كان لي حظ اقتناء كتاب الباحث د محمد حبيدة "بؤس التاريخ – مراجعات ومقاربات" الصادر عن دار الأمان بالرباط سنة 2014، أي أن تأليفه كان منذ ست سنوات تقريبا، والملاحظ للوهلة الأولى أن الباحث المحترم قد بذل جهودا كبيرة في مراجعاته ومقارباته لا شك أخذت من وقته وطاقته الشيء الكثير، فالشكر موصول له طبعا على هذه الإضافة النوعية حول التفكير في تاريخ المغرب ومشاكل البحث في ثناياه وأحداثه ومحطاته وجهاته. يطرح عنوان هذا الكتاب "بؤس التاريخ" إشكالا دلاليا ومعرفيا عميقا، فالبؤس في السياق الأصل يلتصق بالكائنات والبشر عموما، بما هو ترد أو تخبط أو انحطاط وحينما نقرنه بظاهرة معرفية ما فالبعد يأخذ عمقا مختلفا إذ ما معنى بؤس التاريخ في نهاية المطاف؟ بصيغة التعميم قد يعني تردي الماضي وبؤسه أو ما كُتب عن هذا الماضي، أو قد تحيل العبارة إلى التاريخ كفعل بشري فيه وبه وعنه يعني زمن المجتمع أو الشعب بشكل عام (ونحن نقصد المغرب تحديدا) والذي لم يتبع سيرا خطيا تراكميا كما هو معروف بل عرف جمودا واضحا لبنياته حتى فترات متقدمة، هل يمكن وصم سمة الجمود هذه بالبؤس؟ سؤال مشحون ذو مسارب متعددة ومتشعبة إذ إن ضبابية العبارة واضحة لكل عين مجردة، لكن يبدو أن الأستاذ المحترم محمد حبيدة صاحب الكتاب قد تنبه للأمر وحاول تداركه فدقق أكثر تحت هذا العنوان المثير إعلاميا أكثر بكثير من مستوى الرؤية أو المنهج أو المعرفة التاريخية، وعلى هذا النحو أضاف تحت العنوان إياه عبارة تحدد منهجيا موضوع الكتاب وأفق انتظاره "مراجعات ومقاربات" بما يفترضه المفهومان معا من أسئلة وإشكالات ذات طبيعة تاريخية منهجية ومعرفية معا. الكتاب المعني أراد له صاحبه أن يكون عبارة عن تجميع لمقالات متعددة تصب في حقل البحث التاريخي في نهاية المطاف، محورها جوانب من تاريخ المغرب، ومن ثمة، طرح بعض مشاكل البحث التاريخي واستنطاق أو قراءة تراكماته وضمنيا أسئلة الأفق بشكل عام، والبناء المنهجي للكتاب يتأسس تارة على أسئلة التحقيب ثم أشكال تماس البحث التاريخي مع العلوم الإنسانية وخاصة علم الاجتماع و قضاياه وتارة أخرى يحلل انشغالات الباحثين المغاربة في حقل التاريخ كمجال التحقيق والتاريخ العلائقي وأخيرا الدراسات المونوغرافية، وكل هذه المباحث والانشغالات – نقصد المونوغرافية بالأساس - لم تصل في أغلبها إلى مستوى التركيب في نظر الأستاذ حبيدة بل اقتصرت على إثارة أسئلة وقضايا جزئية ودون الاستمرار على نفس خطوات الرواد وغالبا تحت تأثير هاجس تصحيح الإستوغرافيا الكولونيالية الذي حضر عند جيل هؤلاء الرواد من المؤرخين ليطل البحث بعد ذلك على قضايا وإشكالات أخرى تخص طبيعة المجتمع المغربي أساسا والبنيات المتحكمة فيه، مما يعكس هموم الجيل الثاني من المؤرخين المغاربة غير أن حقل البحث التاريخي المغربي بات يفتقر في مرحلة لاحقة إلى التراكم المطلوب، وهذا ما يفسر ما وصفه صاحب الكتاب بالانسداد في مشاغبة التيمات التاريخية وطرح الإشكالات اللازمة، لا سيما في ظل الشروط الراهنة التي تعيشها الجامعة المغربية ومعها البحث التاريخي عموما، وهي شروط غنية