في سياق وطني يتسم بتنامي الأخطار الأمنية غير التقليدية بات لزاما اعتماد مقترب تقدير المخاطر في التعاطي مع التهديدات الأمنية الناشئة بوصفها أخطارا متعددة الأثر يتجاوز تأثيرها الشعور العام بالأمن، مثل المخاطر التقليدية للجريمة المنظمة وغيرها، إلى تهديد استقرار الدولة ومؤسساتها بالنظر إلى أنها أخطار طويلة الأمد وتستهدف بنية الدولة. ثلاثة تحديات كبرى تواجه العمل الأمني اليوم في بلادنا، أولا: المجال العام الافتراضي، ثانيا: عودة المقاتلين وسُبل إعادة الإدماج، وثالث هذه التحديات يكمن في دينامية النزاعات السياسية. المجال العام الافتراضي بوصفه حيزا مفتوحا يستند إلى شبكة تواصل تضمن تبادل المعلومات والآراء والمواقف حول قضايا معينة، بات من التحديات الأمنية الناشئة، لأن هذا الحيز الافتراضي، بما يتوفر عليه من وسائل الإعلام التفاعلي، أصبح مجالا لحشد وتعبئة الجمهور حول قضايا معينة عبر توظيف رموز سياسية أو اجتماعية أو ثقافية تسهم في إنتاج حالة الإجماع. ومن أخطر ما يقع داخل هذا المجال العام الافتراضي أن التحكم في أدواته، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، يجعل الرأي العام (المتفاعلين) حصيلة عملية استمالة يتحكم فيها الجالسون في غرف التوجيه بخلفياتهم السياسية والمواقفية التي تهدف بالأساس إلى إنتاج مجال عام في العالم الافتراضي خارج المجال التقليدي الذي تعودت عليه السلطة/ الدولة والذي شكل تاريخيا الحيز الاحتجاجي والتفاوضي والتحفيزي للإبقاء على حالة السلم الاجتماعي. إن أخطر هذا النوع من التهديدات يكمن في محاولات بعض الجماعات، من خارج وداخل العملية السياسية، مصادرة المجال العام التقليدي لفائدة الاستعاضة بالمجال العام الافتراضي وهو تحول عميق يمكن أن يفضي في النهاية إلى التأثير السياسي كما حدث مثلا في "قضية المقاطعة" التي تحولت من بعدها الاقتصادي الكامن وراء فكرة المقاطعة إلى استهداف سياسي. التهديد الآخر، يكمن في قوة خصوصية المجال العام الافتراضي نفسه، والتي تشكل عناصر قوة هذا المجال وأحد مبررات الرهان المكثف عليه من قبل جماعات المعارضة في كل الدول. فالمجال العام الافتراضي يختص بكونه يوفره عوامل اندماج سريع وفاعل من خلال: ضمان حرية المناقشة وإبداء الرأي لجميع الأعضاء والقدرة الدائمة على توظيف التراكم وفتح المجال أمام أعضاء جدد ثم أخيرا يوفر هذا المجال الافتراضي حالة اقتسام الشعور بالانتماء إلى ثقافة هذه المجموعات "الفيسبوكية" بالنظر إلى أن الانضمام إليها ناشئ عن إرادة فردية وحرة. هذه الخصائص الثلاث تشكل نقطة قوة المجال العام الافتراضي لما يوفره من ثقافة خاصة "إرادية جماعية" تسمى التفاعل. في مقدمة التهديدات الأمنية الناشئة أيضا، والتي تتطلب تقديرا دقيقا لمخاطرها، مسألة ما يسمى ب"دينامية النزاعات السياسية" فمن خلالها تسعى بعض القوى الخارجية إلى التأثير على الدول بتوظيف نزعات الهوية وتحويل المطالب الاجتماعية إلى شعارات سياسية برموز وبواعث تشجع على العنف. هناك مراكز تفكير صاغت نظريات في هذا الاتجاه تشجع على ما تسميه فكرة "التقسيم داخل الوحدة" أي استهداف الدول من الداخل عن طريق خطابات حقوق الإنسان والحقوق الثقافية والهوية. لقد كشف "حراك الريف" حقيقة هذه المخاطر، فقد كان القصد من تحويل المطالب الاجتماعية إلى شعارات سياسية وثقافية برموز وأعلام ترمز إلى الخصوصية المحلية هو تحويل الهوية إلى ثقافة سياسية. جرى تجريب هذا النموذج في بلدان عربية فشاهدنا كيف أن نموذج تحويل الخصوصية (هوية