جلالة الملك محمد السادس يترأس جلسة عمل خصصت لموضوع مراجعة مدونة الأسرة        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء        أخبار الساحة    الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب        بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بنسالم حميش يكتب عن أركون بين الاختزال والافتراء
نشر في هسبريس يوم 23 - 02 - 2016

إن المعرفة المتماسكة هي نتاج العقل السجالي وليس العقل المعماري. غاستون باشلار
تقديم
إذا كان مفكرو العلوم الدقيقة، كجان توسان ديسنتي وبالأخص غاستون باشلار، قد أقروا داخل الممارسة العلمية بالسّجال (ضد الواقع والخطأ والتعود النظري) كسماد يتغذى به تقدم التفكير العلمي ويتحرر، فما بالكم بوضعه ودوره داخل الثقافة التي لا تحيا إلاّ بالتطارح والتواصل بالأفكار والقضايا، أو ما أسماه التوحيدي "المثاقفة". فرحم الله عهوداً من تاريخ آدابنا كانت القرائح فيها تتقد، والأذهان تنتفض، والمعارك تقوم حول قضايا ومشاغل فكرية جوهرية، فنهضت بها ومعها المعارف في اللغة والتفسير والفقه، وفي الكلام والتصوف والتفلسف، وحتى في العلوم الطبيعية؛ وكان المحرك الأساس الذي هو البحث والنظر يتلقى دفعاته بالذات من التناظر والجدل والسجال...
*
يمكن التسليم بأن محمد أركون كان السبّاق إلى فتح ما يسميه ورش "الإسلامولوجيا التطبيقية"، معارضا الإستشراق التقليدي الذي يدين له بالكثير في تكوينه، خلافا لما يزعمه. ولإنجازه يدعو إلى تسخير ترسانة من المناهج المنتسبة إلى مجمل العلوم الإنسانية التي لا نعتقد أنه كان يلم بها حقا، بسبب شساعة مجالاتها ومناحيها المعقدة الشائكة، والدليل أنه كلما استعصت عليه بعض مفاهيمها ونظرياتها إلا ووصفها بالمرعبة (effrayantes). والدعوة في حد ذاتها قد يجوز جدلا البحث فيها، إلا أن إشكالها يلوح سلبا ما إن نقف على غايات الداعي المتأرجحة بين الكمون والظهور، لكنها لا تخفى على العارف بالموضوع المدروس والمحتك بآليات التحليل ومناهجه وبتاريخ المعطيات والنصوص. وفي حالة أركون الذي كتبتُ عن بعض أعماله سابقا وشاركت في ندوات تكريمية بالفرنسية حوله، هناك أفكار ثابتة صلبة لا يطرحها كفرضيات تجريبية، بل كمقدمات نظرية يتمسك بها بشدة ويبني عليها، منها اختصارا:
1/ النص القرآني، وهو من أهم مدارات أبحاثه، يخضعه، كأي نص مكتوب، لمنهج عُرف به الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (وطبقه على مواضيع مغايرة)، وهو المنهج التفكيكي (أو حرفيا الهدمي أي هدم المبني déconstruction). وتفضيل الدارس لهذا المنهج على المنهج التحليلي المعهود يشي بما يريد إظهاره والتأكيد عليه، وهو أن ذلك النص يستمد بنيته وروحه من تاريخيته (historicité) أي كحدث أو واقعة (un fait) تنسحب عليه كل صفات الأحداث التاريخية الوازنة المؤثرة؛ وبالتالي نراه لا يقيم اعتبارا لما تعارف عليه المفسرون قديما وحديثا، أي للوحي كعنصر مؤسس محايث وبالتالي للإعجاز والإنباء عن الغيب؛ فكل هذه المقولات وما يتولد عنها ويتفرع إنْ هي عند المفكك إلا مقولات "ميثية" (أسطورية وليس قصصية كما يسيء التعريف)، وما يشفع لوقعها وتأثيرها في تمثله صادر رأسا عن طاقتها العجائبية (le merveilleux) ليس غير. وبهذا التوصيف، الذي يكرره على الأسماع حتى في يوتوب، يفسر مثلا الآية 40 من سورة التوبة التي ترمز إلى خبر اختباء الرسول وأبي بكر في غار بجبل ثور (جنوب مكة)، حيث نسجت عنكبوت على مدخله خيوطها فحجبتهما عن رؤية مترصديه وملاحقيه من أعدائه القرشيين،، كما ورد في سير نبوية. ويرى أركون أن هذا الخبر إن هو إلا خبر عجائبي (أي خرافي)، تقاس عليه قصة الإسراء والمعراج وظهور الملك جبريل وما إلى ذلك كثير.
