لا مراء إن قلنا إن المجلس الوطني الرابع لحركة "قادمون وقادرون مغرب المستقبل"، الذي تزامن مع الذكرى الثالثة لميلاد الحركة، وانعقد في ظروف استثنائية يعرفها القاصي والداني، آخرها وفاة المناضلة انتصار خوخو، عضو الهيئة التأسيسية الوطنية للحركة بعد صراعها الطويل مع المرض الخبيث، فضلا عن الغياب الاضطراري لرئيس الحركة الدكتور مصطفى لمريزق الذي ابتلي هو الآخر بوفاة نجله خليل المريزق الذي صاده سهم المنية بالديار الفرنسية. كل هذه الأحداث جعلت الإعلام الوطني والرأي العام المتابع لحراك القادمين/ات والقادرين/ات في مختلف ربوع الوطن وخارجه يتابع عن كثب ما سيسفر عنه المجلس الوطني الرابع من نتائج وما سيعلنه من مواقف لها مسيس بمطالب المغاربة وانتظاراتهم، وهل ستكون مخرجات المجلس الوطني الرابع عند مستوى تطلعات المغاربة، على غرار المجلس الوطني الثالث، الذي أعلنت فيه الحركة عن خطتها الاستراتيجية لتجاوز الأزمات التي تتخبط فيها البلاد في مختلف المجالات، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وحقوقيا، وبيئيا، وعقدت لها ندوة صحافية كبرى بمقر المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بالرباط. إن الناظر في البيان الختامي الذي تمت قراءته في ختام أشغال المجلس الوطني الرابع الذي حمل شعار "من أجل نموذج تنموي يراعي الحق في الثروة الوطنية، والعدالة المجالية، والبنيات الأساسية"، ونقلته المنابر الإعلامية التي تابعت أشغال المجلس، وتم تعميمه، يجد أن المؤتمرين أعلنوها ثورة على كل الممارسات التي لا تمت للعهد الجديد وللدستور الجديد بصلة، وطرقوا ناقوس الخطر الذي يحدق بالمغاربة إذا ما استمر الوضع على حاله، وتنامت الأزمات في مختلف القطاعات الحيوية، حيث عبر/ت القادرون/ات عن استيائهم/هن من الأوضاع المزرية التي تعرفها البلاد، وتعاني منها مختلف المجالات. وإذا رمنا تفكيك مضامين البيان الختامي الصادر عن برلمان حركة "قادمون وقادرون"، نجد أن لغته تزدوج فيها بلاغة التعرية ببلاغة بنائية استشرافية، يمكن إجمالها في ما يلي: تعرية واقع الممارسة السياسية: ويتجلى ذلك من خلال تعرية المؤتمرين للأداء الحكومي الباهت، والإقرار بفوضوية المشهد السياسي-أغلبية ومعارضة-وأزمة الأحزاب وإخلالها بالأدوار الطلائعية المنوطة بها، حيث طالبت الحركة بضرورة الخروج من ضيق الممارسات السياسوية الشعبوية التي تهدد بأزمة سياسية خانقة قد تكون عواقبها خطيرة إذا لم تعمل الإطارات الوطنية عقلها الجمعي لتجاوز التراجعات التي تشهدها البلاد في مختلف المجالات الحيوية، وأخذ العبر والدروس من الدول المجاورة التي تجاهلت نبض الشارع وأغمضت عينيها عن مطالبه، فكانت الكارثة على جميع الأصعدة والنهاية مأساوية؛ إذ نص البيان الختامي على عدم تماسك أغلبية حكومة العثماني، التي دخلت في نفق مسدود حين أعلت من شأن الخلاف الحزبي الهدّام بدل البحث عن حلول وبرامج تخرج المغاربة من مشاكلهم المعيشية. كما نبَّه الحركيون إلى أن تجاوز هذه الأزمة السياسية التي تعيشها الأحزاب لن يتم إلا عن طريق رص الصفوف بين مختلف الإطارات الوطنية من أجل بناء جبهة اجتماعية لتحقيق التنمية وتعزيز الديمقراطية، ومحاربة الفساد السياسوي بكل أشكاله، مع الحرص على التنسيق وتقليل هوّة الخلاف وإعادة الثقة في