- ما معنى "الجمود" الملحوظ منذ عقود، من حيث العمق الفكري والجمالي، في طبيعة مضامين الإعلام التلفزيوني المغربي إذن، رغم ما يلاحظ من تطور تقني و تكنولوجي، ومن حيث طبيعة الإنتاج وكميته؟ واضح أن الأمر يتعلق "بعطب" في الوظيفة الرئيسية للتلفزيون الوطني. فعوض أن يكون هذا الإعلام منبرا للإِخبار وللتسلية وللتثقيف بشكل تنويري حداثي واحترافي العقلانية، من خلال برامج متنوعة تعتبر بمثابة واجهة لنقاش عموميٍ شعبي متنور ومنير، يدور حول قضايا التنمية في كل أبعادها وانشغالاتها ، تهم كل المستويات الاجتماعية المُكونة لجماهير المشاهدين المعنيين من المواطنين، نجد أن وسيلة الإعلام الوطنية هذه غدت هي ذاتها موضوعا مُفضَّلا، بل ودائما للجدل والشكوى والتذمر، أكثر مما هي موضوع للتحليل والنقد والنقاش القوي الحجة والاستدلال، بما تعرضه من مضامين إعلامية تفتح آفاق أرقى وأحدث وأعقل للنقاش العمومي النخبوي منه و والشعبي. إنه وضع غير "سوي" لا يملك الملاحظ إلا أن يستنتج منه أن العلاقة بين المجتمع ووسائل الإعلام هذه مطبوعة "بالتوتر"، خاصة عندما نلاحظ بأن هذا الجدل غالبا ما ينتقل إلى البرلمان نفسه وإلى لقاءات فكرية وفنية عديدة، غالبا ما يشعر الملاحظ من خلال أجوبة الوزراء المُتعاقِبين على حقل الولاية على الإعلام وهو حقل الاتصال، بأن هناك عجز ما وانحباسٌ، سياسي ما، وراء وضعية الإعلام التلفزيزني بالمغرب على المستوى الداخلي للبث على وجه الخصوص. من الملاحظ أيضا أن هذا التوتر لم يجلب أي حركة تغيير حقيقية وعميقة في الحقل الإعلامي بالبلاد، رغم استمراره لأكثر من ثلاثة عقود على الأقل! وهذا يدل على أن التواصل حول القضية الإعلامية بين المقررين من جهة، وبين النخبة المثقفة والطبقات السياسية والجماهير الشعبية من جهة ثانية، التي ليست راضية عن أداء الإعلام ووظيفيته، انحرف إلى حِوارِ صُمٍّ. من الدلائل على وجود هذه العلاقة المتوترة بين وسائل الإعلام والمجتمع متمثلا في النخب والطبقة المتوسطة على وجه الخصوص: اللجوء المكثف للقنوات الفضائية الأجنبية، العربية منها والأوروبية في البيوت بل وحتى في الأماكن العمومية كالمقاهي والفنادق والنوادي. ليس هذا الأمر بالصحي لأن ظاهرة هذه "الهجرة الإعلامية" ظاهرة منتشرة أفقيا وعموديا في المجتمع بشكل بارز وواضح. يكفي أن نقارن تلفزيوننا بدول أجنبية ذات قدرة تنافسية ثقافيا وإعلاميا على المستوى العالمي، حيث سنلاحظ في فضاءاتها العامة انعدام الاستلاب التلفزي واللغوي معا: فلا إنجليزي أو ألماني أو إسباني أو فرنسي يتحدث في بيته وفي الشوارع والمقاهي والمطاعم غير لغته ولا هو يتفرج على تلفزيون غير تلفزيونه بشكل مكثف ويومي !!!!!! لقد كانت الهجرة الإعلامية من أقوى المظاهر الغاضبة عن السياسة الإعلامية غير المُرضية، بالنسبة لما يمكن أن نطلق عليه المواطن المتنور والمتمثل لدور التلفزيون، في مسلسل المرغوب فيه من تحديث ودمقرطة شاملة للمجتمع. تعتبر الهجرة الإعلامية ظاهرة إنذارية في المجتمعات وفي الدول التي تتمسك بانسجامها وتناغمها اللغوي والثقافي عنوانا لِلُحمة هويتها الثقافية والسياسية. إن ما يزيد من خطورة هذه الهجرة الإعلامية في بلدنا، من ناحية أخرى، أن أغلب القنوات التي تشكل وِجهة "المهاجرين الإعلاميين" هي غالبا – لدى العامة خاصة وهي الأغلبية من الشعب - قنوات تعاني من استيلاب ثقافي وهوياتي. أغلب هذه القنوات عربي يبث عبر الأقمار الاصطناعية وعلى رأسها أقمار "نايل سات وبدر 1 و2 و3 و4 ... إلخ التي تأتينا من المشْرق أي، من بلدان ليست بأحسن منا حالا في الإعلام، على الرغم من غناها