2/ ما تنطبع به الكتابات الأركونية هو نهجها الإختزالي الصارخ، فهو مثلا يُسقط من حسابه التراث الأدبي والصوفي العربي-الإسلامي بكل نصوصه الهائلة وتجلياته الإبداعية الشيقة؛ والأدهى منه والأعجب تقريره الاعتباطي بنهاية الفلسفة في الإسلام مع وفاة أبي الوليد ابن رشد، غير آبه لتراث ضخم أنتجه أعلام عظام برزوا في القرون التالية، من مصف الشيخ الأكبر ابن عربي وابن سبعين وابن خلدون والسهروردي والملا صدرا الشيرازي، وغيرهم كثير، وذلك خلافا لما ذهب إليه باحثون أكفاء (هنري كوربان، لوي ماسينيون، آن-ماري شيمل، كريستيان جامبي، عبد الرحمن بدوي...). ويشمل ذلك المنهج الإختزالي التعسفي قطاعات عديدة من الأعمال الفكرية والدراسية بالعربية، إذ يرميها، حتى من دون اطلاع، في أتون "الإيديولوجيا" التي هي عنده نقيض "العلم"؛ والعلم هو، في اعتقاده الراسخ، ما يضطلع به ويمارسه هو. ويذهب به الأمر إلى ادعاء القدرة على التفكير في ما يظل عند الآخرين، حتى من النخب، طيَّ منطقة "اللامفكر فيه" [كذا!]. ومن ثم فإنه ينظر إلى ثلة من خيرة الأسماء العربية في مجال البحث والفكر بنوع من الإزدراء والإستعلاء السافرين، وهم كما يعدهم عبد الله العروي، أنور عبد الملك، هشام جعيط، إدوارد سعيد (هكذا بالجملة!)، ولا دليل على أنه قرأهم فعلا، فيكتب عن هؤلاء الأعلام المتفوقين عليه معرفةً ودراية: "إنهم إذ ينتقدون المستشرقين لا يأخذون بعين الاعتبار أنهم ينتمون هم أيضا إلى منهجية العلم الغربي وروحه ذاتها. ولكن، لأنهم يتكلمون باسم العرب أو المسلمين فهم يعتقدون أنهم بمنأى عن الزلل". والحق أن لا أحد منهم قال يوما بعصمته، لكنهم بهويتهم، خلافا للمفترى، كانوا معتزين وعنها منافحين. كما أنه بالنهج الإختزالي والاستصغاري نفسه يقر بجرة قلم أن "النهضة العربية" في القرن التاسع عشر إن هي إلا إسم على غير مسمى، مبالغ في وضعه وترويجه، وشتان ما بينها وبين نهضة أوروبا القرن السادس عشر؛ وفي سيل كلامه السائب اللامدقق، يرى أن الدولة الجزائرية (وسواها من الدول العربية) لا تعدو أن تكون دولةً-حزبا (Etat-parti) لا أكثر، تقوم على أساس النزوع الوطني والإيديولوجيا المناضلة، الخ. ولو كان الرجل في كل كلامه ذاك محققا موثقا لأخذناه على محمل الجد وحاورناه بالتي هي أحسن، لكنه في الغالب الأعم إنما يبرع في اللوغوماشيا، أي الكلام المتهافت الملقى على عواهنه إلقاءا.
