إن النزوع الحثيث والسافر إلى تدعيش الإسلام لا تخطئه أعين الملاحظين المتتبعين لسريانه وتضخُّمه، وهذا بالأمثلة ما قلّ منه ودلّ: في 29 أبريل 2018 ظهرت في جريدة Le Parisien عريضة وقع عليها 300 من شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية، كان من أبرزهم رئيس الجمهورية الأسبق نيكولا سركوزي وثلاثة وزراء أُوَّل يتقدمهم إيمانويل ڤالس. ومضمون العريضة هو التنديد بمعاداة السامية لدى المسلمين(كذا!) كما لو أن وجوه الصهيونية من بن گريون وشارون ونيتانيهو، وغيرهم كثير، هم ورثة يهود يترب (المدينةالمنورة) من بني قريظة وبني قنقاع وبني النضير، وكلهم حاربوا نبي الإسلام محمد عليه السلام ونكثوا عهودهم معه بلج وإمعان؛ أما شق العريضة الثاني فهو، الدعوة إلى تنقية القرآن من الآيات الموسومة حسب الموقعين، بالتطرف والإرهاب(كذا!)، على أن يضطلع بهذه المهمة الأئمة والخطباء في أمكنة العبادة، وعددهم 1200 بفرنسا. وبعيد ذلك حرر 30 من هؤلاء عريضة محتشمة نُشرت في جريدة لومند، مفادها نعم لما هو مطلوب، لكن... وبعد ذلك بقليل وقعت حادثة ذات الصلة إلى حد مّا بالسياق نفسه، ويجوز تسميتها حالة الشابة ابتسام منال (22 سنة) التي شاركت في مسابقة ڤوكس بTF1 ليلة 18-05-2017، إذ غنت بصوت ملائكي مبهر هاليلويا لليونار كوهن، فطرب لها الجمهور وترنح أعضاء التحكيم انفعالا وإعجابا؛ إلا أن أيادي خفية حرمتها من الفوز بالجائزة الأولى لكون الفتاة ظهرت على الخشبة مرتدية الحجاب، وعاودت غناءها باللغة العربية، هي السورية الأصل والفرنسية الولادة والنشأة. كما أنها على صفحتها فيبسوك اكتشف بعض النقّابين من اليمين المتطرف "الكتلة الهويتة" أقوالا لها تعود إلى 2016 أوّلوها على أنها تعبر عن تعاطفها مع الإسلامويين والهجمات الإرهابية، خصوصا منها هجمة مدينة نيس، ولم يكفوا عن التشهير بها حتى بعد تبرئة نفسها من ذلك كله وتأسفها على ما قد يكون بدر منها نظرا لفتوتها وتحريف تسجيلاتها الفيسبوكية، وهكذا آثرت الانسحاب من المسابقة وطي صفحتها... هل هذه هي فرنسا التي رفعت في ثورة 1789 مبادئ الحرية والمساواة والأخوة؟! هل هذه هي فرنسا فلاسفة الأنوار وكليمانسو وجوريس ومولان ودوگول وزولا وهوگو وماسينيون وسارتر، وغيرهم من الأعلام الكبار الأحرار؟! ومن المسهمين في تدعيش الإسلام، وهم عرب الإسم والخدمة والتمسح بأعتاب الفرنكوفونية والفكر الطغياني، نذكر منهم حالتين بارزتين: 1- حالة يوسف الصديق التونسي الأصل، الفرنسي الجنسية والتعلق والهوى، ذو إسم على غير مسمى إذ هو لا يوسف ولا الصديق، صاحبُ كتيبات من حجم الجيب، نشرتها دار فرنسية صغيرة L'Aube. وهو يعرِّف نفسه بأنه أنثروبولوجي وفيلسوف، وليس، حسب متنه المتواضع، هذا ولا ذاك. ترجم إلى الفرنسية آيات منتقاة جدا من القرآن، وأتبع هذا بكتيبين اختار لهما عنوانين طنانين ضاجين: "لم نقرأ القرآن أبدا"، ونشره مترجما إلى العربية بعنوان توخى فيه التقية ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها﴾، ويذهب إلى ادعاء أن المسلمين (من شراح ومفسرين، وعددهم يفوق المئات) لم يفعلوا طوال قرون سوى تلاوة المصحف، وبهذا يوهم -يا للحماقة!