وتوفرها على إمكانات مالية ضخمة لم تُمكّنها، في نهاية المطاف، سوى من اقتناء آخر التقنيات في البث وفي تجميل الصورة وتفخيم الصَّوت، وتمكين صحافييها من باذخ اللباس والمي كآب والجراحة التجميلية ... دون تغيير ملموس وعميق ومنسجم البنية، على مستوى جودة الإعلام بمقاييس الحداثة والاستقلالية، المعمول بها، وفقا للمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الأممية والمؤسسات المهنية العالمية في كبريات المجموعات التلفزيونية للدول المتقدمة والديموقراطية التقاليد والذهنيات. إن قنوات المشرق العربي التي يهاجر نحوها أغلبية العازفين عن التلفزيون الوطني، تعاني من تسيير وبرمجة وخط تحريري يُبعدُهَا عن التوفر عن أي مشروع تنموي وتحديثي للعقل العربي وللذكاء وللثقافات الوطنية العربية الخاصة بأي قطر من الأقطار العربية. لا ينفي هذا الأمر استجلاب هذه القنوات، بسبب دولارات البترول والغاز، لأحدث تقنيات الإلباس الغرافيكس وتقنيات البث والإرسال. إنها في الغالب الأعم قنوات تلفزيونية عبارة عن "صندوق فرجوي" مروج للإنتاجات الثقافية والفنية الأمريكية الشمالية أساسا، والجنوبية أو الآسيوية أو التركية بشكل ثانوي، على مدار الأربع والعشرين ساعة دون انقطاع. أو أنها قنوات تروج لإيديولوجيات ومواقف قُطرية شرقية أو غربية، شمالية أو جنوبية سياسيا واقتصاديا بالتالي، انطلاقا من الخط التحريري الإخباري، مدعوما بالطبع بكل ما يمكن تصوره من "خبرات واستشارات متخصصة من كل الخبراء والباحثين والمختصين بالمهجر، من لندن وباريس وواشنطن وعواصم الشرق الأوسط بالطبع. الغزو الإعلامي الجديد في هذا السياق لابد من الإشارة إلى غزو آخر وبصيغة جديدة/قديمة لفضائنا السمعي البصري يتمثل هذا الغزو في قناة MBC5. يتعلق الأمر بقناة ستلتهم المزيد من نسب المشاهدة لقنواتنا، والأدهى أنها ستقوم بذلك على قاعدة تقوية وتعميق أزمة القيم وتكريس الدور السلبي للتلفزيون، في مجتمع ودولة يشتكي من انحدار القيم فيهما الجميع: دولة ومجتمعا مدنيا. تعيد قناة MBC5، بتواطؤ مركنتيلي من بعض المنتجين والكتاب والصحافيين والفنانين، غير المتمثلين لتحديث مجتمعهم ولمصيرية هذا التحديث، تعيد إنتاج الشعبوي السائد على قاعدة الأكثر شعبية والأكثر سيادة، (تحت غطاء تقديم المحبوب أكثر للشعب المغربي المضياف). لا تعني هذه القاعدة بالنسبة للقائمين على الغزو الإعلامي، المسلح بالبترودولار، شيئا آخر غير ضمانة النجاح التجاري والمالي انطلاقا من كَمِّ ونسبة المتابعة والمشاهدة. تمكننا نظرة سريعة على شبكة البرامج في هذه القناة وموقعها من الثقافة والفن الأصيل والرفيع ببلدنا، وعلى المكانة الاعتبارية فكريا وثقافيا وجماليا، (لا اعتبار لدينا هنا للشعبية وما يترتب عليها من نجومية فارغة كمية أساسا، لا تعني شيئا من حيث المضمون الفكري والقيمي)، للمتعاقدين اللاهثين وراء العمل مع القناة - الغنية مقارنة مع ما تقدمه قنواتنا للمشتغلين معها وخاصة المفكرين والمثقفين والمبدعين وهم نورُها وتنوِيرُها - من جهة، وعلى الأسماء "الفنية " التي استقطبتها القناة، تُمكِّنُ بِيُسْرٍ، من الوقوف على الأهداف الحقيقية من دخول القناة إلى فضائنا السمعي البصري بالمباشر. أما عن علاقة مضامينها بمعايير قيم الجمال والحداثة والعقلانية في إدراك الفن والإبداع والزمان والمكان والمواطنة والأصالة والعقلية المدنية ... فواضح أنها لن تكون أفضل من قناتينا الخصوصيتان المتردية المستوى، إلا بإلباس الغرافيكس وبتقنيات جودة المظهر البصري والصوتي، كما هي العادة في المشرق وقنواته البعيدة كل البعد عن أي تحديث