فوبيا سيور أحذية، أو يرابطُ في مناجاةِ والدةٍ لحفيد، وفي قبلةٍ بين شفتيْ معشوقةٍ وأنفاسِ عشيق، وها عدمٌ مثل سنّارةٍ في عمقِ المحيط بطعْمِ الدّم، يكمُنُ للقُرْشِ اليوميّ في ديوان شعرٍ يحلّقُ عالياً، في مزلاج بابِ بيت، مفتاحِ سيارة، مثل فيروس يصيبُ الحاسوبَ بالخَبَلِ، يكمنُ للعقلِ العالقِ في عُنْقِ زُجاجة في زرّ مصباح، في لوحةِ هاتفٍ محمول، يكمن لربطةِ عنقٍ حمراءَ لاهثة يُحكمُ ربْطَها بقُمقمٍ فيهِ ترِنّ بضْعُ قطعٍ نقدية، تشعلُ زوبعةً بين تاجرِ جائِحَةٍ وبينَ ضحيّة.. صهْلَةٌ تقتلُ فيلا يا عجَباً، مجرّةٌ تُزلزلُها موجَةٌ كم كان يصفعُها جندلٌ وما كان يحرّكُ سوسنَها زلزالْ، ما أتفهَ كبرياءَكَ يا فيلاً تهزمُهُ صهْلةُ قنّاصٍ لامرئيّ، وما كانتْ تحرّكُ خَطْمَكَ عاصفَة. ما أعظمَها هشاشَةً أطرافُها تتّسعُ وأنيابُها تطولُ وتسحقُ يانعاً ويابسا... إيقاع واهن لهذا الزّمنِ مذاقٌ مُرٌّ بصمتٍ يلملمُ طبْلَتَهُ والعَصَوَيْنْ ويترُكُ الرّكْحَ مهجوراً بين يمٍّ وغابةٍ وجبلِ لشبَحٍ يُقيمُ في الرّئتينْ، يُدَوْزِنُ إيقاعاً واهناً لم تعرفْ مثلَهُ حربٌ يخلخلُ يقيناً أخطأهُ الحدْسُ: حزنٌ يركبُ الغضبا يلهبُهُ أملٌ خجولٌ لا يتخطّى العتبة، ذكرياتٌ تنفخُ التّنّورَ تارةً، وتارةً تنزعُ من مذكّراتك أوراقَها ما عدا الدّفّتينِ ثم تُلْقِمُها اللّهَبا... في الجبهة الأمامية في الحرْب دائماً... في كلّ حرْبٍ ثمّةَ رعاديدُ يُغلقون النوافذَ والأبوابَ قبل الطلقة الأولى ويظلّونَ يثرثرونَ آناءَ اللّيلِ وأطرافَ النّهار مع الجدرانِ والسّقوف حول ريَاحِ الموت، وثمّة أشاوسُ لا يعرفون سوى متاريسِ الحياةِ، يرابطون في الجبهة الأمامية، يضعون أصابعهم في النّار لا يرهبونَ وعيدَ الجمْرِ ولا وعْدَ الرّماد تقتفي آثارهم، بلباس النّوم أو بالبدلة الرياضية، طوابيرُ مُريدينَ يحملونَ قلوباً كبيرة تُنْزِلُ الأحلام للأرضِ من أبراجها، بعضُها يضمّدُ الجراح ويطفئُ نيرانَ الظمأ، وبعضُها يُسلمُ الذخيرةَ للطّلقات، أو يحملُ المصابين على النقالة، وأخرى تصلي لأرواح للشهداء، وكلهم تعاهد على كتابة قصيدة بالنبضات تسقي مشتلة غدٍ يتعافى في أقاصي القمَمِ، ترفرفُ حروفُها دماً حارّاً يضمّخُ نعناعاً يانعاً يتموّجُ في حريرِ العَلَمِ. ولْتَشْرَبِ البحرَ الثّعالبُ السّمَانُ في سِنِي المَحْلِ الزّؤامْ إذا ضاقت بحُضنِ وطنٍ لم يعدْ ضرْعَاهُ يجودانِ بزُبْدَةٍ وعسلِ ولم يعدْ يفقسُ في أوكارِها سوى عقاربِ الجنونْ، ولْتَشْرَبِ البحْرَ خفافيشُ تغنمُ حُلكةَ الظلامْ لحَصْدِ ما يُتخِمُ قُمقماً نجا من جمرَاتِ الثّكَلِ درْءاً لكلّ هبّةٍ تقطَعُ دابرَ الأسلافِ والبنين..! عزلة أبي ذرّ لأنّني أرفُضُ التّواطُؤَ مع الموت فأنا أمشي وحيداً في دغل المجاهدة تسكنني العزلةُ، تلولبُ في الكهفِ منعرجاتِ السَّهَرِ، وأسكنها زوالاً للسّيْرِ حثيثاً تحت زخّاتِ المَطَرِ تأخذني مُدثّراً بلفْحِ الرّيحِ إلى قمّةِ المُكابدة. ما همّني رعبُ أخبارها المخنوقةِ في كيسِ الفَزَعِ واقترابُ العُمْرِ من حتفِه، فالفراغُ يدلّني على هامشٍ خفيٍّ للإصرار يدعوني للنّومِ في منتصفِ اللّيلِ على سريرٍ مزروعٍ بشوكِ الوَجَعِ، ويوقظني قبل بزوغِ فجرٍ يعرّي الوهمَ القابعَ في الرّفّ ويفضحُ أعطابَ معرفةٍ عرجاء، شياطينُها قد تطوفُ طويلاً ولا تصلُ. ولأنني مخلوقٌ على مقاسِ الوحدة إذا متُّ أموتُ وحيدا في السُّرى يطيّبني الصّفْصاف ويغسلني الجدْوَلُ، وإذا بُعثتُ أُبْعَثُ طاهرَ القلبِ وحيداً رفيقايَ عكازُ ضعْفي وصَوْلَةُ حرْفي... استراق نسْمة لكيْ أحرّرَ السّمعَ من أزيزِ ثلاجةٍ تكسرُهُ السّاعةُ السّادسَة بأرقامِ المصابينَ والوفياتْ، و أحرّرَ العينين منْ البنيّ الطّاغي في اللّوحاتِ أمامي، تعكّرُه الفزاّعَة، ومنْ بياضِ جدرانٍ تستفزُّ القلَمَ، تحيّيني نوْرَسَةٌ تنقُرُ الزُّجاج تدعوني إلى إطلاق حواسَّ تسرحُ في الأخضرِ النّديّ عساها أنْ تسترقَ نسْمَةً محظورةً، تنسلُّ إليّ في غفلةٍ من الكابوسِ تهمسُ أنّ الحياةَ ممكنَة على سريرٍ وتيرٍ وجهاً لوجهٍ أمامَ الجائحَة، تغنّي لها الشّمسُ أغنيةً على مقام البقاء، ياه... كم هو جميل أن أُصيخَ لزقزقاتِ طيور بلون أحلامٍ راقصةٍ تعطّرُها آمالْ طالما هشّمتْها الأبْوَاقُ ونهشَتْها ضوضاءُ الأسواقْ، وأرى في المدى الهادئ رفرفاتِ فراشاتٍ تَتَبَخْتَرْ طالما هشّها تلويحُ الأطفالْ تتوشّحُ بالأزرقِ والأصفرِ والأخضرْ... في البال هائجٌ وجداني مثل أعماقِكَ يا بحرُ لكن، هيهات أن تعرفَ ما بي من انكسَارِ، فجزرُكَ يستطيعُ أن يُخمدَ مدّك ولا تستطيع الأنفاسُ إخمادَ ناري.. قد تُلهيني أحزاني عن أحزانِنا، وسرعان ما تغافلني أطيافٌ تلمَعُ وتنطفي: سخرية تسُوطُ الذّات قبل أن تسُوطَ غيرَها في قفرِ الحصارِ، ضحكةٌ صفراءُ على دمعةٍ تحفُرُ خدّها خلف الجدارِ، دفءُ مصافحةٍ تتلفّعُ بالبَرَدِ، أحبّةٌ على مرْقَعَةٍ يسبّحون في صحاري الحصارِ ماسحين بتورَ الجوعِ والقهرِ والتّعبِ، عُسْرُ تنفّسٍ يطاوعُ الوهمَ في منتصفِ اللّيْلِ، شحُّ حوارٍ يقيّدُهُ الصّمتُ في منتصفِ النّهارِ، ولا تستطيعُ صَدَّ هلوسةٍ تئزّ: كيف تكونُ حالُكَ إن قضى بعيداً عزيزٌ وهو قريب؟ وكيف يكونُ حالُ صفيٍّ وأنت تقضي بعيداً غريبَ الدّارِ في الدّارِ القصيّة، ولا خيمة عزاءٍ أمامَ البيت، ولا موكب يرافقُ نعْشاً في الطريق إلى الأبديّة؟ غداً تُرَى هل يُكْتَبُ للعمرِ أن يطول يا غديَ النائمَ في الرّدهات، أم أنّ ربيعاً تعوّد على خداعَ النّهرِ والبئْرِ والرّيحان لن يتوانى عن خداعِ شيخٍ يحتمي بهدير المحيط لئلا يمحُوَهْ، فتُغْرِقَ ظلّي في المتاهاتِ الرّموزُ والأساطيرُ والفكرُ؟ وأنا أعرفُ أنّ الأرضَ تظلّ تدورُ في فلكٍ مجنون، وأنّ الماءَ على رماد الطّاعون ينتصرُ، وأنّ الغَدَ أنّى كانت قسوتُهُ لن يُحرقَ تذكرةَ السّفرِ الوحيدة إلى آفاقٍ تستترُ بينَ طلاسِمِ السّديم... لكنّ البرقَ المُبَاغثَ يعرفُ أيْضاً أنّ هذا المتماديَ في غيّهِ أصغرُ ألفَ مرّةٍ من كائنٍ حرونٍ لا يراهُ المِجهَرُ؟ أصيلة، ربيع كورونا