لا نجادل في أن النموذج التنموي سيضمن تحسين وتعزيز تقدم الشعب واستفادته من الصحة والتعليم والشغل والأمن، وتحقيق العدالة المجالية، وما تم التنصيص عليه دستوريًا، وأنه الإطار المرجعي لتنزيل السياسات العمومية للبلاد. وبما أن الأحزاب والقوات الحية ومختلف الفاعلين والنقابات لم تقدم أي مقترح رغم التوجيهات الملكية السامية ولم تستوعب الرسائل القوية في هذا الشأن، اتجهت الإرادة الملكية إلى إحداث لجنة لصياغة النموذج التنموي، تشكلت من كفاءات ومكونات من مختلف التخصصات. وبما أن الأمر يتعلق بالإطار المرجعي للسياسات العمومية التي تهم الحكومات والبرلمان والأحزاب، فإنه بات من الضروري أن تتضافر الجهود من أجل نموذج تنموي يساير تحديات المرحلة ويرقى إلى الطموح الملكي، ويواجه معضلات عجزت الأحزاب ومكوناتها عن التصدي لها نظرا للخلافات واختلاف وجهات النظر والانتصار للمصالح الخاصة والمحسوبية وإبعاد الكفاءات. جهة الشرق تنتظر الكثير من النموذج التنموي المرتقب، لأنها عانت وتمادت في الحديث عن الإحباط، خاصة وأن شريحة كبيرة محبة للجهة من أبنائها البررة يراودها أمل كبير في إنعاش الجهة واستعادة أمجادها، لكن كيف السبيل إلى ذلك ونسبة البطالة في الجهة الشرقية تتعدى ضعف نسبتها في باقي الجهات المغربية الأخرى؟ أضف إلى ذلك أن نسبة الاستثمار لا تتعدى 4 في المائة في جهتنا الحدودية المعتبرة باب إفريقيا وأوروبا، وتعثر الإقلاع الصناعي، اضافة إلى حدود مغلقة وستار حديدي دام ويدوم لعقود وعقود، ما جعل من مدينة وجدة، التي إبان الحدود المفتوحة كانت ملتقى مغاربيا يمر منها من يتوجه إلى الجزائر وتونس وليبيا، مدينة تعج بالمتسولين والمعتوهين وحراس السيارات المضايقين لجل السائقين. ولا نحتاج إلى التشخيص والتعليق وتقارير الخبراء للقول إننا نعاني من نقص مهول في المعامل والمشاريع الاستثمارية، وحتى من تشجَّع من المستثمرين وتسلح بإرادة حديدية من أجل خوض التجربة يواجه بالعراقيل والفشل الذريع بسبب تعقيد الإجراءات وتغول البعض على البعض، وقد يؤدي به الأمر إلى الافلاس أو سلوك مسطرة التسوية أو التصفية القضائية. بل حتى مساطر تحقيق الرهن المتخذة من طرف الأبناك في مواجهة المدينين تنتهي بعدم حضور المزايدين واستحالة استرجاع الديون، وعمارات شاهقة لا أحد يهتم بشراء شقق فيها لانعدام السيولة، ولا من رغبة المالكين في إيجار الشقق خوفا من عدم أداء الوجيبة الكرائية بسبب الأزمة الخانقة وطول وتعقيد الإجراءات المسطرية، ناهيك عن مساطر الشيكات بدون رصيد التي بوشرت حتى في مواجهة كبار الفلاحين. وباستثناء إنجاز المقاهي والحمامات وقاعات الحفلات، وأحيانا تشييد عمارات لا هي تواجه أزمة السكن ولا هي عامرة بالساكنة، فيحكم عليها بصمت أبي الهول ويواجه أصحابها بالتزامات ضريبية خانقة، يجد المرء نفسه يدفع صخرة سيزيف دونما تحقيق نتيجة تنموية تفرج كربة الشباب العاطل، والمواطن المؤمن بدستور رفع سقف الحقوق والحريات ووعد بالحق في الشغل والسكن اللائق والتعليم والصحة للجميع، تحدثنا