العمل السياسي بمفهومه النبيل إلى كافة المواطنين والمواطنات، وضرورة مواصلة هيكلة الحقل السياسي وتنظيمه ومراجعة المنظومة الانتخابية لضمان مشاركة واسعة في صفوف جميع شرائح المجتمع، والتمكين للشباب ومغاربة العالم لتحمل المسؤولية وتقلد المناصب، بدل تكريس الوجوه نفسها التي اتسم أداؤها بالفشل، وكانت شاهدت على مرحلة عنوانها الفشل والتدبير اللامسؤول باعتراف عاهل البلاد. تعرية الوضع الاقتصادي: كشف المؤتمرون/ات في ورشة النموذج التنموي عن الاختلالات والتراجعات الخطيرة الثاوية في قانون المالية لسنة 2020 وهجومه على أوراش الإصلاح الوطنية، وتعميقه للأزمة، والرفع من حجم معاناة الشباب والنساء، والتضييق على آمالهم وأحلامهم في العيش الكريم والمس بكرامة المواطن المغربي، حيث اعترف/ت الحركيون/ات بفشل الحكومة في صياغة نموذج تنموي كفيل بإخراج المغاربة من واقعهم الاقتصادي المزري، وأعلنوا أن تجاوز هذه الأزمة الاقتصادية معقود اليوم على لجنة النموذج التنموي الجديد التي عينها عاهل البلاد، وكفاءات المغرب القادرة على تقديم نموذج تنموي بديل بعد فشل الحكومة في صياغة نموذج تنموي خلاق لفرص الشغل، قادر على تقليص الفوارق الاقتصادية ومنصف في توزيع الثروة الوطنية، خاصة في أوساط سكان الجبل والسهول، والقرى والمداشر المهمشة المحرومة من برامج التنمية وشروط العيش الكريم جراء التدبير اللامسؤول، كما سردت لجنة الخبراء أوجه التقاطع والتلاقي الكبرى بين نموذج الحركة والنموذج التنموي الجديد. تعرية الواقع الاجتماعي: أما عن موقف القادمين/ات القادرين/ات من الواقع الاجتماعي للمغاربة، فقد تبرؤوا من القرارات اللاشعبية التي اتخذتها الحكومة، والتي بموجبها يغدو مطلب تحقيق العدالة المجالية أمرا بعيد التحقق والمنال، حيث جاء في البيان الختامي أن هذه الممارسات هي تكريس للتفاوت الاجتماعي ينشأ عنها حرمان المغاربة من التوزيع العادل للثروة الوطنية، وتساهم في خلق مغربين، مغرب المحظوظين ومغرب المحرومين. كما نصّ البيان الختامي لحركة "قادمون وقادرون مغرب المستقبل" على أن رقي المجتمع المغربي لن يتحقق إلا بالمساواة، ومحاربة التفاوت الاجتماعي، وتحقيق العدالة المجالية، وتمكين المغاربة من البنيات الأساسية، حيث نص البيان على التفعيل الديمقراطي العاجل لكافة مبادئ دستور 2011، وبخاصة ما يتعلق بالجهوية المتقدمة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتطوير القطاع العمومي وحمايته من الخوصصة، والتصدي لكل أشكال الاستبعاد الاجتماعي، والقهر والفقر والهشاشة في مناطق المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب، وتمكين سكانها من حقوقهم الأساسية وفي طليعتها التعليم الجيد، والصحة، والسكن والشغل والثقافة والرياضة، فضلا عن الاهتمام بالتوعية البيئية وتوسيع المساحات الخضراء التي في زوالها واندثارها اندثار للإنسان. تعرية الواقع الثقافي: نص البيان الختامي لمجلس حركة "قادمون وقادرون مغرب المستقبل" على أنه لا سبيل لبناء مغرب المستقبل إلا بالاستثمار في الثقافة البانية بمختلف ألوانها، وتكوين الناشئة على الإبداع ومحبة العلوم، ونشر التربية الجمالية الكفيلة بنشر محبة الجمال من أجل اخضرار معرفي ومحاربة كل أشكال العنف والتطرف والتعصب والميز العنصري، وكل الهويات الصماء