- بأنه أول من قرأ الكتاب المبين؛ أما الكتيب الثاني فهو "سوء الفهم الكبير، الغرب أمام القرآن"، وأعلن عن عزمه نشر كتيب آخر ليس أقل شططا وفجاجة: "المسلمون ضد القرآن". ومما جأر به في يوتوب إعجابه الشديد بكون كتاب صغير، حسب تعبيره، كالقرآن يحوي كمّا هائلا من المعارف والمعلومات، فيتناسى أن المتكلم فيه هو الله سبحانه وتعالى علام الغيوب، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولا غرو أن يخبط في القول ويهذي هو الذي ينفي الوحي ويستبدله بالإلهام، كما فعل من قبله محمد أركون، وهما معا جعلا من هذا الإلهام ضريعا لإلهام شكسبير وغيره من أكابر الأدباء والمبدعين... أما من يذكره صاحبنا بلسان الإعتزار والتقريظ فهو الفيلسوف إيمانوييل ليڤيناس اليهودي المتصهين، الذي بارك حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت وحمايته لمجزرة صبرا وشتيلا في 1982، وذلك بدعوى «حق الدولة العبرية في الدفاع عن نفسها». فأي سذاجة بل غباوة جائرة عند المسمى يوسف الصديق! هذا وإنه نقل إلى الفرنسية بعض الكتابات القصيرة من التراث العربي وعددها سبع، كما نشر حواراته حول قضايا راهنة وأيضا القرآن في شريط رسوم (BD). إلتقيت بالرجل منذ عشر سنوات في تونس، كنت أعلم أنه يقر بوجود كلمات يونانية في القرآن مثل زخرف وسيماء، وكلمة حراء (غار حراء الشهير) هي عنده منقولة من Hera زوجة تزوس ربّ الأرباب في الميثولوجيا الإغريقية، وغير ذلك من السفاسف اللَّغوية. وأضفت له مازحا كوثر ولغة التي لعلها مشتقة من لوغوس فرحب وبارك. وبدا لي أن أورطه في زلَّة، فتلوت عليه: ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا﴾، وسألته: ألا تكون الإشارة في هذه الآية إلى بينيلوب التي كانت تنقض غزلها للتلهي ومداراة الوقت في انتظار عودة زوجها أوليسيوس من رحلته المديدة المرهقة، فهش صاحبنا وبش هاتفا: هو ذاك يا أستاذ هو ذاك رعاك الله، وبهذه المزحة أضحكت سني لا سيما وأنه لم ينفِ أن الرسول قد يكون اطلع على "الاليادة والأوديسا " لهوميرس (فيا للسخافة الرعناء!). وسألني إن كنت ألم باليونانية أجبت أنْ نعم أي بمفاهيمها ومقولاتها في القديمة (كاتريڤوسا) ذات الصلة بالفلسفة، وأتكلم بطلاقة اليونانية الحديثة (ديموتيكي)؛ وتبين لي أنه لا يحسن لا هاته ولا تلك، وحين علقت على ورود كلمات يونانية في القرآن الكريم، رادا سببه إلى ظاهرة الكلمات المسافرة، سلم علي وانصرف مع مرافقه. أما لقائي الثاني معه في تونس فكان صحبة أستاذة الأدب الفرنسي هالة الوردي التي قادته إليَّ لكونه ضريرا. ودار اللقاء حول أمور شتى، منها روايتي "هذا الأندلسي" التي أرسلتها إليه ب PDF حسب طلبه، وحين تبين لي أنه لم يقرأها حدثته ورفيقته عن شخصيتها الرئيسية عبد الحق ابن سبعين الذي لم تكن له معرفة به، ثم عرجنا على الآية 7 من سورة آل عمران، فقال بضرورة عطف "والراسخون في العلم" على "ولا يعلم تأويله إلا الله" فعارضت ذلك العطف لسبب نحوي، كما قال به نحاة ومفسرون إذ أن اللغة فعل وفاعل ومفعول به، مستشهدا بابن حزم القرطبي في كتابه "التقريب لحد المنطق والمدخل إليه" حيث يقول ببطلان عطف "والراسخون في العلم" على الله عز وجل، ويعلل "وليس كذلك وإنما هو ابتداء كلام وعطف جملة على جملة لبرهان ضروري نحوي"، فبدا لي أن المخاطب لا يعرف هذا