يقول أحد تقارير منظمة اليونيسكو: "فإن كان النمو الاقتصادي عاملا أساسيا في التنمية، فإن الاختيارات الثقافية بشكل خاص هي التي تحدد اتجاهها ووضعها لخدمة الأفراد والمجتمع، بهدف إشباع حاجاتهم وتطلعاتهم المشروعة". ومن مبدإ أن الإنسان كائن ثقافي بامتياز، ومالك لجهاز رمزي عميق "كائن رامز"، على حد ما خلص إليه السوسيوأنثروبولوجي (د. عبد الرحيم العطري؛ سوسيولوجيا الحياة اليومية 'الرمزي أفقا للتفكير')، فإن تفعيل أي تخطيط يهم المشاريع التنموية يستدعي إخضاع دعامات هذه المشاريع لمنطق يتوافق ويتماشى مع خصوصيات ثقافة المجتمع. إن رصد مفعول التراث الثقافي على الحياة العامة أدى بالعديد من سابري أغوار قضايا التنمية بكل تفاصيلها على الإبداء برؤى موضوعية: - الاستثمار في التراثين المادي واللامادي استثمار من خلاله نظفر بدرجات عليا في مسار التنمية. (المصدر لجنة الثقافة بالبرلمان المغربي). - توظيف مسألة اقتصادات الثقافة بمدخلاتها المتنوعة والمتعددة في السياسات حل فيصلي لمشكلات التنمية، وبالتالي بناء جديد – قديم يخرجنا من مغاليق هشاشة الأدوار والحس الفرداني والقرار الأحادي في شأن السياسة الاجتماعية. - التنمية الخاضعة لسلطة الثقافة، بتياريها التراثي والتعليمي، تنمية مستدامة . - المجتمع الذي يعترف بثقافته المحلية ويشيد بأدوارها مجتمع تواق للتنمية وعلى عجل لبلوغها. - الرأسمال الثقافي، على حد تقعيد السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو، مكتسبات الفرد الواردة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والثقافات السائدة الضامرة في جوفها مجموعة من المعارف والمهارات والرموز والمواقف والمعاني، قد ينجم عن استغلاله وإعادة إنتاجه واستثماره، تنمية ذاتية تعود بالنفع على الإنسان نفسه ومجال استقراره. - التعدد الثقافي واللغوي رافعتا التنمية المحلية. - التنمية لا تكتمل ولا تتحقق إلا بانصهارية كل العناصر الثقافية داخل منظومتها. - البعض من الثقافات المنتشرة والمخترقة للجسد الاجتماعي، من عادات وتقاليد وأعراف شاردة، لم يعد لها تموقعا لتأثيرها السلبي على التنمية الاجتماعية والاقتصادية - يساهم التراث الثقافي في تطوير الاقتصاد الاجتماعي التضامني وتحقيق تنمية مستدامة، ويزيد من المردودية والإنتاجية المحلية، إن روعي كعامل رئيس في الإستراتيجيات والمخططات السياسية. - وزاوية نظر أخرى تقر بتبادلية التراث الثقافي في تمظهراته والتنمية في مقاصدها، علاقة تأثير/تأثر. وواقعا ملموسا، فللثقافة وتفرعاتها، المعرفية منها والتراثية، اتجاهات وتوجهات تصبو إلى تحسين وضعيات الأسر وبنائها بناء اجتماعيا رصينا، باعتبارها ذرعا يؤمن ويقي الهوية المحلية من أي غزو فكري دوغمائي وأي استنساخ غير صحي لثقافات مستوردة ليست على المقاس، ضدا في مخططات الطمس الهوياتي المفتعل وإبرازا لنبوغ ومجد حضارتنا الضاربة في عمق عصور التاريخ البشري. من هكذا وضع تشخيصي للفعل الثقافي، وما يخلفه من آثار فعالة، نقول أنه قد آن الأوان لاعتماد التراث المادي واللامادي في المقاربة الثقافية، وخصوصا أننا اليوم نطالب ونروج لسياحة ثقافية واقتصاد ثقافي ومنتوج ثقافي، لما تحمل هذه الرزنامة الحيوية الثقافية من حمولات واسعة الدلالة لا تزيغ عن سكة التنمية التي تنتصر للتقدم والتطور والتغير الاجتماعي الإيجابي للإنسان والمجال في الآن ذاته. فللإجابة عن السؤال المركزي الآتي: كيف تستثمر الثقافة المحلية في تحقيق التنمية المستدامة بالمجال القروي؟، بات ضروريا إدراج سياسة ثقافية شاملة ضمن السياستين، العامة والعمومية، أملا في جعل مختلف شرائح المجتمع تنخرط طوعا في الفعل الثقافي، كونه حلا ناجعا للقضاء على التقاعس والاتكال والتأسيس لمجتمع الانفتاح والإنتاج، المجتمع الذي يعتز بتنوع تراثه الثقافي بدل مجتمع التفاهة، هذه التفاهة المطبوعة بالرداءة والمصنوعة منها، والتي تسقط الفرد منا في مسألة الاستلاب الثقافي والاغتراب النفسي والاجتماعي. ودرءا لأي ارتجالية وأي كاسط معرفي بنعت د. عبد الرحيم العطري، فكل الأصوات المهتمة بالشأن الثقافي المحلي صارت تحذر من العبث الحاصل حاضرا في البعض من السياسات المحلية التي توجز الثقافة في البهرجة والضجيج، لا في إنتاج مجال حيوي وإبراز ذوات مواطنة فاعلة، ترفض الريع وأشكاله، وتتنفس الاختلاف الخلاق والمجدي، والفكر المتفتح