عن التعريف. قلنا إن كتاب "بؤس التاريخ" يتوزع إلى ثلاثة أقسام: مشكلات منهجية – بنيات اجتماعية – دروب بحثية، والواقع أن تجربة الأستاذ حبيدة في البحث الجامعي والاطلاع على المدارس التاريخية من جهة وأزمة البحث التاريخي وضعف الإضافات النوعية من جهة أخرى، كانت هي الأرضية التي شكلت بؤرة كل تلك الأقسام والمقالات. مشروعية الحديث عن ما وصفه صاحب الكتاب في المقدمة ب "الرؤية النقدية" تتحدد كمؤشرات دالة على أزمة عميقة في البحث التاريخي خاصة خلال العقود الأخيرة، من سيادة للعشوائية في الجامعات المغربية وتكرار نفس الأطاريح والموضوعات والدروس أيضا، حتى إن المثال – وأنا انقل وجهة نظر صاحب الكتاب- الذي كان يحرك الباحث المغربي انقلب رأسا على عقب مما هو معرفي صرف إلى البحث عن المواقع والمنافع، وهنا جاء التوصيف الأول والهام بقوله "هذا ليس حكما على الإطلاق، هذه معاينة لبؤس معرفي يشهده الجميع". ودون إغفال عوامل هذا الوضع المتردي قياسا إلى تراكمات السبعينيات والثمانينيات حيث غياب بنيات التأطير وإهمال اللغات الأوربية والباحثين الغربيين عموما (حسب حبيدة) وضعف المتابعة النقدية، ولعمري فقد عاب صاحب الكتاب تسرب أحكام القيمة ذات الشحنة الدينية أو القومية إلى عدد من الدراسات مما أفسد الحياد القيمي أو الأخلاقي ونحن نتساءل من جانبنا إن كان لجوء صاحب الكتاب في المقابل إلى تمثل مفاهيم معينة يعد في حد ذاته جوابا ما على هذا الإشكال، ويبدو أن صاحب كتاب "بؤس التاريخ" قد أحس بنوع من الإطلاقية في تخريجاته السابقة فاستدرك بإقراره وجود مؤرخين كبار أسسوا لأدوات جديدة برؤى ومناهج متميزة استقوها من جامعات أوربا وأمريكا (كذا) غير أن تأثيرهم كان قليلا بمن فيهم تلامذة المؤرخ المعروف عبد الله العروي، الذين لم يستطيعوا ترسم خطاه ولا متابعة تصوراته العميقة للتاريخ عموما وتاريخ المغرب على وجه الخصوص، ويعيد الباحث حبيدة سبب ذلك إلى تأثير العروي بالدرجة الأولى على المشتغلين بالفكر الفلسفي في المغرب، إضافة إلى العلوم الاجتماعية والدراسات الأدبية. ثمة مفهوم يلح عليه صاحب بؤس التاريخ وهو "علم الإستوغرافياHistoricité " أي التاريخ باعتباره كذلك وهذا يذكرني تماما بمشكلة علم الأدب والأدبية Littérarité حيث يُطرح مشكل قارة الأدب في حد ذاتها أي كمباحث للأدب وضمن الأدب وداخل النص الأدبي بما هو كذلك وهي المباحث التي تتقاطع ضمنها – شئنا أم ابينا - مختلف حقول المعرفة كاللسانيات والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والإتنولوجيا ...، ونحن نعلم أن أبحاث كل النقاد والباحثين المحسوبين على التيار البنيوي: تودوروف – بارت – لاكان – بروب – جاكوبسون حللوا كل من موقعه ومجال اشتغاله هذا الإشكال وفي نهاية المطاف طرح رولان بارت سؤال النقد الأدبي كبيرا دون حسم يذكر لسبب واضح وهو تداخل كل هذه المجالات في النص الأدبي أو الإبداعي فهل يمكن طرح السؤال الإشكالي نفسه حول البحث التاريخي مع الاختلاف في المفاهيم والمنطلقات بين المجالين الإنسانيين؟ وكأني بصاحب كتاب "بؤس التاريخ" تنبه فجأة إلى وقوعه في مطب طابع منبري أو مدرسي فظ أو ضرب من المعيارية الفجة فتساءل في المقدمة هل أقدم بديلا ما؟ يجيب مباشرة بالنفي متخلصا على نحو معين من المأزق الذي أوشك على الوقوع فيه ودفعا للحرج المعرفي، الشيء الذي يعطي لمفاصل كتابه نوعا من المشروعية لا تحددها الوضعية الجامعية في نهاية المطاف بل قيمة الإسهام نفسها من خلال هذا الكتاب. عمق القضايا التاريخية والمنهجية التي يطرحها المؤلف لا يرقى إليها الشك، فمسألة تحقيب تاريخ المغرب تطرح تساؤلات صعبة في تحديد المفاصل وأشكال الامتداد والتقطعات على صعيد هذا التاريخ، وكذا حدود تطبيق التصنيفات التاريخية المعروفة الصحيحة عموما في ما يخص المجتمعات الأوربية لكنها تطرح أسئلة عريضة على صعيد تواريخ الأمم والشعوب التي لا تنتمي بالضرورة إلى الحيز المعني، وبالتالي لم تحقق تراكمها المطلوب ماديا ورمزيا وعلى صعيد كتابة تلك التواريخ. وبارتباط مع مسألة التحقيب في تاريخ المغرب تطرح أسئلة عدة بخصوص الفترة ما قبل الكولونيالية بحدة، وبعد تقديم إسهامات باحثين ورواد كعبد الله العروي وعبد الأحد السبتي ونموذج التوفيق في كتاب "إينولتان" بانفتاح على أسئلة الاجتماع والأنتروبولوجيا والجغرافيا يخلص إلى أن العصر الوسيط في المغرب امتد طويلا، يؤكد ذلك مؤرخ الحوليات الفرنسي بروديل ويحيل عليه صاحب بؤس التاريخ باعتبار أن أنماط العيش والسلوك البشري والعلاقات بين الحاكمين والمحكومين وبين فئات الناس وأطر المعيش اليومي، من أكل وشرب ولباس وعادات وتقاليد في مغرب العصر الوسيط كلها تندرج ضمن "تاريخ بطيء السيل والتحول، مكون في الغالب من رجوعات ملحة وحلقات متكررة باستمرار"، بل يعد الكاتب في أغلب مفاصل الكتاب أن تاريخ المغرب أغلبه عبارة عن عصر وسيط ممتد ضاربا صفحا تماما عن جدلية التاريخ نفسه مبطنا - فيما نتصور- رؤية معينة أو سلبية حتى متمحورة حول الإسلام كتشكيل ديني وفكري طبع الدولة المغربية والمجتمع المغربي على حد سواء طيلة العصر المذكور أو بالأحرى العصور المذكورة. وينتج عن هذا الخطاب توظيف مفاهيم ك "التخلف" و"الانحطاط" و"الجمود" و"التكلس" بل والتأكيد على استبطانها من طرف المجتمع المغربي باعتبارها رغم خصائصها تلك الأصح والأوفق بينما أوروبا بدأت مسيرة النهضة والاكتشافات وعمقتها عبر تحكيم العقل والتجربة والمغامرة السياسية والمعرفية والعلمنة ومركزية الإنسان، علما بأن الشروط التاريخية نفسها تثير نقاشا غنيا متشعبا ما زال مستمرا لحد الآن، كما أن محاولات الإصلاح التي نهجها سلاطين المغرب منذ 1845 على الأقل تضع أطروحة العصر الوسيط الممتد على المحك المعرفي والمنهجي ومثل ذلك فرضيات أخرى كأطروحة العزلة واقتصاد القلة وعنف المخزن مقابل سيبة القبائل ودور الضرائب إلخ. يحلل الباحث حبيدة بعض إشكالات وانشغالات الباحثين المغاربة من الجيل الثاني وقد توزعت بين التحقيق الذي يطرح - حسب الباحث نفسه - مشكلة الوظيفة المتراوحة بين عملية التحقيق وكتابة التاريخ من جهة ثم التحقيق كعمل مؤسساتي من جهة أخرى وهناك التاريخ العلائقي ونماذجه العلاقات المغربية المغربية الفرنسية – المغربية البرتغالية – المغربية الجزائرية – المغربية الامريكية- المغربية العثمانية – المغربية الإنجليزية - المغربية الإيطالية على سبيل الأمثلة لا الحصر، وقد حقق تراكمات لا بأس بها وخاصة في فهم واستيعاب المرحلة الممهدة للاستعمار والاحتلال وفرض الحماية على المغرب بما طبعها من مناورات وأحابيل دبلوماسية وعسكرية ومجالية وأخرى ذات طابع مالي اقتصادي، وأخيرا البحث المونوغرافي وهو ما يهمنا أكثر في هذا المقال. في القسم الثاني من الكتاب يتوجه صاحبه نحو ما هو بنيوي ويلاحظ نقص الاعتماد على التاريخ الإحصائي الشيء الذي نبه له من قبل المؤرخ عبد الله العروي في كتابه "مفهوم التاريخ" ثم موضوعة استبداد نسق التنقل لدى كثير من قبائل المغرب من أجل الكلأ والرعي – وأخيرا نسق عتيق: أي امتداد العصر الوسيط كخاصية مغربية تشير إلى سيطرة الإسلام فكرا وممارسة، هذه محاور الجزء الثاني من كتاب "بؤس التاريخ" وهي كما نلحظ تستمد آلياتها ومفاهيمها من العلوم الاجتماعية كرافد ضروري للتحليل التاريخي المعمق. المفصل الأخير يمثل ما يشبه مقترحات عمل على شكل تيمات ومواضيع أعتقد أن صاحبها يعتبرها بمثابة مفاتيح إن لم تكن سحرية فعلى الأقل أساسية للخروج من عنق الزجاجة بالنسبة إلى البحث التاريخي بالمغرب، أكثرها يربط التاريخ بمجال إنساني أو طبيعي معين وهذا ما يحيل على مدرسة الحوليات عند لوسيان فيفر ومارك بلوخ، وقد سماها صاحبها دروبا بحثية كالتاريخ والبيولوجيا – التاريخ والمناخ – التاريخ والجغرافيا التاريخية – التاريخ والذاكرة – التاريخ الخفي: تاريخ المرأة – ثم ما وصفه حبيدة بالتاريخ الحارق: عنف وعنف مضاد. وعلى ما تثيره هذه المحاور من قضايا وإشكالات هامة في تاريخ المغرب، فإن الأهم كما نراه بالنسبة إلينا هو تصور صاحب الكتاب للمقاربات ذات الطبيعة المونوغرافية وهي التي تتصدى بالبحث والتنقيب والتحليل لتواريخ المناطق والمدن والقبائل المغربية المختلفة في فترات معينة أو عبر مجالات محددة، وباعتبار التقاطعات التي أعتبرها مشروعة تماما بين اهتمامات الباحثين وعموم المهتمين. بما أن هذه التقاطعات تصب في بعض همومنا وانشغالاتنا بالتاريخ المونوغرافي، فإنه من المشروع تماما وضع أسئلة وإثارة قضايا بل ومحاور نقدية ضرورية، ولما أقبلت على كتاب "بؤس التاريخ" فعلت تحت تأثير هذا الدافع أساسا وبما يستوجب التتبع والتحليل والتفسير والأفق النقدي أيضا، مادام كل إنتاج مكتوب سواء كان إبداعا أدبيا أو بحثا اجتماعيا أو تاريخيا أو لغويا وهلم جرا يصبح في ملك الجمهور وعموم الباحثين بمجرد تأليفه وإخراجه لسوق التداول، ولذا ما طرحته وأطرحه في هذا المقال ليس قراءة منهجية بقدر ما يتعلق الأمر بعدد من الملاحظات الكفيلة بإغناء الحوار العلمي والنقاش الموضوعي حول نقاط خلافية وربما هنا وردت في كتاب بؤس التاريخ نتجت إما عن نقص في التوثيق أو عن خطأ في توصيف المجال الشيء الذي سجلناه في حينه. مع وفرة الإسهامات بالنسبة إلى القبائل والمدن والزوايا، ورغم تعدد الإشكالات وسبل المقاربات والتيمات، فإننا نختلف مع صاحب الكتاب حول