تقديم أصبحت الجهوية تشكل البعد الاستراتيجي للتنمية الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، ذلك أن السياسات الاقتصادية الحديثة، أصبحت تعتمد أكثر التنظيم الجهوي، لتحقيق التنمية باعتباره الإطار الأنسب والأمثل لكل استراتيجيه تنموية، ولكل تخطيط تنموي شامل، عبر تعبئة الموارد والطاقات المحلية. وللخوض في هذا الموضوع الشائك ومقاربته من عدة زوايا، لابد من الإجابة على مجموعة من التساؤلات التي يطرحها الباحثين، ومختلف الفاعلين في مجال السياسات العمومية وتدبير التراب. وسنعزز إسهامنا في نقد هذا المشروع، بمراجع ودراسات أهل الاختصاص كي لا يكون كلامنا كلاما في الهواء. إذن فما هي الجهة و الجهوية؟ هل ستحقق هذه الجهوية ما ينتظره الفاعل المحلي؟ ما موقع المقاربة التشاركية في هذا المشروع الجديد؟ هل المعايير التي تم اعتمادها كفيلة بتحقيق التنمية المندمجة؟ إلى أي مدى تم احترام خصوصيات كل منطقة؟ وهل يتماشى هذا المشروع مع متطلبات النهوض بمنطقة الريف؟ 1 مفهوم الجهة والجهوية يعتبر الجغرافيون أول من تناول الجهة؛ باعتبارها جزء من المجال وأحد أوجه تنظيم المجال، خاصة المدرسة الفرنسية(بول كلافال، أندري دوفيني، فيدال دو لابلاش...) حيث تعتبر فكرة الجهة والجهوية، هي قبل كل شيء صناعة بشرية اهتدى إليها الباحثون، من أجل إيجاد نوع من النظام لما يلاحظونه، وبالتالي دراسة العلاقة بين المجال والإنسان، وحسب المعيار الجغرافي فالجهة هي وسيط بين المستوى الوطني والمستوى المحلي (1). قبل أن يتم تناول الموضوع من قبل متخصصين آخرين كالسوسيولوجي، القانوني، الاقتصادي، الإداري... هذا التداخل في الملامسة والدراسة، وتعدد المقاربات وزوايا البحث صعّب من مأمورية الاتفاق حول تعريف موحد. فالجهة Régionalisation؛ حسب أكثر التعاريف تداولا، هي وحدة مجالية تتمتع بتجانس ترابي واستمرارية مجالية لمكوناتها الطبيعية والبشرية، أو "مجموعة ترابية منسجمة مجاليا تهدف إلى خلق نوع من التكامل التنموي بغية تحقيق نوع من التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين الجهات في إطار التنمية الجهوية بشكل ينسجم مع تدخل الدولة في إنجاز عمليات التخطيط والتنمية المحلية" (2)، وتحدد الجهة تبعا لتقسيم جهوي تراعى فيه عدة اعتبارات اقتصادية، اجتماعية، إدارية، سياسية، تاريخية وثقافية متداخلة تختلف طريقة تأثيرها حسب الظروف والتجارب(3). بينما يعتبر القانون التنظيمي رقم 111.14 أن "الجهة جماعة ترابية خاضعة للقانون العام، تتمتع بالشخصية الاعتبارية وتتمتع بالاستقلال الإداري والمالي وتشكل أحد مستويات التنظيم الترابي للمملكة، باعتباره تنظيما لا مركزيا يقوم على الجهوية المتقدمة"(4). أما الجهوية Régionalisme؛ فهي إجراء سياسي بالأساس، يهدف إلى دفع السلطة المركزية، إلى التنازل عن الكثير من الصلاحيات لفائدة الجهات المكونة للدولة، وذلك لتخفيف الأعباء عن المركز “باعتمادها اللامركزية الإدارية، وإعطائها للجهات صلاحيات واسعة (الاستقلال المالي والمؤسساتي)، تخول لها فرصة إدارة وتسيير شؤونها وفق ما يتماشى مع خصوصياتها التاريخية، الجغرافية، الاقتصادية والثقافية"(5)، كما تساهم الجهوية في "خلق تنافس مجدي في مجال التنمية المندمجة بين مخلف الجهات، وفسح المجال أمام النخب الجهوية، ومكونات المجتمع المدني لإبراز مؤهلاتهم وكفاءاتهم للإسهام في إظهار الوجه التنموي لجهتهم أمام باقي الجهات"(6). وتنقسم الجهوية إلى جهوية وظيفية، جهوية إدارية، جهوية سياسية... وتعتبر هذه الأخيرة أرقى أنواع الأنظمة الجهوية لأنها تمثل أقصى درجة في مستويات اللامركزية الترابية، وتتجاوز الاختصاص الإداري، إلى ما هو تشريعي وتنظيمي مؤطر دستوريا. وهو الشكل الأقرب لنظام "الأطونوميات". 