مضموني وتنشئوي جمالي أصيل وعميق ودقيق. إذا تركنا مسألة القناة المذكورة جانبا فسنقول بأن بعض قنوات الهجرة تكون أسيرة نزوع قومي أو مذهبي عقائدي مُعيّن، غارقٍ في موقِف مُحدد من الصراعات الإقليمية الشرق أوسطية على وجه الخصوص. نتحدث هنا عن الصراعات ذات الطابع الاستقطابي بين دول الخليج ذاتها من جهة، وبينها وبين إيران من جهة ثانية، وبين هذه الأخيرة وبين إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية من جهة ثالثة، وبين الولاياتالمتحدة وأوروبا، من جهة رابعة، وبين روسيا وتركيا وإيران -في تعقيد وتداخل للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية بشكل لا سابق له- وبين أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية. أما القنوات غير العربية التي يتجه نحوها "المهاجرون الإعلاميون"، فهي القنوات الفرنسية التي تمثل "حبل السُّرة" الرابط بالمُستعمِر سابقا بالنسبة لدول المغرب العربي أساسا، والمُغذّي الدائم بثقافته التي زرعت منذ الفترة الاستعمارية لغة وثقافة ونمط عيش يومي، ضمانا لولاء لا زال مستمرا ومُؤَمّنا لمصالح استراتيجية ينبغي الحفاظ عليها مهما كان الثمن، (في سياق التوترات الإقليمية الخاصة)، وهو ما يرتبط في العمق بالصراعات الدولية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشرق آسيا. حضور القنوات الإسبانية بالمغرب وفي شماله بالتحديد كانت نتيجة لمسألة تخلُّف شمال المغرب عن قطار التنمية الوطنية حتى مطلع الألفية الثالثة، حيث تصحَّحت الأوضاع عموما باهتمام استراتيجي بالمنطقة، جعل شمال المغرب سبَّاقا لإعادة هيكلةٍ جعلته الأجمل والأكثر تقدما من حيث البنيات التحتية والاقتصادية. لكن الارتباط العميق باللغة الاسبانية والاعجاب بنمط العيش الاسباني والسلع الاسبانية في الشمال المغربي، الذي تكرس وتعمق بسبب السياسات العمومية التي لم تكن متوازنة في اهتمامها بجميع الأقاليم على قدر المساواة، لا زال قويا وإن تدنى بشكلٍ واضحٍ. تعمقت الفوارق في الوعي وفي أسلوب العيش والسلوك، مع فتح سوق السياحة الإسبانية الأجود والأرخص أمام المغاربة من جهة، ومع شيوع الارتباط الشديد بالنماذج وبنسق النجومية في بطولة كرة القدم الاسبانية التي برزت كمصنع عملاق ثقافي ورمزي عالمي، يُعوِِّّضُ كل محرُوم من نماذج محلية ساطعة. عمقت هذه السياسات العمومية غير المتوازنة أكثر استلاب الجماهير عن ثقافتها ولغتها. في هذا السياق يمكن القول بأن كثافة الهجرة غير الشرعية عبر البحر نحو أوروبا، وإسبانيا على وجه الخصوص، دليل على ما نسُوقه عن الاستِلاب الإعْلامي، الذي يرتبط أيما ارتباط بمشاكل الاقتصاد ومستوى المعيشة والبطالة والأمية والخدمات الصحية والإدارية، التي اتسمت جميعها بعدم جودتها ولا زالت حسب التقارير الرسمية ذاتها. عجز الإعلام الوطني التلفزيوني ببلدنا لعشاريات في وظيفته التواصلية والتنشئوية غير الرسمية، الحامية لمكتسبات المدرسة ومؤسسات التأطير الاجتماعي والسياسي، من أحزاب ونقابات وجمعيات التي عرفت وتعرف هي نفسها مرحلة صعبة في جودتها وملائمتها. إن ثمن هذا الوضع هو فقدان بوصلة المُواطنة لدفة القيادة إلى بر الإيمان بالوطن والثقة فيما يوفره من ضمانات للكرامة وللمستقبل، على أسس عملية وملموسة تضمن العدالة والحرية وكريم العيش. لم يكن التلفزيون المغربي مرآة مُقنعة لحماية وتعميق وتكريس قِيم يَحتاجُها الوَطن في عمليّات تحديثه. *مقتطف من كتاب: إدريس القري. "عتبات في الجماليات البصرية – التلفزيون المغربي رافعة التحديث المؤجلة" دار أبي رقراق للطباعة والنشر والتوزيع. الرباط. 2019