وجود ما سماه "إشباعا" في هذا المجال ومن الغريب حقا أن نصادف مثل هذه القطعية في الرؤى والتحاليل، قطعية تبطن خطابا للنهايات غير مقبول في العلوم بمختلف أنواعها دقيقة أو إنسانية معا فما بالك بعلم التاريخ والتاريخ المونوغرافي في المغرب على وجه أخص وعمره الافتراضي لا يتجاوز ثلاثة عقود، مع إعادة التأكيد أن العلم الإنساني والطبيعي لا يمكن أن يستنفذ فهو سيرورة أو مسلسل مستمر Processus وليس بنية ثابتة ومنتهية. نخص هنا الرؤية الزمنية لأنها بؤرة التاريخ، أما مجاليا فنعتقد أن المونوغرافيات في المغرب لم تستنفذ كل إمكاناتها وأرصدتها وإضافاتها العامة والهامة لتاريخ المغرب خلاف ما يعبر عنه لفظ "إشباع " الوارد في الكتاب، فضلا عن أن ما تراكم منها لحد الآن لا يتعدى المدن الكبرى (وهي نفسها فيها نظر) وبعض المدن المتوسطة والصغيرة وواحات معدودة وبعض الزوايا والقبائل، بينما بقيت مدن ومناطق متعددة من المغرب دون مونوغرافيات أو حتى كتابات تعرف بها وبتاريخها، فضلا عن أن هناك مدنا ومناطق لا تكفيها دراسة مونوغرافية واحدة بل تحتاج إلى عدة مونوغرافيات بتعدد زوايا الدراسات ووجهاتها، تبعا لتعدد وتشعب تاريخها وعنصرها البشري بخصوصياته الثقافية والمجالية وإسهاماته في تاريخ المنطقة أو المغرب ككل، وفضلا عن هذا وذاك فالآفاق تظل مفتوحة باستعمال أجناس مصدرية جديدة كما ورد في الكتاب خاصة لدى الجيل الثاني من المؤرخين ومن نحا نحوهم فقد دخلت ورشة المؤرخ كل من كتب النوازل وكتب المناقب والتراجم والأنساب وكتب الرحلات بدل الاقتصار على المصادر التقليدية لتاريخ المغرب. طبعا من الصعب استيعاب كل الدراسات المونوغرافية خاصة وأنها تحفل بالمعطيات والمعلومات والقضايا وعبر الوثائق والخرائط والبيانات المختلفة التي إما تنتمي إلى ما هو جزئي خاص بالمنطقة أو تتعلق بما هو عام مرتبط بتاريخ المغرب، لكن دعنا نتساءل: كيف يمكن أن يستكمل الباحث أدواته واستراتيجيته ورصيده الوثائقي والمنهجي والمعرفي دون الاطلاع على أغلب المونوغرافيات على الأقل؟ ولعله نشاط شاق تستطيعه أوراش البحث وفرق العمل ومختبراته ومراكزه، أو عبر مراحل محددة ومن ثمة فإن التركيب الذي تحدث عنه حبيدة في الكتاب يبقى عملا مؤجلا على وجه العموم رغم الانتقال الذي حققه بعضهم من الجيل الثاني خاصة كالمودن وبن حادة والسبتي ومحمد مزين على سبيل المثال لا الحصر، مع تنوع تلك الاعمال المونوغرافية من مقاربات موضوعاتية أو تاريخية حدثية أو اجتماعية اقتصادية أو تنتمي إلى مجال تاريخ الذهنيات كالزوايا مثلا علما بأن الدراسات المونوغرافية التي أتت بعد ذلك متفاوتة الجودة لأنها محكومة بإطارها البحثي المعروف بحيثياته وشروط إنتاجه. من المفارقات التي تطرح في هذا الباب الهام أن صاحب كتاب "بؤس التاريخ" يسرد عشرات المونوغرافيات ويذهب إلى حد وجود "إشباع" في البحوث والدراسات، وتارة أخرى يعتبره " انحباسا مونوغرافيا "(كذا) ولكنه يعود في دورة لولبية مثيرة فيؤكد أن فترة الحماية الفرنسية بالمغرب لم تتم دراستها بالشكل الكافي، فأي الخطابين له مشروعيته المعرفية والمنهجية؟ الإشباع أم الحاجة ؟؟؟ !!!!مجرد سؤال أملاه الفضول المعرفي المشروع وأعتقد أن الانتقال من المجال إلى الزمن هنا مجرد قفز إلى الأمام لأن المقصود في الحقيقة هو تعميق البحث في فترة الحماية ضمن إطار مونوغرافي طبعا وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه أن الدراسات المونوغرافية بالمغرب ما زال أمامها الشيء الكثير والمشوار الواعد بالمزيد. من المفيد التذكير أن التاريخ الشامل والعام لا يمكن أن ينفصل عن التواريخ الجزئية أو الدراسات المونوغرافية بل يستحيل كتابة ذلك التاريخ العام دون الاستناد إلى تلك الدراسات المحلية، وهو ما يرومه حيز مما سماه الباحث حبيدة ب "التركيب" فالمؤرخ المفكر عبد الله العروي يسمي تلك الدراسات "المبحثة" في كتابه مفهوم التاريخ ويقول بوضوح "دون مفهوم المبحثة لا يستقيم، لا منطقيا ولا عمليا، مشروع التاريخ الشمولي". هل البحث التاريخي الرصين يحمل بالضرورة آفة الأدلجة؟ سؤال كبير وخطير أخشى أن يواجهه هذا الكتاب القيم، حينما يتبنى مفهوما معينا أو تنميطا ما عن المغاربة وهم نسيج متنوع مجاليا وثقافيا وعرقيا، نترك السؤال مفتوحا للنقاش العلمي الموضوعي، أكثر من ذلك لا أدري كيف أصف التصنيف المجالي لقبائل غياثة جاء في الكتاب ص 98 عند تحليل طبيعة القبائل الثائرة أو الرافضة لسياسة المخزن الجبائية "فبالقرب من مدينة فاس (كذا) كانت قبيلة غياثة تشكل مصدر قلق كبير بالنسبة للمخزن..."، لقد وقع هنا انفصام فظيع لا في المجال الطوبونيمي فقط لتلك القبائل ولكن وهذا أخطر في موضعتها ضمن المجال المغربي، إذ المعروف أن غياثة تقع في التماس مع كل من ممر تازة وحوض إيناون بل إن أراضيها هي التي تحضن مدينة تازة فكيف يمكن أن تكون قريبة من فاس وهي المختلفة مجاليا وثقافيا وبشريا عن منطقة تازة؟ ولا أدري كيف يمكن تصحيح هذا التعثر المعرفي والمجالي الواضح، وعلى الأغلب إذا صدرت طبعة جديدة من الكتاب ونتمنى أن يتدارك صاحب الكتاب الأمر إذا أخرج الطبعة الثانية وهذا من صلب مسؤولية الباحث والأستاذ الجامعي، فهو أدرى مني بدور المحدد المجالي والجغرافي على مستوى البحث التاريخي بمختلف تقاطعاته. للعلم فقط فقبائل فاس القريبة منها والتي تعد من مجالها الجغرافي والثقافي والبشري أو هي محسوبة على أحوازها معلومة أيضا: الحياينة – فشتالة – شراكة – أولاد جامع – بني سادن- حميان إلخ. أما غياثة فهي بعيدة مجاليا وبشريا وثقافيا أيضا عن أحواز فاس، ونتساءل مرة أخرى ما مفهوم القرب والبعد في هذه الجملة (الإحالية) التي وردت ضمن هذا الكتاب؟، فغياثة تنتشر على طول ممر تازة وحوض إيناون وحولها قبائل أحواز تازة كالبرانس والتسول وبني وراين وجزناية الجنوبية وصنهاجة، بل إن مدينة تازة نفسها توجد فوق أراضي قبيلة غياثة الممتدة اعتبارا من بوحلو إلى منطقة المقتلة وجعونة ومتركات شرق تازة، فإذن هي في صلب مجال تازة وليست قريبة من فاس. هذه ملاحظات وإفادات حول الكتاب المعني الذي يعد مرة أخرى إضافة نوعية له على صعيد البحث التاريخي سواء منه المؤسساتي الأكاديمي أو الموجه لعموم المهتمين والمثقفين.