3- اللافت للنظر عند أركون هو علاقته المتوترة الصدامية مع موضوعته الرئيسية (الإسلام)، شُغْلِ أيامه وأعماله الشاغل، به يتعيش ويتقلب في الألقاب والمناصب؛ إنها علاقة - يا للمفارقة الثقيلة!- مشوبة بالعداء والكراهة، تبعده عن سبل الفكر الفلسفي الصحيحِ العميق، إذ تُحوِّل المنهج التفكيكي بين يديه إلى معولٍ حادٍّ نشيط، يتأدى به مثلا إلى اعتبار سورة التوبة وآيتها الخامسة خاصة متضمنةً بذور العنف الإسلامي عموما، ولا يأبه حقا لأسباب نزولها ولا للسياقات القاهرة التي رافقتها، وعلى رأسها نكث المشركين للعهود المبرمة وإخلالهم بمبادئ السلم والأمان فيها؛ كما أنه -وهذا ما لم ينتبه الدارسون إليه- في أطروحته البكر عن علي ابن مسكويه (وهي للإشارة سليلة المسار الاستشراقي نهجا ومناخا) ذهب إلى ليِّ نصوص هذا المفكر الفذ لتقويله ما لم يقله، وألقى عليه من الإسقاطات الذاتية ما لا يطاق. فعنده -ويحسن أن نزن قوله الآتي كلمةً كلمة- أن ابن مسكويه الإنساني النزعة (humaniste) "سعى إلى عرض الطريق الإغريقي نحو وحدة البشر، أي إلى استبدال الالتزام الجماعي لمجموعة مكلفة من طرف نبي أو خليفته بالالتزام الفردي للإنسان العاقل". وعنده أن الإنسان العاقل تجسده فلسفيا وعمليا المنظومة الأرسطية التي يقوم أسها وبنيانها على اللوﮔوس (logos) أي العقل (لغةً وخطابا وتمثلا) في مقابل الميثوس (muthos) القائم على طاقات الوجدان والحدس والخيال. ويمثل القطبين في الفلسفة اليونانية نفسها أرسطو وأفلاطون. والمشكل عند أركون هو أنه يكد ويستميت في وضع تقابل ثنويٍّ تضادي بين المفهومين، يسخره للتخلص مما يتأباه وينفر منه، مقررا اعتباطيا متى وأين ولدت العقلانية ونشأت، ومتى انتهت وبادت وعلى أيدي من؛ والحال أنها في تاريخ الفلسفة ذاتها، حتى اليونانية وما بعدها، كانت في علاقات تجاذب وتقاطع مع التيارات الحيوية والوجودية تحديدا. ليس هذا وحسب، بل إن الثورة الكانطية النقدية دحضت كل تصور للعقل دوغمائي لا متبصر، كما تعبّده أركون؛ ويعمق هذا الدحض ويدلل عليه فلاسفة من صنف ماركس ونيتشه وبرگسون وفوكو، علاوة على أسماء وازنة في العلوم الإنسانية كفرويد ودوميزيل ولفي- ستروس، وغيرهم. ولعل القاسم المشترك في أعمال كل هؤلاء يكمن في التأكيد على تاريخية العقل البشري وارتباطه الخفي في انبنائه واعتماله بملكات مغايرة، كما مع ما يسميه علم النفس التحليلي منذ فرويد "اللاشعور"، وذلك من منطلق أن الإنسان كائن حي ومتكلم وعامل. وكان لأبي حيان التوحيدي، أن سجل في كتابه المقابسات: " في أن بعض المسائل توجد بالفكر والروية وبعضها بالخاطر والإلهام" (المقابسة 55). وللإشارة فقد كان أركون ينوه بهذا العلَم الألمعي، لكنْ من دون أن يبرهن على أنه استوعب فكره حقا في كليته، ووعى دلالة مؤلفه الإشارات الإلهية، وقاس نبضاتِ وجوديته العميقة وقوة بلاغة لغته المتوهجة وبيانها الأخاذ. ولو تيسر له هذا فعلا لما بلغ في شأن اللوگوس حد الهوس والتعبد، ولما جعل من العقل المولى المطلق المهيمن الذي يعلو ولا يعلى عليه. وهكذا دلل على نزوعه الفلستيني، أي النافر من الذائقة الفنية والجمالية والميال إلى المقاربة التصحيرية في مجال حياة الفكر والمفاهيم. وفي سابقة موغلة في الغرابة (يمكن مشاهدتها على يوتوب) استُدعي محمد أركون لمناقشة رواية جاك أتالي، رابطة اليقظين، شخصيتاها ابن رشد المسلم وابن ميمون اليهودي، وبدل أن يتطرق المدعو للموضوع، لم يفتر عن الكلام في مؤلفاته ومقولاته الأثيرة. وهذا دليل آخر على عزوف صاحبنا عن الانتاج الروائي والأدبي عموما، أي عن فليستينيته. ولو أنه اطلع حقا على الرواية لربما كان اكتشف أخطاءها التواريخية الفادحة ونبه إليها.
