تقديم أعترف بأن عودتي إلى الكتابة عن المهرجان الوطني للفيلم هذه المرة يعتريها في النفس والعقل تردد وإحساس بالعبث وبعض الإحباط. لماذا؟ لأنني أدرك أن الكثير من الأفكار التي تحضر في الذهن كاستنتاج لمتابعة المهرجان في دورته الأخيرة هي ذاتها التي عبرت عنها في كتابات سابقة منذ أكثر من عشر سنوات. لا يعني ما سبق أن لا تطور هناك على امتداد دورات عديدة بل العكس صحيح تماما، لكن ما اتجاه هذا التطور من حيث المضمون والشكل في المهرجان الوطني للفيلم؟ يعتبر المهرجان الوطني للفيلم - العرس الوطني للسينما بامتياز - مهرجانا مثيرا للجدل دائما وفي كل دوراته. مكتسب ملطخ بالتسيُّبِ لننطلق من أن المهرجان الوطني مُكتسب لا جدال فيه أولا، ومن أنه تتويج لدعم عمومي عزَّ وقلَّ نظيره عبر العالم الذي ننتمي إليه، بل والعالم يتجاوزنا حجما في السينما أيضا. ضجيج صامت لا ينشر ولا يقال علانية، بل يردد في الكواليس، إذ الأغلبية الساحقة من "الكائنات السينمائية المغربية"، وحتى الشهيرة والمُكرَّسَةِ خبيرَةٌ منها، إنما هي كائنات شفوية. نتيجة ما سبق أن الباحث والدارس والمهتم لا يجد تراثا مكتوبا نقديا وتحليليا رصينا يُعتد به، علميا ومعرفيا حول السينما المغربية، بقدر ما يسمع من لغط ونميمة وغيبة وأحكام متسرعة، بل وسب وقذف وشتيمة، وتدخُّلٍ في الأعْراض والحيوات الخاصة. مرد هذا المستوى يكمن في تدني مستوى الحضور من غير السينمائيين في كل تخصصاتهم وتسيُّبُ منح الكلمة لمن هب ودب وفتح مجال السجاد الأحمر وقاعة العروض الرسمية للعموم من المتطفلين والمندسين تحت يافطات "الثقافة" و"الكتابة" و "الاهتمام" .. الغريب هو أن هذا الحضور الطفيلي يقابله غياب ملموس لنسبة مُهِمَّة من المهنيين المترسِّخين في الفعل السينمائي!!! مهرجان حصيلة وتقويم ينقلبُ إلى واقع مَعِيب ينتظر المرء وهو يحضر أشغال دورات المهرجان الوطني للفيلم، في دوراته الأخيرة خاصة، أنه سيستمتع ويستفيد في فضاء مهني وثقافي، تتمظهر فيه كل أشكال الجمال والفكر والأناقة واللباقة واللياقة والفن والإبداع. مثير هو الغياب الفاضحُ لمواعيد سخية في خلق نقاشات خصبة بين المبدعين والمنتجين والمثقفين والفنانين، من كل روافد الفن السابع وتخصصات التدخل في إبداعاته وصناعته. فلماذا الغياب الكبير للحضور الكاريزمي للرواد، والحضور اللافت لخلفٍ ناضِجٍ، والاستحسان المدهش لشباب يسير على طريق الإبداع والمثابرة والبحث والمغامرة التجريبية؟. ننتظر، في كل مرة، ونحن نحضُر دورات المهرجان الوطني للفيلم، تلاقح أبعاد تنوع الأجيال هذا وفقا لمعايير تنافُسٍ رصينة وموضوعية، حيث لا مكان للرياء والنصْب والسمسرة والتحيُّز السَافِر والوصاية الإدارية والتكتلات المشبوهة والابتذال والحماقات التي تنغص صفوها، نحضر آملين وضع حد لوقاحة بعض السذج الأغبياء الطُّفيليين والمُتطفلين الذين يُفسدون أجواءها التي من المفروض أن تكون رفيعة. ننتظر ونحن نحضر وجود صحافيين متخصصين شغوفين، (وهم موجودون وغيورون على سينماهم الوطنية)، لكن الحاضرين منهم قلة صامتة ومنزوية، لفائدة المتخفين المتربصين بالمفيد لتفجير نرجسية مرضية، أو استغلال علاقات مشبوهة، أو ادعاء "وسطية واعتدالية"، لعلها ترفع من مستوى ما ضاع منهم من فرجوية عقيمة في الاهتمام بالشأن السينمائي المركوب عليه لأغراض فردية صرفة تروم المزيد من ربحٍ، على حساب حقل يحتاج رصانة وشجاعة لا هي استعراضية ولا هي مُكرِّسَةٌ للعابر المؤقت العُرْس المُجهض دافع كل قلناه وسنقوله منطقيا عن مهرجاننا الوطني، وبالنظر إلى معنى المهرجان لدى المحترفين عبر العالم، أنه من المفروض أن يكون موعد المهرجان الوطني للفيلم منصَّة وموعِدا سنويّا لفرز تمثيليَّةٍ للسينما الوطنية من كل مهنها إخراجا وتمثيلا وصناعة للصورة والصوت والملابس… على قاعدة الاستحقاق داخل وخارج الوطن. يتم إنجاز هذه التمثيلية من خلال جعل فضاءات هذا المهرجان الكبير (بما يخصص له من طاقات بشرية ومالية ولوجيستيكية محترمة) فضاءات لعرض كل الإنتاج الوطني من الأفلام الطويلة، ما دمنا لا ننتج فوق عتبة الثلاثين فيلما سنويا، وتنظيم نقاشات فكرية ومهنية رفيعة يوميا حول الأفلام من جهة، وحول كل الأبعاد التي تهم الإنتاج والترويج والكتابة السينمائية ببلادنا. علاوة على ما سبق نتساءل: لماذا لا يتم تصميم هذه الملتقيات الحوارية برصانة ودقة واحترام لمعايير الفعل المعرفي والعلمي والفكري، وليس بمنطق المكانة الثانوية للثقافة السينمائية ورمزية حضورها؟ ولماذا لا يتم التوقف عن إسناد الإشراف عليها بمنطق الإدارة وعلاقات القرب والتقارب، عوض بمنطق الكفاءة والحضور الفكري والقدرة على التحكم التنظيمي والكاريزما والمصداقية. يقتضي إنجاح هذا العرس الوطني للسينما، أيضا، مجسدا في المهرجان الوطني للفيلم، إصدار نشرة المهرجان برصانة ومضمون جيد وتبريز حصيلة الحضور أفكارا ونجوما ومبدعين وضيوف شرف، ناهيك عن تبريز القيمة الكمية والكيفية للكتابات السنوية مع تخصيص تشجيع مادي واحتفالي لها بحضور السينمائيين غير القارئين ولا المتعاملين مع الكتاب ومع النقد إلا بمقدار انبطاحه لما يسمونه باطلا بالنقد البناء، وهو الرياء والمجاملة الكذب والتضليل والمدح المغرض فيما يقصدون. إن لقاءات الرواد والشباب والجيل الوسطي المبدع ضرورة قصوى غائبة تماما عن المهرجان!!! فلم لا يتم تنظيم لقاءات متنوعة بتنوع: الدرس السينمائي، واللقاء المفتوح، وحوار النقد والإبداع، وحوار الممثل والناقد... ذلك ما سيجعل جانبا من ضيوف المهرجان، يُمسكون عن "الهرب" من كل مظاهر المهرجان، (بعد إطفاء الأضواء بقاعة العروض)، نحو الحانات لتبادل الغيبة والنميمة والحضور الشفوي العقيم في العرس الوطني للسينما. يحضر المهرجان مئات الضيوف وتحجز لإيوائهم مئات الغرف ويستمر المهرجان ثمانية أيام بالتمام والكمال، فهل يعز على المركز السينمائي المغربي تشغيل قاعات هذه الفنادق أو القاعات الثقافية للمدينة لخلق دينامية ثقافة وإبداعية حوارية رفيعة وجيدة تمنح المهرجان قيمته وسمعته وهيبته التي ستقطع الطريق على الإسفاف والهجانة والتطفل والبلاهة والرداءة التي تغزو مفاصيله وتمس بمعناه وبدلالاته وبوظيفيته السامية؟ أخيرا: لم لا يتم الإعلان عن الفريق المنظم كل بوظيفته وتخصصه؟ - من المدير الفني للمهرجان حتى نعلم كيف وبأية معايير يتم اختيار لجان الانتقاء والتحكيم والبرمجة؟ - من المسؤول عن التنظيم في شق الإقامة والتغذية والنقل؟ - من المسؤول أو المسؤولة عن الاتصالات والصحافة والتواصل؟ - ما ميزانية المهرجان بالتفصيل ومن المسؤول المالي عنها؟ - لماذا التمسك بقاعة (روكسي)، عروض مخجلة بكراسيها المهترئة التي تجعل من يتفرج يخرج متعبا ومدبورا في وجود قاعات بديلة ومركبات ثقافية أوسع وأريح لسمعة وقيمة ومكانة مهرجاننا الوطني؟ - من يشرف على "إخراج" حفلي الافتتاح والاختتام كي لا يظلا فريسة للارتجال المُسْتلبِ و"للفتاوى" التي تجعلهما إما: جافين من أي إبداع، مملين ومرتجلين بئيسين فرجة وإخراجا وتقديما تنشيطا بنغمة التكرار والتبسيطية المقرفة، أو تغمرهما الغوغاء والصراخ، باختيارات فنية لا هوية ولا إبداع ولا سمو فيها، تعكس مكانة ملتقى سنوي وطني لأحد أنبل الفنون وأرقاها في العالم؟ هذه بعض من نتائج غياب إرادة حقيقية لنسج إستراتيجية متكاملة ومندمجة، ليس لصياغة جديدة للمهرجان الوطني للفيلم، بل لتدبير قطاع إستراتيجي على أكثر من صعيد في تنمية وتحديث البلاد والعباد. في انتظار رؤية إستراتيجية لتدبير قطاع السينما الوطنية، ليعم الصراخ والعبث والتفاهات والحزازات والتخندقات والأحكام المُسبقة، التي تفتح الباب، بالتالي، للمزيد من الدخلاء والبلهاء والنصابين لاحتلال أماكن أمامية ولأخذ مكبر الصوت ليعلنوا - أحيانا – نصائحهم وآراءهم في قطاع من المفروض أنه في قلب تحديث ودبلوماسية البلد. *كاتب وناقد فني وأستاذ الجماليات والفلسفة