لقد شكلت فكرة براقة، من وحي فكر رجل دولة كبير - المهدي بنبركة - صيف 1957 سماها طريق الوحدة، مرجعا متفردا في مدى قدرة المغاربة على التعبئة بشكل وحدوي و تضامني قل نظيره خدمة لبلادهم أولا وأخيرا، سنة 1957 انطلق أزيد من 10.000 شاب مغربي متطوع من مختلف بقاع الوطن في شق طريق كبرى تربط فاس العالمة بجبال الريف الأوسط. هكذا نجح سيدي محمد بن يوسف، قبل أن ينتقل إلى جوار ربه في وضع أساسات هذا الورش الوطني الجامع الذي لن يكتب القدر انطلاقته إلا بعد وفاته سنة 1962، ليكون قد أسس لبداية عهد جديد أطلق عليه اسم التوحيد والمغربة، مغربة الأجهزة والمؤسسات (الإدارة المغربية) وإفساح أمام النبوغ المغربي مكن ومساحات الاشتغال من داخل المؤسسات بدل المستعمر. أما التوحيد، فهو توحيد نابع عن حاجة ماسة لتعبئة الخيال الجمعي للمغاربة نحو الابتكار في طرائق حل معضلاتهم، مستشعرين حساسية الخروج من فترة عصيبة وكذا آمال بناء مغرب يتسع لجميع المغاربة ويصون تعدديتهم التي تتسم أحيانا كثيرة بالتناقض. وبعيدا عن مآلات ما عاشه الوطن من محطات خاصة، ومن وقفات عميقة جلدت فيها الذات وعذبت ثم شرحت بما فيه الكفاية مع وقفتين مفصليتين من تاريخ الوطن: - الأولى هي هيئة الإنصاف والمصالحة بما حملته من مخرجات داعية بكل علنية إلى مدى ضرورة أن نثق في أنفسنا وفي بعضنا البعض وفي قدرتنا على إحداث مغرب المواطن الكامل المواطنة، وهو الأمر الذي لامسه الجميع اليوم مقعدا على أرض الواقع بعد مرور عقدين من حكم الملك محمد السادس إذ لم يسبق أن سجل على رئيس الدولة مخاطبة شعبه إلا باعتبارهم مواطنات ومواطنين لا رعايا منذ أول خطاب له سنة 1999 وهو أسمى تجسيد للمفهوم الجديد للسلطة قبل 12 سنة من صدور دستور 2011 الذي أسس لهذا المنهج في الحكم. - الثانية هو تقرير الخمسينية (50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025)، الذي وضع بلادنا بجرأة الباحث أمام صدقية مفترق الطرق فإما الاستكانة إلى الاستمرار في البراديغم التنموي الحالي آنذاك (بمخططاته العرضانية) البعيدة عن طموح الشباب وعن الطفرة الديمغرافية التي عرفها الغرب من حيث نسبة الشبيبة في الهرم السكاني، وعن طبيعة القيم الجديدة التي أصبحت جزء من الوعي المشترك لشريحة الشباب أو الذهاب إلى ما لا تحمد عقباه في أفق سنة 2025. صدقت النبوءة وصدق الحس الاستشرافي لأزيد من 100 باحث ساهم في صياغة تقرير الخمسينية. لقد عشنا مع استحضار السياقات الوطنية والدولية أحداث ملهمة وأخرى مؤلمة من قبيل ولادة الدستور الخامس للمملكة (دستور الشعب) بعد الحراك الشعبي 20 فبراير 2011، والذي كان بالفعل خير تعبير على قدرتنا ملكا وشعبا على الالتحام والابتكار بالطرق التشاورية السلمية في أصعب اللحظات التي تمر منها الأمة المغربية للإقدام بكل الطرق نحو ديمقراطية سياسية واجتماعية جامعة. فلما العودة إلى حقبة ظهير (كل ما من شأنه)، لقد تجبر المستعمر بعد الاحتجاجات والمظاهرات التي عرفها البلد ضد قوى كبح الحرية والديمقراطية بظهير جعل الوصف القانوني به مطاطا ليشمه كل الأفعال المناهضة للمستعمر (ظهير 29 يونيو 