عودا إلى ابن مسكويه، لنترك للقارئ مهمة تفقد مظان النصوص حتى تتبين له صورة أخرى من صور الغلو والتلبيس في نمط التفكير الأركوني وطرائقه، وفي ترسانته المفهومية المتحذلقة بقدر ما هي معتلة. وحسبنا هنا أن نحيله إلى أحد أهم مؤلفات ابن مسكويه، الهوامل والشوامل، حيث يجيب فيه عن أسئلة عميقة ثاقبة لمعاصره ومزامله أبي حيان التوحيدي؛ ولينظر أيضا في كتاب آخر، هو تهذيب الأخلاق، بادئا بقراءة مقطع واحد عنوانه "أسباب الانقطاع عن الله"، ويسميها الشقاوات التي يتجنبها الإنسان السعيد الساعي إلى "القرب من الله تقدس إسمه"، فيلامس ذلك القارئ ما ينتهى إليه الباحث الخبير، وقد سقناه.
4- بضاعة الإسلامولوجي أركون من اللغة العربية دون المستوى المطلوب من متخصص، فإن تكلمها أَلَكَنَ ولحن، وعن كتابتها عجز وتأخر؛ ومع ذلك لا يتورع في ادعاء أنه أول من صاغ كلمة أنسنة التي تترجم humanisation وليس humanisme كما يظن، ويخبط خبط عشواء حين يوهم أن هذا المفهوم الأخير يطابق ما يسميه العرب "الأدب"، وكذلك كلمة مخيال فهو مسبوق إليها، ووزنها في العربية مفعال مقرر ثابت. ولو اتصف أمره بغير ذلك لكان -مثل هشام جعيط وعبد الله العروي- كتب بتلك اللغة وألف، ولكان صحح ترجمة أعماله وقوّم، وأنقذها من مزالق الأخطاء والغلطات المستشرية فيها والحائلة دون بلوغها مرتبة البيان والصفاء التي بدونها، خلا عند زمر الحداثيين المزيفين والأطاريحيين المتهافتين، لا إشعاع ولا تأثير، وبالتالي لا قاعدة واسعة من القراء الشغوفين الحقيقيين. وقد وعى هو نفسه بوضعه هذا واشتكى من قلة إقبال القراء عليه، الفرنكوفون وأكثر منهم بالعربية، مع أن ستة عشر مؤلفا نُقل إلى هذه اللغة.