كثيرا عن عشرات أنواع المياه الغازية والطبيعية الموجودة في الأسواق، باستثناء فزوان ولالة شافية وعيشون التي هي مياه من منبع جهة الشرق، وما زلنا نجهل سبب عدم استثمارها وتسويقها من أجل خلق فرص الشغل رغم إجماع الأطباء على منافعها. تساءلنا لم لا يتم التفكير في تعويض الطاقة الأحفورية بالطاقات البديلة بمدينة جرادة، المدينة المنجمية بامتياز، وخلق معامل للألواح الشمسية، خصوصا وأن المنطقة تتوفر على جميع المكونات المتطلبة من ماء ورياح وشمس حارة، وهو ما عايناه بالنسبة للأردن الذي يتوفر على المناخ نفسه لما كنّا بصدد مناقشة دور المشرع في تشجيع الطاقات البديلة المنظم من طرف برلمان المناخ. تم الحديث أيضا عن الصناعات التحويلية، خصوصا وأن المنطقة تتميز بالحوامض والبواكر والحليب ومشتقاته، وعن أن التوفر على أقطاب صناعية وفلاحية دون التفكير في التصنيع وجلب المستثمرين ورفع الحيف عن طريق التحفيزات الضريبية ولو الجزئية منها، وإيجاد فرص التسويق مع اعتماد الجودة من أجل مواجهة المنافسة، قد يجعل منها بنايات لا فائدة منها. العدد القليل من الشركات أصبح هاجسها المراجعات الضريبية التي دفعت بالكثيرين إلى الإفلاس وحل الشركات، ولكم انتفض العديدون في وجه الحكومة موضحين أن التحفيزات الضريبية ولو الجزئية قد تكون هي المحفز لجلب المستثمر، خصوصا وأن الجهة تتوفر على أربعة مطارات وطريق سيار وتثنية الطرقات وميناء الناظور، بل ولِمَ لا تعرف الناظور القفزة التي عرفتها مدينة طنجة؟ إذا كان الوطن يعاني من نموذج تنموي مرتبك بسبب انعدام العدالة المجالية وتغول أصحاب المصالح الخاصة والتوزيع غير العادل للثروات، وكان الحلم على الصعيد الوطني هو اقتصاد منتج للثروة وللشغل اللائق وسياسة اقتصادية ضامنة للتوزيع العادل للثروات، ودعم الطلب الداخلي وتقوية الطلب الخارجي، ورفع تنافسية الاقتصاد الوطني وتحسين الحكامة ومحاربة المضاربة والاحتكار والريع، وتطوير نجاعة الإدارة وتحسين مناخ الأعمال، وملاءمة تخصصات الطلبة مع سوق الشغل حتى لا نواجه بحملة ديبلومات لا يتمكنون من ولوج سوق الشغل، فإن التمادي في تجاهل العدالة المجالية وترك جهات معرضة للإحباط والمعاناة اليومية دون سياسة حكومية ناجعة مخططة لإقلاع اقتصادي محركه إقلاع صناعي، يجعل المجهودات المبذولة في مجال التأهيل والبناء التحتي عرضة للاندثار والتلاشي كالوضع الذي تعيشه المحطة السياحية بالسعيدية وغيرها من المنجزات التي غيب أهميتها انعدام الاستثمار وما استتبعه من بطالة وانعدام فرص الشغل وهجرة الشباب إلى مقاصد مجهولة. لذلك، إذا كانت اللجنة الاستشارية المكلفة بصياغة نموذج تنموي يستنهض الهمم من أجل توفير العيش الكريم للمواطن ومن أجل عدالة مجالية، خصوصًا وأن رئيس اللجنة طالب الأعضاء بتقديم مقترحات جريئة قابلة للتنفيذ حتى لا تبقى حبرا على ورق، فإن جهة الشرق تنتظر ما سيتحقق من نتائج تخص عملية إقلاع شاملة تليق بجهة تعتبر حصنًا حصينا لمغرب غني بجهاته وثوابته وروافده! *محامية نائبة برلمانية سابقة