم يكتب لها النشر، رغم المجهود المبذول في الصياغة وإعادة الصياغة. وأعتقد أن الأمر يعود إلى سببين، الأول منها هو أن في حياة الطاهر انكسارات كثيرة ومؤلمة وإحباطا من ذوي القربى، خاصة في البيت الاتحادي. كان يؤلمه صناعة الذاكرات التي نعتها بالمزورة، وفي نفس الوقت يميل تجاه نسيان هذا الماضي المؤلم. وثاني السببين هو الأحداث التي جرت منذ مارس 2011 في سوريا، كان الطاهر وفيا لسوريا التي احتضنته وعائلته في زمن انقطع به السبيل. آلمه كثيرا التدمير الذي حل بسوريا، وكان مؤمنا بأن النظام السوري سينتصر في هذه المعركة. مذكرات الطاهر الجميعي ثرية من حيث الوثائق والصلابة في التركيب، فالرجل له مستوى ثقافي وفني ومعرفي كبير، وحاصل على شهادة مهندس دولة من ألمانيا الديمقراطية في الميكانيك في العام 1967. وهي أيضا سيرة معززة بمئات الوثائق، خاصة المخطوط منها حول أحداث مرتبطة بالتنظيم السري وبالفقيه البصري، وبعبد الرحمان اليوسفي، وبصديق الجميعي/ أخيه محمد بنونة (محمود) الذي قتل في ما يعرف بأحداث الأطلس، يوم 5 مارس 1973. في زمن ازدهار الذاكرات وتناقضاتها وحروبها أيضا، كان الطاهر الجميعي يستشيط غيضا وألما. يراسلني عبر الإيمايلات ليحتج عما يصدر ويصرح به في قضايا التاريخ الراهن التي ازدهر الحديث عنها منذ 2002. كان يريد إقناعي ب"حقيقته التاريخية"، بأن تصريح فلان أو كتابة فلان لا علاقة لها بالحدث. لم يكن الطاهر الجميعي فاعلا سياسيا في تاريخ المغرب الراهن فقط، بل كان فنانا، التقطت عدسته صورا للواقع المغربي، تعكس في الوقت نفسه شخصه، صور انكسارات المجتمع وأمل الألوان التي تعج بها جل صوره التي تجمع بين مرارة الواقع وأفق المستقبل.