2 الجهوية كأداة لخدمة التنمية المحلية يقول رواد المشروع الجهوي الجديد بأن إعادة التوازن الاقتصادي إلى التراب الوطني، وتحقيق العدالة المجالية، هو الدافع الأساسي لإعادة تقطيع وتنظيم المجال. هذا المشروع الذي سيدخل حيز التطبيق بعد مصادقة مجلس الحكومة على مشروع مرسوم رقم 40-15-2 في 05 فبراير 2015، القاضي بتنزيل مشروع "الجهوية المتقدمة" الذي قلص عدد الجهات إلى 12 جهة فقط. وشرع العمل بمقتضاه في شتنبر من2015 بشكل رسمي. على هذا الأساس يمكن اعتبار الجهوية آلية لتحقيق التنمية وهو ما نجده في القانون التنظيمي "وتناط بالجهة داخل نفوذ دائرتها الترابية النهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة"(7) كما " تقوم الجهة بإعداد وتتبع وتنفيذ برامج التنمية الجهوية..."(8). خاصة بعدما تبين من خلال التجارب السابقة (تقسيمي 1971، 1997)، فشل الدولة في القضاء على الاختلالات المجالية والفوارق الاجتماعية، بين مختلف الجهات وبين الجهة الواحدة نفسها، نتيجة غياب عنصر الاندماج داخل الجهة، لعوامل طبيعية وسوسيوثقافية، وكذا التوزيع غير العادل للاستثمارات، بين مركز الجهة والأقاليم الأخرى المكونة لها، ولنأخذ مثالا على ذلك جهة الشرق، التي تحتكر عاصمتها ثلاثة أرباع من الاستثمارات وتستحوذ على جل المؤسسات الإدارية والتجهيزات والخدمات، في حين إقليم كالدريوش الذي يفتقد للبنية التحتية وشروط الاستقرار البشري، لم تخصص له إلا 3% من مجموع استثمارات المجلس الجهوي سنة 2018!. واذا ذهبنا في نفس الاتجاه، واعتبرنا أن العامل الاقتصادي هو الرهان والمبتغى من الجهوية المتقدمة، ففي هذا الإطار تقدم منطقة الريف(موضوع الدراسة) إمكانيات ومؤهلات كبيرة تتمثل، في المقام الأول؛ في مواردها المتنوعة التي تشمل موروثا طبيعيا، واقتصاديا وثقافيا موسوما بالتنوع والغنى، بإمكانه أن يشكل قاعدة صلبة لتطوير مختلف قطاعات الأنشطة الاقتصادية. ولا شك أن الرأسمال البشري للمنطقة يُعد بحق موردًا أساسيا وجب الاهتمام به ومنحه العناية اللازمة، وذلك عبر تأهيله (تشييد المعاهد المتخصصة، الجامعات، مراكز التأهيل والتكوين المهني...)، وخاصة أن البنية السكانية للريف تتميز بالفتوة، الأمر الذي يجعل من العنصر الديموغرافي، عنصرا مركزيا في العملية التنموية، دون إغفال العائدات المالية الضخمة لريفيي المهجر، حيث ستعمل على خلق مناصب شغل للشباب العاطل وصدهم عن التفكير في الهجرة، ما سيساهم في إخراج المنطقة من الركود الاقتصادي الذي تعانيه، وستشكل هذه الأموال/الرساميل عمودا فقريا حقيقيا للإقلاع الاقتصادي والتنموي بالريف، إن تم استثمارها محليا، وتم تشجيع المستثمرين عبر تقديم التحفيزات والتسهيلات الضرورية لذلك. بالإضافة إلى الموارد الطبيعية وعلى رأسها الثروات البحرية، و المؤهلات السياحية، التي تتمتع بها المنطقة، و موقعها الإستراتيجي كمنطقة تتوفر على ميناء طنجة الكبير و المنطقة الحرة ببويافر( الناضور غرب المتوسط). فإذا كانت الجهوية أداة لتنمية الجهة كما قلنا، فإن الجهوية المتقدمة، كما هي مطبقة على أقاليم الريف، فهي تسير في اتجاه معاكس حيث "تسير ضد تنمية هذه الجهة، بل هي مخطط لقتلها بتفتيتها إلى مناطق ملحقة بجهات أخرى، فالجهوية الحقيقية هي التي تقوم على الوحدة الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية واللغوية للجهة. وهذه المعايير متوفرة بشكل مثالي في حالة جهة الريف"(9). فالجهوية في جوهرها الحقيقي، والمتعارف عليه، يجب أن تكون شكلا من أشكال المصالحة الوطنية، وقد سبق للجنة الإنصاف والمصالحة، أن أدرجت في توصياتها القاضية بجبر الضرر الجماعي، والتي تشكل منطقة الريف جزءا من هذه التوصية، بالإضافة إلى سن سياسة التمييز الإيجابي لفائدة تنمية هذه المنطقة وذلك عبر تمتيعها بجهة موحدة، على عكس ما أتت به جهوية لجنة "عمر عزيمان"، والتي جسّدت ملامحها بشكل واضح، استمرار المخزن في نهج نفس مقارباته السابقة (المقاربة الأمنية-السياسية) والتي أدت بالريف " نحو عزلة اقتصادية لينغلق على