5- رجل بالمواصفات التي أوجزنا أهمها، وبسمْت الرصانة والوقار عليه، وبقدرته على تصريف لغة فولتير والإرتجال بها، لا عجب أن تستقبله أوساط أوروبية، وخصوصا فرنسية، بالترحيب والتهليل، وأن تحتضنه داخليا وعبر مراكزها المبثوثة في العالم العربي، لكن دونها دور النشر الكبرى (وهنا مكمن جرحه الغائر الآخر). وعلاوة على دروسه سابقا في معهد الدراسات الإسلامية بالسوربون3 ومحاضراته ومقابلاته، رأيناه أيضا عضوا في لجنة ستازي (Stazi) المكلفة من طرف حكومة جاك شيراك (2003) بتقديم تقرير عن اللائكية، تستصدر على ضوئه السلطات العمومية قانونا لمنع العلامات الدينية في المدرسة والفضاءات العمومية، وأبرزها ما سمي "الحجاب الإسلامي"؛ ثم ها صاحبنا واحد من أشد المدافعين عن قانون اللائكية لسنة 1905، ويذهب تحمسه لها إلى حد انتقاد فرنسا (ونادرا جدا ما ينتقدها) لكونها لم توسع وقتذاك تطبيق تلك اللائكية على الجزائر، فتشمل بأنوارها مستعمرتها القديمة؛ وهذا الانتقاد المتأسف فاه به جزائريان آخران هما مالك شيبل وبوعلام صنصال، وفي تقديرهم جميعا أن فرنسا لو فعلت ذلك ورعته –يا لرعونة الفكر!- لكونت منذ ذاك الوقت مع الجزائر قوة عالمية من مائة مليون نسمة، ولكانت وضعت لها الشروط والدروع للحؤول دون نشوء التيار الأصولي وترعرعه [كذا!]. ولقد كان أركون يشعر بأهميته لدى السلطات الفرنسية، فذهب إلى حد مطالبتها بإنشاء معهد وطني للدراسات العلمية للإسلام، لكنها لم تستجب لعرضه اقتناعا منها، ولا شك، أن معالجتها للديانة الثانية في فرنسا سوسيو-سياسية وليست إبستمولوجية وتفكيكية، إذ مكان هذا الصنف الدراسي الطبيعي هو الجامعة ومراكز الأبحاث في الديانات بشعبها وتخصصاتها؛ هذا علاوة على أن صورة الرجل عموما ظلت سلبية عند مجموعة مسلمي فرنسا وحتى خارجها، وتقر بكونه، بغض النظر عن ادعاء تعاطيه البحث العلمي، إنما يستعمل ترسانة من المفاهيم والمناهج (يمكن تسميتها أركونيات arkounoïdes) تروم في آخر التحليل تقويض أساسيات الإسلام دينا وثقافة.
لو أن مدار البحث عند أركون كان حول ما حفل به "علم الكلام" من قضايا جسيمة كقضية خلق القرآن عند المعتزلة الذين ذهب أحد أقطابهم، هو إبراهيم النظّام، إلى القول بأن الإعجاز القرآني ليس في لغته ونظمه بل قي معانيه وإنبائه عن الغيب؛ لو أن مدار البحث عنده كان في الناسخ والمنسوخ وفي الآيات المتشابهات، رغم أنها ليست أم الكتاب، أو كان في المضامين المتعارضة، منها مثلا: الإنسان خُلق من تراب/ الإنسان خليفة الله في أرضه// ملازمة الله للعالم/ تعاليه عنه// التخيير/ التسيير// العقل/ الإيمان// لا إكراه في الدين/ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... لو أن أركون في هذه المواضيع وأخرى كثيرة من صنفها فكر وبحث وصنّف إذن لأجاز المتخصصون ذلك وناقشوه فيه وجادلوا؛ لكن هذا يصير غاية في الصعوبة بل الاستحالة حين يذهب صاحبنا إلى حد نفي الأصل الإلهي عن القرآن وإرجاع كثير من أساسياته، كالوحي والغيوب والإعجاز، كما أشرنا، إلى العقلية الميثية والعجائبية. ومن نصوصه الأخرى الدالة ما ورد في إحداها، بعد لف ودوران مفاهيمي ومناهجي وتمارين تفكيكية، من أن نظرة اللامؤمن مخالفة تماما لنظرة المؤمن في مسألة عجائبية القرآن (ومن قال يوما بغير هذا؟) وعلى إثر موازنة بينهما رأى أن الأول يعمل في استيعاب القرآن وفهمه بعاطفته ووجدانه، فيما الثاني يشغّل إدراكه الحسي وطاقته العقلية. ويكشف المحلل-المفكك عن تحيزه للموقف الثاني وذلك من خلال دعوته الملحاحة إلى نزع الطوابع الميثية والمغالطتية والإيديولوجية أو ما يراه كذلك في دراسة الإسلام عقيدة وشريعة.
إن سلوك أركون المستميت والمدمن على استعمال أفكار ومقولات متشنجة راسخة والترويج لها يبعده عن دوائر الفكر الفلسفي، وحتى عن البحث القويم والموضوعي في الإنسانيات، ويدخله في المقابل بين طيات الكتابات المؤدلجة التي لا تفيد الفكر ولا العلم، ولا تصمد أمام رياح التصفيات النهائية فالنسيان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.