ركب الخالق في كل من الرجل والمرأة رغبة وغريزة فطرية تسوقهما نحو التجاذب والإلتقاء، إذ بغير هذين الأخيرين لا حياة تبقى ولا نوع يستمر. ومن ثمة فإن إشباع الرغبة الجنسية حق طبيعي لكل إنسان، بل إن هذا الحق بحسب التصور الإسلامي ليس قاصرا على الإنسان فقط، بل إنه يمتد ليشمل الحيوان كذلك. جاء في كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) "للعز بن عبد السلام" أن للبهائم والحيوان حقوقا على الإنسان من بينها: "الجمع بين إناثها وذكورها إبان إتيانها" أي حقها في الجنس والتناسل. وبما أن هذه الحاجة البيولوجية لا مناص من إشباعها، ولا فكاك من الاستجابة لندائها القوي فإن الديانات السماوية وكثيرا من النظم الاجتماعية عبر تاريخ الإنسانية الطويل، قد قررت ونصت على أن الزواج هو الإطار الوحيد المسموح به لممارسة هذا الحق الفطري والاستمتاع به. بينما اعْتٌبِرَ هذا الحق من خلال منظومة حقوق الإنسان ضرورة بيولوجية صرفة، تندرج ضمن الحريات الفردية التي ينبغي تحريرها من قبضة الدين، والأخلاق، والقانون...... وفي هذا السياق شجعت وثيقة مؤتمر السكان على الممارسات التي تقع خارج نطاق العلاقات الشرعية بين الرجل والمرأة، حيث فصلت بين الزواج والجنس والإنجاب واعتبرتها موضوعات غير مرتبطة مع بعضها البعض. ونفس الشيء تم التأكيد عليه في مؤتمر بكين، إلى درجة أن الوثيقة الختامية للمؤتمر لم يرد فيها أي ذكر للفظة الزوج ولو لمرة واحدة وبدلا منها استعملت الوثيقة لفظة (partener) أي الشريك وبالعودة إلى الشريعة والإسلامية فإنها جاءت حاسمة بإزاء أي تصريف لهذه الطاقة الحيوية خارج مؤسسة الزواج الشرعي، الذي هو أساس الأسرة التي هي بدورها نواة المجتمع الأولى. قال تعالى: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين﴾. سورة المؤمنون الآية: 5- 6 وبناء على هذا التأطير الشرعي، فإن الاستمتاع الجنسي يعتبر من أهم الحقوق المترتبة على عقد الزواج وبالتالي فهو حق لكل واحد من الزوجين، وواجب معقود بجبين كل منهما تجاه الآخر. ومن هنا جاء إلزام أحكام الشريعة الإسلامية الزوجة بالاستجابة لزوجها كلما دعاها إلى المعاشرة. فهل يعني هذا الإلزام أن للزوج كامل الحق في الاتصال بزوجته كرها إن هي لم تستجب له طوعا استنادا إلى واجب المعاشرة الزوجية طبقا لمقتضى عقد الزواج؟. أم إن هكذا سلوكا ما هو إلا اغتصاب لها، وعنف ضدها وامتهان لكرامتها الآدمية، وانتهاك لحقوقها الإنسانية وفقا للمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، كما هو واضح مثلا في المادة الثانية من إعلان القضاء على العنف ضد المرأة. حيث اعتبرت المادة آنفة الذكر قَسْرَ الزوج زوجته على معاشرته "اغتصابا زوجيا "(marital rape) الأمر الذي استقبله المسلمون- ومعهم غيرهم في شعاب هذه المعمورة- فريقين متخاصمين. فريق أقر هذا التوصيف وبالتالي فهو يناضل دونه في حِلِّهِ وترحاله دون كلل أو ملل من أجل تجسيده في تشريع وقانون ملزم يترتب عليه الجزاء الرادع. وفريق انبرى يشدد النكير عليه ويرفضه شكلا وموضوعا، معتبرا إياه مصطلحا دخيلا، وإسفينا جديدا يراد دقه في جسم القيم والأسرة المسلمتين. حق شرعي أم اغتصاب زوجي صحيح أن من بين الالتزامات المنوطة بالزوجة تجاه زوجها أن تطيعه وتمكنه من نفسها كلما دعاها إلى ذلك على اعتبار أن تلبية الحاجة الجنسية، من مقتضيات الزواج إضافة إلى معانيه الأخرى الروحية النفسية الاجتماعية والاقتصادية......