1935)، فهل عدنا بعد مرور أزيد من نصف قرن إلى قواعد اللعبة التي رسمها هذا الظهير الذي نسخ مباشرة بعد التوقيع على وثيقة الاستقلال، هل عدنا إلى محاكمات الحريات العامة ''الفكر والرأي''، لقد عاش المغاربة منذ سنة 2015 على وقع تضييق مشهود على الحريات والحقوق الأساسية والتي بلغت ذروتها مع صدور الأحكام القاسية في حق شباب الريف، الذين لازال جزء كبير من المغاربة يستجدي عطف ملك البلاد لإحداث انفراج في هذا الملف. إن المفهوم الجديد للسلطة كما أسس له رئيس الدولة سنة 1999 بمدينة الدارالبيضاء وكما حددت خطوطه العريضة بدستور 2011 انطلاقا من مبادئ الحكامة الجيدة والقرب الرامي إلى تحقيق التنمية المستدامة، يجعل الباحث ملزما بلفت الانتباه في سياق ما سبق إلى ما يلي: أن الدينامية الوحيدة التي نجحت بشكل باهر في لفت الانتباه إلى مدى قدرتها على المبادرة لتعبة المجتمع وتنظيم ديناميكيته بشكل نسبي ''التأطير والتكوين'' هي فعاليات المجتمع المدني الجادة بمختلف بقاع الوطن، وبالتالي فإن الرهانات الكبيرة للدولة على هذه التنظيمات المدنية من خلال المساهمة في تنشأت جيل يؤمن بدور مؤسسات الدولة و يترافع على حقوقه من داخلها هي رهانات تظل إلى حدود اليوم في ظل انعدام شرائط التمكين المؤسساتي (القانوني) من قبيل إعادة النظر في ظهير تنظيم الجمعيات - تظل - رهانات أكبر من حجم وأدوار المجتمع المدني في سياق انعدام الامتداد الشعبي للأحزاب السياسية، وتفاقم هوة عدم فهم أو مواكبة القيم الحديثة لشرائح واسعة من الشعب بما فيها الشباب. إن المهام الجسيمة للجنة النموذج التنموي كما حددها رئيس الدولة بخطاب ثورة الملك والشعب سنة 2019، لا تنتهي بمجرد القيام بمهام تقويمية، استباقية واستشرافية، بل إن أكبر الرهانات المعقودة على هذه اللجنة هي البحث عن أنجع المقاربات القابلة للتطبيق والتي تجعل المغاربة يتملكون هذا النموذج وينخرطون فيه جماعيا. هكذا فإن صلب مهام هذه اللجنة الوطنية هي تعبئة الخيال الجمعي للمغاربة، نحو فكرة قائدة من قبيل طريق الوحدة، فكرة تشحذ الهمم نحو المستقبل المشرق، ومن ذلك فإن منهجية رفع الحقيقة والإعلان عنها مهما كانت مؤلمة تقتضي الاعتراف العلني بأن القوى الوحيدة القادرة على التعبئة المجتمعية هي فعاليات المجتمع المدني، لنكون بشكل مباشر أمام واقع ضرورة الانتقال إلى السرعة والقصوى للإجابة على التزامات الدولة اتجاه هذه التنظيمات من خلال المصادقة الفورية على مخرجات الحوار الوطني حول المجتمع المدني سنة 2014 في أفق انتهاء لجنة النموذج التنموي من صياغة مخرجاتها، لنكون بذلك قد وضعنا أرضية خصبة لقابلية تطبيق هذا النموذج. في هذا السياق تظل أجدى الإشارات هي التي عبر عنها التقرير السنوي 2018 لمجلس الشامي بحيث أعلن على إن الدولة بلغت مرحلة جد حرجة أصبح فيها تمكين المجتمع المدني من دخول غمار الانتخابات أمر واردا جدا. لقد عبر المفكر المغربي نور الدين أفاية قبل أيام لرئيس وأعضاء لجنة النموذج التنموي أن المهام الملقاة على عاتقهم جد صعبة لكنها غير مستحيلة إلا في باب الجواب على سؤال تعبئة الخيال الجمعي المغربي.