بعجلاتها الثلاثية الصغيرة وهيكلها الحديدي الأخضر المغطى بكساء من البلاستيك الأصفر، تجوب مركبة "التُّوك توك" شوارع العاصمة الهنديةنيودلهي التي لا تهدأ ولا تنام؛ الضوضاء والارتباك يملآن الشوارع التي تبدو أصغر من زحمة المكان..تتعالى أصوات أبواق السيارات ويزيد صخب الأزقة المزدحمة، فكل متر هنا مطمع ومطلوب. "صرصار الأرض" ثلاث عجلات صغيرة بلا رقيب تخترق شوارع نيودلهي في مشهد سريالي.. "التوك توك" لا تهتم بالازدحام المروري، تقتحم الشوارع المُكتظة مثلما يحلو لها وكيفما تشاء، مُخلفة وراءها طابوراً طويلا لا ينتهي من السيارات والعربات التي تبقى حبيسة زحمة المكان، لكن سائق المركبة الهندية يقتنص بعض المساحات الصغيرة لينطلق بسرعة جنونية في مشهد يبدو للرائي أقرب إلى المستحيل. في ستينيات القرن الماضي، دخل "صرصار الأرض" إلى الهند..الصرصار هنا ليس حشرة بالتأكيد، وإنما يطلق هذا اللفظ الشعبي على "التوك توك"، تماشيا مع شكله الذي يُشبه الصرصار، بوصفه وسيلة للتنقل داخل شوارع وأزقة المدن الهندية، قبل أن تستورد مجموعة من دول العالم الثالث الفكرة التي "غزت" قلب المدن الرئيسية في البلدان النامية. مُنقذ الشباب داخل "التوك توك" يوجد مُشغل موسيقى يبث الأغاني الشعبية الهندية، التي تُنسي الراكب صخب الشوارع المزدحمة في نيودلهي. المركبات ذات المنشأ الهندي التي تتشكل من تصميم موحد بأحجام مختلفة ساهمت في إنهاء بطالة ملايين الشباب بالجمهورية التي يزيد سكانها عن المليار وثلاثمائة مائة مليون شخص، لتصبح بذلك ملاذا للشباب الذي يفرّ من كابوس البطالة. "قررت اقتناء هذه المركبة بسبب البطالة التي عانيت منها لمدة طويلة"، يورد شاب هندي جعل من "التوك توك" مورد رزقه اليومي، مضيفا أنها "وسيلة تنقل تثير إعجاب السياح الأجانب، إذ تحولت إلى جزء محوري من الثقافة الهندية؛ ذلك أنه لا يمكن لأي سائح أن يزور الهند بدون أن يخوض جولة على متن التوك توك". مشروع العُمر وسط الشارع الرئيسي في نيودلهي، أقلّنا "التوك توك" في جولة وسط دهاليز الأحياء الملتوية بقلب المدينة الصاخبة.. "التوك توك" هو مشروع العمر هنا؛ لذلك تجده في جميع الأمكنة بدون استثناء، الراقية والفقيرة، يكفي أن تنطلق بكلمة "التوك توك" حتى يجيبك عشرات السائقين الذين يبحثون عن الزبناء، خصوصا الأجانب، بالنظر إلى التسعيرة المحددة لنقل هذه الفئة. ومع ذلك فإن تكلفة التنقل عبر "التوك توك" تظل رخيصة بالمقارنة مع المسافة التي يقطعها، إذ يتراوح سعر الجولة ما بين مائتي وثلاثمائة روبية، أي ما قدره أربعة دولارات على أكثر تقدير؛ وذلك على متن رحلة يمكن أن تصل مدتها إلى أربعين دقيقة، في حين يتم استعمال العداد لتحديد سعر الرحلة بالنسبة للساكنة المحلية. أعجوبة العصر "التوك توك" مثال على نجاح السياحة الداخلية، تَحوّل إلى قدوة لبقية البلدان الأسيوية..والفوضى التي خلّفها في الشوارع..وتكاثُره في كل ركن وزاوية وحديقة.. والضوضاء الصادرة عن أبواقه التي لا تسكن ولا تهدأ.. كلها ظروف وعوامل تجعل من العاصمة نيودلهي، ومعها بقية المدن الهندية، أعجوبة العصر. وعن سعر "التوك توك" في الأوساط المحلية، يوضح السائق الهندي أن "الثمن العادي للمركبة يصل إلى قرابة ثلاثة ملايين سنتيم"، مبرزا أنها "وسيلة تنقل مريحة للسياح، إذ تمكن الأجنبي من فرصة استكشاف مختلف معالم المدينة في ظرف زمني وجيز؛ وذلك بحكم الازدحام الذي تعرفه الشوارع الكبرى، الأمر الذي يصعب معه التعرف على الأماكن السياحية داخل سيارة أجرة عادية". "حرب الطرقات"..ولكن إن سائق "التوك توك" في الهند لا تنحصر مهنته في قيادة المركبة، بل يقوم بمهمة الإرشاد السياحي أيضا، إذ يعمد إلى إخبار السائح بتاريخ مختلف الأمكنة التي يمر عبرها، وكذلك أسماء الشوارع والمعالم التاريخية، على اعتبار أن أغلب السائقين يجيدون الحديث باللغة الإنجليزية. وسط ضجيج شوارع نيودلهي، لا يهدأ سائق "التوك توك" من الضغط على بوق مركبته، وإن لم يكن أحد أمامه. ويفسر السائق دوافع حركته العفوية ب"الشوارع الممتلئة بالمدينة من جهة، واعتياده الضغط على البوق طوال الوقت من جهة ثانية"، مشيرا إلى كون "المدينة مكتظة للغاية بفعل العدد الإجمالي الذي يتجاوز 28 مليون نسمة". ومن مفارقات المدينة، فضلا عن الازدحام، برودة الأعصاب لدى السائقين بخلاف المغاربة، إذ تتعالى أبواق السيارات و"التوك توك" في مشهد يعكس حقيقة ما يسمى "حرب الطرقات"، لكن الاستثناء الهندي يتجلى في تطبيع الكلّ مع الظاهرة بدون أن يتسبب ذلك في أي مشاجرات، أو يؤدي إلى غضب السائقين وسط الطرق، بل يتطور الأمر أحيانا إلى بعض الحوادث المرورية، إلا أن رباطة الجأش تتسيّد الموقف.