الخ. ومن ثم فإن المشرع يلزم الزوجة بالطاعة في ذلك، لا تحكما واعتسافا كما يُدَنْدِنُ البعض ويصرخ آخرون، ولكن الأمر الطبيعي في الزواج أن يشمل العلاقة الجنسية. ودليلنا على ذلك أن المشرع نفسه ألزم الزوج بأداء واجبه الزوجي بهذا الخصوص كلما طلبت الزوجة ذلك، فإذا عجز وقع الانفصال- طبعا بطلب من صاحب المصلحة وهي الزوجة- سواء كان عجزه ذاك راجعا إلى أسباب عضوية جسدية أو إلى أخرى إرادية. ولقد تصدى المشرع المغربي للحالة الأولى في مدونة الأسرة من خلال المواد :107 -108- 109 – 110- 111، أما الحالة الثانية فمن خلال المادة 112. هكذا فالالتزام واقع من الناحيتين، وليس فيه تعسف بالزوجة، ولا إهدار لكيانها الشخصي، ولا انحياز للزوج ضدها من قبل مجتمع ذكوري كما يحلو للبعض أن يقول. ولقد قرر فقهاء الإسلام منذ قرون طويلة أن الزواج تعتريه الأحكام الخمسة، ومنها قد يكون حراما وذلك إذا ما عجز الزوج عن معاشرة زوجته، إذ إن ذلك ظلم منه والظلم حرام. جاء في (كتاب إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي: "ثم إذا قضى (أي الزوج) وطره فليتمهل على أهله (زوجته) حتى تقضي هي نهمتها فإن إنزالها ربما يتأخر فيهيج شهوتها ثم القعود عنها إيذاء لها. والاختلاف في طبع الإنزال يوجب التنافر مهما كان الزوج سابقا إلى الإنزال، والتوافق في الإنزال ألذ عندها". هكذا عزيزي القارئ بكل صراحة وشفافية وبعيدا عن منطق المسكوت عنه أو الطابوهات، إنما هي حقوق وواجبات متبادلة. وبهذا يقف كل من الزوجين سدا منيعا يصرف عن صاحبه العنت والمشقة، وكذا الضغط النفسي والعصبي الذي يسببه الحرمان، كما يعصم كل منهما الآخر من الوقوع في المحظور﴿ وخلق الإنسان ضعيفا﴾ النساء:28. وإلا فلا مجال للحديث عن العفة إذا ما كان الزوج لا يجد زوجته- وهي كذلك- ملبية حين يلح عليه خاطر الجنس ويشغل أعصابه، فالأمر خطير جلل، وله تبعات سلبية ،وآثار مدمرة للزوجية، و مؤسسة الأسرة. وهنا يحضرني ما كتبه "ديل كارنيجي" في كتابه الشيق (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس) حيث نقل عن عالم النفس الشهير" جون واطسون" قوله:" إن المسألة الجنسية تعد أهم الأمور في مجال العلاقة الزوجية، إذ عليها يتوقف مدى السعادة الزوجية أو شقائها". وكذا ما قاله الد كتور هاميلون في كتابه (أخطاء الأزواج) " أن مشاكل الحياة الأخرى يمكن للزوجين استيعابها، والالتفاف حولها إذا كانت العلاقة الجسدية بينهما متكافئة." وإذا كان الإكراه على الممارسة الجنسية يعتبر اغتصابا بحسب القانون الجنائي المغربي وفقا للفصل 486، فإن هذا الحكم لا ينسحب على الأزواج، وقد علل الفقهاء و شراح القانون الجنائي ذلك بأن الشريعة الإسلامية تبيح للزوج معاشرة زوجته متى شاء، شريطة عدم التعسف في ذلك، كما أن المعاشرة الزوجية ينبغي أن تتم في ظل احترام كرامة المرأة، وحرمة جسدها بعيدا عن كل ممارسة شاذة ﴿فأتوهن من حيث أمركم الله﴾ البقرة 222. وفي هذا السياق فقد أصدرت المحكمة الابتدائية بمدينة الجديدة حكما بتاريخ 12/ 02/ 2013 على زوج بالحبس مدة سنتين، والتعويض المدني لزوجته التي تقدمت بطلب تطليقها بسبب ممارسة زوجها الشاذة.... أما الزوجة التي يواقعها زوجها من دون رضاها، وبكيفية متكررة، فإن أقصى ما تملكه هو أن تعتبر ذلك تعسفا منه في استعمال حقه الشرعي -وليس اغتصابا- وهو ضار بها حيث يُخَوَّلُ لها إذ ذاك حق طلب تطليقها منه للضرر، وليس الزج بشريكها وأب أطفالها في غياهب السجن شهورا أو سنينا عددا. الاغتصاب الزوجي ومنظومة حقوق الإنسان لم يكن هناك وجود لأي شيء اسمه "الاغتصاب الزوجي "لافي مجتمعات دول الشمال "المتقدم" ولا في مجتمعات دول الجنوب "المتخلف". فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية مذ كانت مستعمرة من مستعمرات التاج البريطاني، قرر القضاء فيها أنه "لا يمكن للزوج أن يدان بتهمة اغتصابه لزوجته، لأن هذه الأخيرة قد عبرت عن رغبتها ورضاها وسلمت نفسها لزوجها عندما انعقد حفل الزفاف، ووقع أطرافه على الوثائق القانونية المطلوبة بهذا الخصوص". إلاَّ أنه منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي بدأت الأصوات ترتفع مطالبة بضرورة تجريم الاغتصاب الزوجي، وفي سنة 1984 قرر أحد القضاة في استئنافية بمدينة نيويورك من خلال ما عرف بقضية (people liberta) أن وثيقة الزواج لا ينبغي النظر إليها على أنها وثيقة تجيز للزوج معاشرة زوجته دونما اعتبار لرغبتها، أو على الأقل رضاها دونما تعرضه للجزاء، إذ إن للمرأة المتزوجة كامل الحق في أن تتحكم في جسدها على غرار المرأة غير المتزوجة سواء بسواء. ومع حلول سنة 1993 كانت الولايات الخمسين المكونة للولايات المتحدةالأمريكية قد جرمت الاغتصاب الزوجي، مع وضع بعض الاستثناءات من قبل بعض الولايات التي تميزه عن حالات الاغتصاب الأخرى التي تقع خارج إطار الزوجية =. وعلى هذا استقر التشريع الجنائي في كل الدول الأوروبية. وفي هذا السياق تحركت منظمة الأممالمتحدة لتمرير هكذا تصور من خلال عدة مؤتمرات، كمؤتمر نيروبي وفيينا والسكان وبكين..... إلخ. وكذا من خلال إعلان القضاء على العنف ضد المرأة سنة 1993، وغيرها من المرجعيات الحقوقية الكونية، وعلى هذا وغيره اتكأت المنظمات الحقوقية، والحركات النسائية، والمؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان في كثير من دول العالم. أمَّا في بلادنا فإن أصحاب عقيدة كونية حقوق الإنسان لم يدخروا جهدا في المطالبة بتجريم "الاغتصاب الزوجي" .كما طالب المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في سياق اقتراح له بخصوص رأيه الاستشاري حول مشروع قانون 13/ 103 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، بضرورة توسيع مفهوم الاغتصاب الوارد في المادة 486 من القانون الجنائي، وقد اقترح المجلس أن يُعَرَّفَ الاغتصاب كما يلي: "يعتبر اغتصابا كل إيلاج جنسي مهما كانت طبيعته، وبأية وسيلة كانت ،يُرتكب على شخص آخر عن طريق العنف و الإكراه، أو التهديد أو المفاجأة، وذلك بغض النظر عن الصلة بين الضحية ومرتكب الفعل ". وطبعا فإن هذا التعريف المقْتَرَح سوف يسمح بإدراج "الاغتصاب الزوجي" ضمن جريمة الاغتصاب التي يعاقب عليها القانون الجنائي وفقا للفصل المشار إليه أعلاه. إلا أن قانون 13/ 103 – صادق عليه مجلس النواب في فبراير 2018 ودخل حيز النفاذ في شتنبر من نفس السنة- لم يجرم "الاغتصاب الزوجي" مما أثار حفيظة الكثير من الحقوقيين والحقوقيات الذين عبروا عن عميق استيائهم، وخيبة أملهم، واصفين القانون سالف الذكر بالانتكاسة الحقوقية ،وأنه "يمثل أيديولوجية الحزب الذي يتزعم الحكومة، وهي أيديولوجية معادية للمساواة". وجدير بالذكر أنه في سنة 2017 وفي إطار تقديم المغرب تقريره الوطني الثالث، طبقا لآلية الاستعراض الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأم المتحدة في الشق المتعلق بحقوق المرأة، خاصة فيما يتصل بالإجراءات التي قد باشرتها الحكومة حول العنف الممارس ضد المغربيات، أصدر أعضاء المجلس المذكور توصيات، من بينها ضرورة تجريم "الاغتصاب الزوجي". كما أصدرت الأممالمتحدة في دجنبر الماضي تقرير" العدالة والمساواة بين الجنسين أمام القانون" حيث جاء فيه، أن القانون المغربي تناول بعض جوانب عدالة النوع الاجتماعي بشكل جزئي، إذ إنه لم يَتَصَدَّ "للاغتصاب الزوجي" بيد أنه بإمكانه تعزيز القانون عن طريق تجريم "الاغتصاب الزوجي" بصفته نوعا من أنواع العنف ضد المرأة بسبب النوع. بناء على ما تقدم يبدو أن فكرة "الاغتصاب الزوجي" هذه إنما هي فكرة غربية خالصة، من حيث مولدها و نشأتها، و بالتالي فهي من ضمن ما يراد تصديره إلينا في سياق الهيمنة الثقافية إلى جانب الأشكال الأخرى للهيمنة، وذلك في إطار صدام الحضارات هذا العنوان الذي اختاره (صمويل هنتغتون) لكتابه الذائع الصيت والذي أشار فيه إلى" ضرورة تقوية المؤسسات الدولية التي تعكس وتسوغ المصالح والقيم الغربية وتضفي عليها الشرعية"!. وأنه" لابد من ترويجٍ لاشتراك الدول غير الغربية في هذه المؤسسات". وعلى النغمة ذاتها كان قد عزف مواطنه (فرنسيس فوكوياما) في كتابه (نهاية التاريخ)، حيث أعلن فيه عن السيادة الأبدية لليبيرالية الرأسمالية الغربية، ونظامها العالمي الجديد على كل المذاهب، والفلسفات الاجتماعية، وعبر كل القارات والأمم والحضارات. وفي الختام أود التنبيه إلى أن الزواج مسألة شخصية إلى حد بعيد، وإنه -أي الزواج- اتصال وثيق وعلاقة متينة تجمع بين الزوجين، وما أروع الآية الكريمة ﴿هن لباس لكم وأنتم لباس لهن﴾ البقرة 187 . فإذا كان اللباس ألصق شيء ببدن صاحبه، فكذلك الزوجان فإنهما ألصق ببعضهما البعض. ومن ثم فكلاهما ستر لصاحبه، وزينة ووقاية له من الوقوع في المحظور. كما أن الأزواج لا يلجؤون إلى القوانين إلاّ في حالة التنازع الشديد، والشقاق العميق. أمَا وإنهم يتقلبون في بحبوحة من المحبة، والمودة والرحمة فإنهم حتما سيدبرون أمورهم بكل أريحية، وأخلاق عالية سامية. فالناس أفرادا كانوا أو أزواجا أو جماعات، لا يهنأُ لهم عيش، ولا يسعدون بوجودهم معتمدين على القوانين فقط. وقديما رمى شاعرنا العربي فأصاب الغُرَّة حين قال: لو كنتَ صادقا في حُبِّهِ لَأَطَعْتَهُ إن المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبٌّ مُطيعُ. *باحث في قضايا حقوق الإنسان