المرجع؛ وإذ استشهد بابن رشد خطَّأتُ صاحب "فصل المقال"، فما كان منه إلا أن انتفض واقفا وانصرف متشبثا بذراع مرافقته. ومن ثم انقضى ما بيننا، ولم أعد أسمع صوته إلا في اليوتوب وهو يتكلم وأحيانا بعاميته التونسية المتقعرة يجأر بأفكار أقل ما يقال عنها أنها غريبة أو طائشة، من صنف: "القرآن ليس المصحف، وعلينا بدراسته على أسس الفلسفة والعلوم الحديثة"، وقد سبقه إلى هذه الدعوة الفضفاضة الراحل محمد أركون، وكلاهما ظل بعيدا عن الأجرأة والتنفيذ لما دعيا إليه. وفي سياق كلامه السائب اللامقيد بالعقل والروية، يعتبر أن من لم يقرأ التوراة والإنجيل فإسلامه ناقص، ولا شيء في ما كتب يثبت أنه اطلع ولو على سفر واحد من أسفار التوارة الخمسة، ولا على الإنجيل قديمه وحديثه، وإنما كلامه بهرجة وتبجح ليس إلا؛ وفي اندفاع عنيف يهزأ بالمحدث الصحابي أبي هريرة، وينعت الشيخ يوسف القرضاوي بأسوإ النعوت كالجهل والشعوذة، ويذمّ السيد قطب وتفسيره "في ظلال القرآن" ولا اطلاع له عليه، كما أنه يوصي بحل وإزاحة جامعات كالأزهر والزيتونة وبالتماثل القرويين، بدعوى أنْ "لا رهبانية في الإسلام" وهو في هذا الحديث النبوي لا فهم له إلا بما يمليه عليه هواه، إذ الحديث، وهو صحيح، يعني أنْ لا غلو ولا تشدد في أداء فرائض الدين وشعائره، ومن ذلك العزوبة الدائمة والتهجد المتواتر والزهد المطبق، وغير ذلك مما ليس في شرعة الإسلام وتنهى عنه السيرة النبوية الداعية إلى إعمال الوسطية والاعتدال... ويذهب صاحبنا إلى المطالبة بإلغاء المجالس الدينية والفقهية، إذ كلها مع الجامعات المذكورة تنافي عمودية العلاقة بين الفرد والله وخصوصيتها، أي اللائكية التي يتعبدها الرجل كما لو أنها ديانة، ويتمسك أيما تمسك بأذيالها التي وهبته جنسيته الفرنسية وما يتفرغ عنها. والجدير بالملاحظة أنه يسكت تماما ويعمى عن أيِّ إشارة إلى "ولاية الفقيه" في إيران و"إمارة المؤمنين" في المغرب، وهذا إما من باب الخبط أو التقية. والعجب العجاب أن الصديق هذا دُعي يوما إلى مجالسة إيمانييل ماكرون الذي أراد استنصاحه في أقوم السبل وأجداها لربط علائق جيدة ومعقولة مع جمعيات الجالية الإسلامية في فرنسا، فأتى تقوده مريدته الست هالة. فهل تعلمون ما كان جوابه؟ أن يُقْدم رئيس الجمهورية على حل تلك الجمعيات وإقصائها تماما عن أي حوار لكونها لا تؤمن باللائكية حقا ولا تحترم مبادئها وقيمها. ولا ريب أن الرئيس خرج خالي الوفاض وربما نادما على لقاء أخذ من وقته وكان هباء. 2- حالة بوعلام صلصال تعرفت منذ بضع سنين على هذا الروائي الجزائري الأصل، المقيم ببومرداس، أثناء حضورنا معا في معرض الكتاب الدولي بمدينة تيسالونيك. ولما أن تحدثت في الجلسة الافتتاحية باليونانية إذا به في ختامها يسلم عليّ ويقول: أنت ولا شك بربري من أصل إغريقي، فاكتفيت بالرد عليه: أعلم أن في القبايل واليمن أناسا أحمل اسمهم حميش، لكن ما أوقنه هو أني عربي اللسان والثقافة والكتابة، فاغتاظ الرجل وانصرف ولم يكلمني بعد ذلك، فأدركت أنه إنسان فظ غليظ الطبع أجلُفه... وفي صلة معه: من المغربات أن السلك الديبلوماسي العربي المعتمد في باريس بادر إلى إنشاء جائزة منذ ستّ سنوات، تُمنح سنويا لأحد الروائيين العرب الفرنكوفون على اعتبار أنهم يخدمون قضايا العرب وثقافتهم، والحال أن هؤلاء يوجدون في كفالة الأوساط الفرنسية نشريا وإعلاميا وفي رعاية سياسة فرنسا الفرنكوفونية. وبغض النظر عن انطماس البصيرة وفساد التصور لدى السفراء العرب أصحاب المبادرة، فإن ما توقعه مثقفون وملاحظون حصل ليكشف عن ذلك بالحجة المادية والدليل البين. ففي دورة 2012 توافق السلك المذكور على منح الجائزة لذلك الروائي صلصال. وكان على وشك تسلمها لولا أن تدارك السفراء الأمر بحجبها عنه، والفضل في اتخاذ قرارهم يعود إلى مساعي شخصيات عربية مقيمة في باربس، منهم فاروق مردم باي وإلياس صنبار سفير فلسطين في اليونسكو وليلى شهيد سفيرة فلسطين في باريس سابقا، وذلك باعتبار أن الروائي ذاك تصدر عنه مواقف وكتابات عنصرية محقرة في حق العرب وثقافتهم، كما أنه معروف بتأييده لإسرائيل وزياراته لها وتمسحاته بجدار المبكى. وقد عرف وضع الجائزة بعدذاك انسحاب السلك المذكور منها ليسهر على استمرارها مجموعة لاكردير الفرنسية ومعهد العالم العربي. أما صلصال فقد صعّد من توجهه العدائي السافر للعرب والإسلام في روايته "2048" التي استوحى توجهها الإسلاموفوبي من رواية ميشل هولبيك Soumission (ويعني بها الإسلام) واحتفت بها أوساط إعلامية أيّما احتفاء، وهي نص تخيل فيه صاحبه أن سياسيا مسلما فاز في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فتربع على كرسي الإيليزي وأخذ يطبق الشريعة الإسلامية بعد إلغاء اللائكية، ثم ألزم النساء بالحجاب والخمار والفرنسيين جميعا بتبني أركان الإسلام الخمسة، وسوى ذلك من الترهات الهذيانية المقيتة، التي لم يكن الغرض منها عند صلصال إلا ترويع وتحذير أهالي فرنسا ودولتها ومؤسساتها من أخطار الإسلام في حد ذاته ومن جمعياته المسلمة في فرنسا... وهكذا يلتقي هراء صلصال ويتماهى مع نظرية رونو كامي العنصري حول ما سماه "Le grand remplacement" ، أي كون المسلمين حلوا محل الفرنسيين الأصليين البيضان، وأيضا مع كلام ألن فينكنكروت عن أقاليم الجمهورية الضائعة " Les territoires perdus de la République " أي التي يقطنها الأجانب وعلى رأسهم المسلمون، ولو كانوا فرنسيي الجنسية ومندمجين اجتماعيا ويحترمون لائكية الدولة ويؤدون ضرائبهم كباقي المواطنين الفرنسيين؛ أما من بلغ الرقم القياسي في كراهية الإسلام والتحريض على معتنقيه ووصفهم بالمحتلين، كالنازيين، والعاملين على أسلمة الشارع، فهو إيريك زمور، هذا الوجه الكريه، الداعي إلى عودة فرنسا إلى طُهرها العرقي ودينها المسيحي وحضارتها الأصلية. وقد حق إيدي بلينيل منشيء ميديا بارك حين اعتبر في كتابه "من أجل المسلمين" كل الإسلاموفوبيين، ذكرنا بعضهم، بأنهم يسعون إلى استبدال يهود الثلاثينيات القرن الماضي بمسلمي هذا العهد، وتسجيل الإسلام في جذاذة S بلغة البوليس، أي الديانة الأخطر على فرنسا وهويتها ومؤسساتها. وقد بلغ الغلو الإسلاموفوبي والنزوع إلى تدعيش الإسلام درجة من التواتر والحدة، بحيث حدت بالوزير الأول إدوار فيليب -في ما يخص خطاب إيريك زمور مثلا- إلى وصفه بالغثياني، كما أثار اشمئزاز هؤلاء الذين خصهم البحاثة باسكال بونيفاس في كتابه "المثقفون المزيفون" معارضا به كتابه الآخر "المثقفون النزهاء"، وقد تكون لنا عودة إلى الكتابين معا.