المؤدلجة التي لا تنصت سوى لنفسها، والمستغنية عن غيرها، والمنغلقة على نفسها، حيث دعا البيان الختامي للحركة إلى تشجيع الاستثمار في الصناعات الثقافية، وتثمين الإنتاج الثقافي المحلي والإقليمي والوطني وتسويقه باعتباره رافعة أساسية لأي عمل تنموي، وتجويد منظومة التربية والتكوين ودمقرطتها باعتبارها مشتلا لكفاءات الغد، إناثا وذكورا، وإعادة الاعتبار لمكانة المعلم الرمزية في المجتمع، ودعم الجمعيات الثقافية الجادة، وضرورة حماية التعدد والتنوع الثقافي الذي يزخر به المغرب والتعريف به، وكذا تثمين المكتسبات التي حققها المغرب في مجال القضية الأمازيغية لغة وهوية، مع ضرورة التمكين لها مؤسساتيا وحقوقيا، والتصدي لثقافة الإقصاء وخطاب العدمية الذي يستثمر فيه المتطرفون. تعرية الواقع الحقوقي: دعا أعضاء حركة "قادمون وقادرون" في البيان الختامي الذي تلوه عقب انتهاء أشغال المجلس الوطني الرابع المنعقد تحت شعار "من أجل نموذج تنموي يراعي الحق في الثروة الوطنية، والعدالة المجالية، والبنيات الأساسية" بمقر المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بالرباط، يوم 14 دجنبر 2020، إلى إطلاق سراح كافة المعتقلين على خلفية الحركات الاجتماعية والاحتجاجية والأحداث الطلابية، كما نبهوا إلى ضرورة تحصين المكتسبات الحقوقية التي بذل في سبيل تحصيلها الغالي والنفيس، حيث أدان/ت القادمون/ات القادرون/ات تراجع الحماية الحقوقية في العديد من القضايا المتعلقة بالحق في الإضراب والاحتجاج في الهامش والمركز، والتضييق على حرية التعبير والصحافة والحريات الفردية، وحقوق الشباب والنساء، وحقوق الفئات الهشة من متعاقدين ومعطلين وعاطلين، والعمال والطلبة، حيث نصُّوا على أن الأصل في المسألة الحقوقية بالمغرب أن ترتفع إلى الأعلى عبر ترسيخ الحقوق وتوسيع المكتسبات عرفانا بتضحيات المغاربة في سبيلها، بدل جعل حقوق الإنسان تنزل نحو الأسفل لتدخلنا مرحلة أخرى عفا عنها الزمن وثار عليها المغاربة ودستور 2011. كما ثمن المجلس الوطني الرابع في بيانه الختامي مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص تعديل القانوني الجنائي، وعبر عن دعمه لها، وكذا لمقترح الحكم الذاتي وسيادته على الأقاليم الصحراوية المغربية، باعتباره الحل الأمثل لتحصين حقوق المغاربة الصحراويين وحماية الوحدة الترابية للمملكة المغربية. وإجمالا، فإن الناظر في البيان الختامي للمجلس الوطني لحركة "قادمون وقادرون مغرب المستقبل" يجد أن مخرجاته كتبت بمداد الوطنية الصادقة المنتصرة لمصلحة الوطن والمواطنين البعيدة عن كل المزايدات السياسوية الآنية والدنيئة، إنه بيان ختامي انتصر فيه القادمون/ات والقادرون/ات للعدالة المجالية وحق المغاربة في البنيات الأساسية والثروة الوطنية. إن بيان المجلس الوطني الرابع لحركة "قادمون وقادرون"، بشهادة كل من حضر أشغال المجلس أو حَاضَرَ ضمن ورشاته، بيان يزدوج فيه خطاب التعرية بخطاب الاستشراف، فهو بيان تعرية لأنه عرى الممارسات التدبيرية اللامسؤولة التي تزيد من تعميق أزمة المغاربة، وبيان بناء واستشراف لأنه رسم لنا صورة حقيقية عن ملامح مغرب المستقبل الذي يسعى إليه المغاربة ويليق بهم، وقدم حلولا عملية لانبعاث مغرب جديد. *ناقد وباحث عضو لجنة الخبراء بحركة قادمون وقادرون