والمنفتح المحارب لسلوكيات التبخيس والإقصاء واللااعتراف. إنها رسالة موجهة أساسا إلى الأحزاب السياسية وباقي فعاليات المجتمع المدني، مفادها ضرورة وضع متغير الثقافة في الحسبان، كنشاط فكري معرفي وعلمي وكمنتوج تراثي هوياتي، حتى تتمكن هذه الإطارات من استقطاب وتعبئة أجيال ذات ضمير جمعي مرتبط بالتاريخ والتراث والهوية، قادر على المساهمة في الأمن المجتمعي، متجنب للفكر التطرفي-الإرهابي والإيديولوجية القاتلة، وقادر كذلك على ربح الرهانين الرئيسيين: الحرية والديمقراطية، فبالحرية نصل إلى الخلق والإبداع والجودة والمردودية، وبالديمقراطية نحقق العدالة المجالية وضمنيا العدالة الاجتماعية. إذن، تعاقد الدولة والمجتمع المدني بكل الجهات الاثنتي عشرة أضحى مشروعا مهما للقطع النهائي مع الفكر الذي قسم ويقسم المغرب إلى نافع وآخر غير نافع، أقصد مغرب العمق، القطب المعطوب الذي ينتظر على أحر من الجمر جرعات التنمية. وحسب تقرير صندوق البنك الدولي تحت عنوان "المغرب في أفق ألفين وأربعين"، فإن "المغرب يلزمه الاستثمار في الرأسمال اللامادي من أجل تسريع وتيرة الإقلاع الاقتصادي". لهذا، وجب إقحام المعطيات الثقافية في كل المبادرات والبرامج الوطنية التنموية لخلق دينامية ثقافية مواكبة، ترسيخا للانتماء المشترك، وتقوية للرابط الاجتماعي، وتعميقا للإحساس بالهوية الوطنية بدون أي مركب نقص، وأي تعصب مجاني يلهينا عن المصير الاجتماعي لما يعتمل بداخله من مشاكل اجتماعية متعددة المسببات، وتكون بذلك –هذه الدينامية- أحد المنافذ لمواجهة ومجابهة التبعات اللاإيجابية للعولمة. إن التجارب الموزعة بين بعض من مناطق المجالات القروية في ما يخص السياحة الثقافية والاهتمام بالتراث والفنون ومحاولة تطوير الأنشطة الحرفية التقليدية وإنشاء تعاونيات حرفية أثبتت أنها مشاريع تنموية ساهمت في الاستقرار الاجتماعي؛ لأنها أنشطة مدرة للدخل ومعبرا مهما لتحسين مستوى عيش السكان، والارتقاء بأوضاعهم السوسيومهنية، ووسيلة للحد من الهجرة القروية. مختتم القول، فالمقاربة الثقافوية مدخل لتحقيق التنمية المستدامة على جميع الأصعدة بإشراك كل الفاعلين في كل مخطط تنموي، نظرا للتفاعل البادي بين التراث الثقافي والتنمية. والذي من خلاله يمكن فك عقد البعض من التساؤلات، الآتية ذكرها: - ألم يحن بعد هيكلة التعاونيات الحرفية بشكل رسمي ضمانا لاستمرارية المنتوجات المحلية ذات الرموز الثقافية والأبعاد التراثية؟ - أليس الرفع من الدعم المادي للحرف اليدوية وتوفير المناخ الجيد للتسويق ضمان للأصالة والجودة واستمرارية للعطاء؟ - ألم يحن بعد التفكير في معاناة الحرفيين والصناع التقليديين؛ بمن فيهم ناسجات الزرابي والحنابل والخيام، وناسجو البطانيات والجلابيب الصوفية، وكذا حرفيو المنتوجات الخزفية والعرعار والأرز والجلود؟ - متى ستنتفض الجماعات الترابية لإعادة الاعتبار إلى مناطق زاخرة ببيئات ثقافية (تراث مادي ولا مادي) وموارد طبيعية قيمة وطاقات بشرية معطاءة؟ - ما مدى استعدادات المجالس الجماعية للاستثمار في مشاريع تنموية تخص السياحة الثقافية؟ - ما جدوى من الاكتشافات الأركيولوجية والدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، إن لم تحمل محمل جد من قبل الجهات المسؤولة وخاصة أننا على يقين أنها ستنعكس نفعا محسوسا وتنمية مستدامة على الأهالي القاطنة بالمجالات القروية، في جميع مناحي حياتهم، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟ . فمن خلال ما ينبعث من كنه الوقائع الاجتماعية المليئة بسجلات شائكة، وما يحوزها من مؤثرات خارجية، لم يعد غض الطرف مقبولا في الوضع الراهن، فاستدماج البعد الثقافي في شموليته سواء كنشاط فكري تعليمي أو كتراث ثقافي... أصبح ملتمسا ملحاحا لتحقيق التنمية المستدامة والتخلص من الواقع المأزوم، الواقع الذي أطلق عليه فلاسفة اليونان مفهوم الديستوبيا بما يحمل من مشكلات وظواهر يمكن توصيفهما بأنوماليات وباتولوجيات اجتماعية، تتفاوت حدات تأثيرهما بتفاوت خصوصيات المجال، هذا الأخير الآهل بالحركات والديناميات الاجتماعية. ويبقى التساؤل بخصوص الفعل الثقافي في ارتباطه بالفعل التنموي مخلخلا لنا:- أليست تبيئة الثقافة الاستهلاكية الوافدة (ثقافات ما وراء الحدود) واجهة عنوانها فقدان الهوية؟. * طالب باحث بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية.