خرج الجزائريون، الجمعة، في مسيرات حاشدة قبل يوم من ذكرى مرور عام على حراكهم الشعبي، لإبقاء جذوة الاحتجاج غير المسبوق حيّة بعد إرغام عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة عقب 20 عامًا من الحكم؛ لكن دون النجاح في تغيير "النظام" الحاكم منذ الاستقلال. في العاصمة، احتشد المتظاهرون بأعداد كبيرة بعد الظهر، فغصت بهم شوارع رئيسية عديدة في وسط المدينة، وفق مراسلي فرانس برس. وتفرق المتظاهرون عند العصر بهدوء. وفي غياب تعداد رسمي أو مستقل، يصعب تقدير عدد المتظاهرين؛ لكن المسيرات الضخمة بدت قريبة من كبرى تظاهرات الحراك، الذي انطلق في 22 فبراير 2019. وفي الجمعة الثالثة والخمسين للحراك، قال المتظاهرون بصوت واحد، وبعضهم وصل مع أبنائهم، "لم نأت لنحتفل، بل جئنا لإزاحتكم" و"الشعب يريد إسقاط النظام" و"العصابة يجب أن ترحل". ورفع مشاركون أعلاماً أمازيغية عادت إلى الظهور، بعد أن منعها الجيش في المواكب وسُجن بسببها مئات المتظاهرين خلال الأشهر الماضية. ونظمت مسيرات ضخمة كذلك في وهران وقسنطينة وعنابة، وهي أكبر المدن من حيث عدد السكان بعد العاصمة، وفي مدن أخرى في الولايات، وفق ما ذكرت وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار. "تجديد المطالب" وعلى الرغم من حواجز التفتيش عند مداخل العاصمة، تمكن جزائريون من الولايات من الانضمام إلى المتظاهرين في العاصمة؛ مثل بشير، البالغ من العمر 50 عاماً القادم من عين الدفلى على بعد 150 كلم والذي قال إنه أتى من أجل "الاحتفال بالذكرى الأولى للحراك وتجديد مطالب الاحتجاج". بدأ الحراك قبل عام، عندما خرج آلاف من الجزائريين الذين كانوا يعدون غير مسيسين ومستسلمين للأمر الواقع يوم الجمعة في 22 فبراير في مسيرات عارمة، ضد ترشح عبد العزيز بوتفليقة الذي كان مشلولا وعاجزا عن الكلام، لولاية خامسة. وبعد أقل من ستة أسابيع من الاحتجاجات والمسيرات الأسبوعية، دفعت الأعداد المتزايدة قيادة الجيش، عماد النظام، إلى مطالبة بوتفليقة بالاستقالة؛ وهو ما حصل في 2 أبريل. غير أن رئاسة أركان الجيش، التي باتت تمسك فعلياً بزمام الأمور، شطبت بجرة قلم مطالب الحراك بشأن تغيير "النظام" وشنت حملة اعتقالات لمسؤولين ومتظاهرين. وفي حوار أجراه مساء الخميس مع عدد من وسائل الإعلام المحليّة، وجه الرئيس عبد المجيد تبون، الذي كان مقربا من بوتفليقة وانتخب في دجنبر في اقتراع شهد مقاطعة واسعة، تحية إلى الحراك الذي أوقف "انهيار الدولة الجزائرية". وقال إنه سيعمل على تلبية "كل مطالبه". لكن نشطاء وفعاليات قريبة من الحراك دعت في "بيان 22 فيفري"، الذي نشروه الخميس ووزع الجمعة على المتظاهرين، إلى "مواصلة التعبئة" وأشاروا إلى أن شعاراتهم كانت دوما راهنة: "يتنحاو قاع" (أن يرحلوا جميعا) تعبر عن "إرادة القطيعة مع المؤسسات الحالية من حيث مكوناتها وأداؤها وممارساتها ومخرجاتها" وعن "رفض الشعب إسناد مسار التغيير إلى السلطة القائمة". ويدين البيان أيضا تواصل "الضغوطات والقيود" على الصحافيين والنشطاء والمتظاهرين، ويذكر بأن الجزائريين يريدون "أن يُحكم البلد ويسيّر في ظل الشفافية والوضوح". وشدد البيان على أن الشعب يريد "مسؤولين يخضعون للمساءلة، وقضاء مستقلا وبرلمانا شرعيا لا يكون فقط غرفة تسجيل". معطيات جديدة وقالت داليا غانم، الباحثة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، "لقد عاد الجنود إلى ثكناتهم، والمدنيون في السلطة، وبالتالي هناك واجهة دستورية وديمقراطية؛ ولكن في الواقع هذا هو بالضبط ما كانت عليه الأمور عليه من قبل. تبون ليس سوى الواجهة المدنية للنظام الذي يتحكم فيه العسكر". وتابعت: "إن قدرة النظام على التبديل دون تغيير وصموده سيتعرضان للاختبار السنوات المقبلة". وتبين تعبئة الجمعة أن الحراك لا يزال حياً؛ ولكنه بلا قيادة ولا هيكل منظم وهو يدخل عامه الثاني، ما قد يدفع الى إعادة التفكير في منهجه حتى لا يصاب بحالة انهاك. فهل عليه أن يقبل "اليد الممدودة" التي قدمها الرئيس تبون مع ما يمثله ذلك من خطر ابتلاعه من قبل النظام؟ هل ينبغي عليه تنظيم نفسه للمشاركة في الانتخابات المقبلة، مع احتمال ظهور انشقاقات داخله؟ وفي جميع الأحوال، لقد نجح الحراك في تغيير اللعبة السياسية بعد 20 عامًا من رئاسة بوتفليقة، شهدت خلالها إغلاقا محكما، وتم إحباط المعارضة الحقيقية بشكل ممنهج، أو عرقلتها، أو تكميمها. واعتبرت غانم أن الحراك وحّد الجزائريين الذين تجاوزوا اختلافاتهم الثقافية واللغوية، وأعلن ظهور "جيل جديد على درجة عالية من التسيّس ويعرف ما يريد". كما نجح الحراك بسلميته في تفادي "مواجهة دامية أو قمع وحشي"، كما أشارت المؤرخة كريمة ديريش، مديرة البحوث في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا. وستسمح هذه السنة الثانية، كما قالت ديريش، للجزائريين بشكل جماعي في تحديد ما يريدونه بخصوص حاضرهم ومستقبلهم. وسيستغرق ذلك الوقت اللازم". *أ. ف .ب