أو عقيدة أو إثنية..) إلى ثقافة سياسية أفرز أنظمة سياسية غير قابلة للحياة دون توافقات طائفية أو محاصصة كما يحدث في لبنان والعراق، كما شاهدنا كيف أن شعار "نريد وطن" (أي نريد دولة) هيمن على الحركات الاحتجاجية في هذان البلدان، بمعنى أن هناك إدراك جماعي بالمخاطر الناشئة عن دينامية النزاعات السياسية المحلية، وبتعبير آخر فإن الديمقراطية تقوم على فكرة السيادة الوطنية وليس حقوق الإنسان كما هو الحال في بلدان أوروبا الغربية، أي الدولة أولا. إن اليقظة تفرض الانتباه إلى هذه نشاط هذه الديناميات، لأن المغرب الذي جرب ما وقع في الريف أخيرا أدرك كيف أن هذه الدينامية يمكنها أن تتحول إلى تهديد حينما تدخل أطراف خارجية على الخط وتضغط وفق استراتيجية "التقسيم داخل الحدود"، وهي فكرة أنتجتها مراكز أبحاث في الولاياتالمتحدةالأمريكية تروم التأثير على القرار السيادي للدول. وهنا نقول إن أبرز نقاط القوة التي واجهت بها النظام في المغرب هكذا تهديدات هو بنية الدولة نفسها وما توفره من ممكنات التمثيل النيابي لكافة الخصوصيات الاجتماعية بشكل يسهل اندماجها، ما يعني فكرة تحويل الهوية إلى ثقافة سياسية ضمن انتقالات دينامية النزاعات المحلية تتوفر شروط نجاحها في البلدان السلطوية. سُبُل إعادة إدماج المقاتلين المغاربة العائدين من بؤر التوتر لدى "داعش" واحدة من التهديدات الأمنية أيضا، ومكمن الخطر يتمثل في كون الحالة المغربية تختلف عن نظيرتها في البلدان المشرقية، لأن المجندين المغاربة يتوزعون بين صنفين: صنف أول يهم مغاربة ذهبوا للقتال في مناطق النزاع إلى جانب "داعش" في ليبيا والعراق وسوريا. وصنف ثان، يتعلق بمقاتلين من أصول مغربية قدموا إلى بؤر التوتر من بلدان المنشأ في أوربا الغربية. ذلك أن هذه الفئة من المجندين يشكلون تحديا إضافيا للأجهزة الأمنية المغربية، لغياب البيانات الكافية عنهم ولكونهم يواجهون إسقاط الجنسية الأوربية. هذه الوضعية تجعل التهديدات الأمنية الناشئة مزدوجة اليوم إلى جانب تعقيدات إنجاز مراجعات فكرية كمقدمة لإعادة إدماجهم، ذلك أن "غسل الدماغ" الذي استهدف هذه الفئة يجعل إنجاز المهمة صعبة مقارنة بنظرائهم الذين التحقوا ب"داعش" عبر المغرب، إذ كيف يمكن تهديم أفكار المنادين بإقامة “دولة إسلامية” ما كان بوسعها البقاء لو لم تتحول إلى مجتمع، في عهد النبي نفسه، وأن سقوط هذه الدولة لاحقا هو النتيجة الحتمية للنجاح السياسي. المشكلة الأخرى التي يطرحها العائدون من بؤر القتال، تكمن في مخاطر إعادة الانتشار نفسها التي يلجأ لها المجندون بعد نهاية الخدمة في صفوف تنظيم داعش، فالكثير من التقارير الأمنية الأجنبية انتبهت إلى هذا المعطى، سيما أن المعلومات أبانت أنه كلما توغلت القوات النظامية داخل النفوذ الخاضع لتنظيم الدولة الإسلامية، كلما انقسمت هذه المجموعات إلى ثلاث فئات: فئة تقاتل حتى يُقتل، وفئة تُغادر عبر الحدود التركية، وهنا يمكن فهم اتهام دول عربية لتركيا باستقدام مقاتلي التنظيم إلى ليبيا مثلا، وفئة ثالثة من المقاتلين تختفي دون معرفة وجهتها بمعنى أنه ضمن كل مجموعة قتال هناك فئة تنعدم معلومات عنها، وهذا مكمن الخطر. إن التحديات الأمنية الناشئة ترتبط بسياق خطر متنامي يهدد وحدة الدولة وأمنها واستقرارها، وبذلك فإن الاستراتيجية الناجعة للتعاطي مع هذه التهديدات ترتكز على تقدير المخاطر واستباق نتائجها بمعرفة وتحليل دقيقين يأخذ بعين الاعتبار الفواعل الخارجية المتدخلة في إنتاج وتوجيه أجندة هذه التحديات. *باحث في الشؤون الأمنية