بنياته الإنتاجية التي يهيمن عليها اقتصاد تقليدي محدود، وكذا إقصاء الريف من كل المخططات الاقتصادية المركزية"(10). ما يعني إعادة إنتاج نفس الأعطاب، ما دام أن المقاربة التشاركية التي تم الترويج لها على نطاق واسع، لم يتم الأخذ بخلاصاتها، " فرغم الاقتراحات الهامة التي قدمتها جمعيات المجتمع المدني خاصة الأمازيغية، خرج المشروع مُحبطاً للانتظارات حيث اقترح تقسيما جهويا لا يخضع لمنطق تنموي واضح، ولم يأخذ بعين الاعتبار الإطار التاريخي والثقافي للجهات ولا شروط التنمية الاقتصادية، بل عزز من حظوظ بعض المحاور النافعة وزاد من حظوظ الزيادة في تفقير بعض مناطق المغرب غير النافع"(11)، وهو ما لا يستقيم مع الدستور المغربي المعدل، والذي ينص بشكل صريح في أحد فصوله على أنه " يؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة"(12). في هذه الحالة؛ هل يمكن اعتبار النموذج المغربي للجهوية، حقا آلية في خدمة التنمية؟ أم انه لا يعدو أن يكون وسيلة للتحكم في المجال وضبطه؟ 3 الخصوصيات المحلية يعتبر احترام الخصوصيات المحلية شرطا أساسيا في إنجاح أي مشروع ترابي، يكون هدفه الأساس هو تنمية الإنسان داخل مجاله الجغرافي المحدد، للحفاظ على الشخصية الجهوية وحمايتها من الذوبان داخل ثقافة الجهات الأخرى(13)، وكذلك فإن تثمين الخصوصيات الجهوية والمحلية؛ تمكّن من تعميق الانتماء بالنسبة لسكان الجهات، مما سيحفزهم أكثر على صيانة خصوصياتهم، وتنمية مناطقهم. وهذا الأمر أثبت نجاعته في جل البلدان ذات البنيات الاجتماعية التي تعرف تنوعا إثنيا، لغويا، وثقافيا... 3-1.التاريخ والجغرافيا. غياب التجانس الجهوي من النظرة الأولى للتقسيم الترابي الأخير، يتبين لنا عدم انسجام الأقاليم المكونة للجهات المستحدثة في إطار ما سمي ب "الجهوية المتقدمة"، فلا شيء يجمع بين مكونات أغلب الجهات سواء على المستوى الطبيعي(التضاريس والمناخ)، الاقتصادي، والسوسيوثقافي... ولهذا فلا بد من تعديل بعض الأعطاب التي سقط فيها القيّمين على إعداد مشروع الجهوية المتقدمة بالمغرب. فبالنسبة لأقاليم الريف يجب إعادة النظر فيها، وذلك لغياب المعيار الطبيعي، التاريخي، والثقافي في جمع منطقة الريف مع وجدة، أو فاس، ومكناس، وكذا إعادة الاعتبار لهذه المنطقة التي عرفت تهميشا ممنهجا منذ الاستقلال؛ وذلك بمنحها حدودا واقعية تستند إلى معايير جهوية حقيقية، من أجل الحصول على جهات مغربية منسجمة ومتكاملة فيما بينها على مختلف المستويات، انسجاما على الأقل، مع ما يروج في الخطاب العمومي من الشعارات. هذا الانسجام الذي نعتقد جازما أنه لن يتأتّى بدون احترام الخصوصيات المحلية لكل جهة على حدة، قبل أي تقطيع ترابي تحكمه المقاربات السياسية وتسكنه الهواجس الأمنية. دون إغفال مسألة مهمة، وهي الإشارة في أسماء الجهات، إلى ما يميزها عن الأخرى، مستندا إلى المجالات التي عرفت بطوبونيميتها والتي تدل على العمق التاريخي والأنثروبولوجي لكل جهة، وكذلك إلى الدلالة الحضارية، بحيث يجب أن تحمل الجهات أسماء دالة معبّرة عن عمق تاريخي، أو ثقافي، أو جغرافي، ليس كما هو الحال مع النموذج الحالي الذي يستوحي أسماء الجهات من المدن المكونة لها، كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة من الجهات (جهة فاس-مكناس، طنجة- تطوان- الحسيمة، مراكش-آسفي، بني ملال-خنيفرة...) ويجب "أن تعبّر عواصم الجهات على الصورة التسويقية ومميزات الجهة، بالإضافة إلى تكييف وأقلمة سياسات إعداد التراب مع طبيعة وخصوصيات كل فضاء جهوي على حدة، والتمايزات داخل الفضاء والمجال الواحد"(14). هذه المعايير التي يراها البعض من الزاوية الضيقة كما لو أنها ثانوية وهامشية، في الواقع نجد أنها قد تقلب الحسابات في أي تخطيط، لأي مشروع جهوي. وفي هذا الاتجاه، لابد أن نشير إلى أن الجهات المقترحة من طرف اللجنة الاستشارية، ضمّت بين جهاتها الاثنا عشرة، جهة حملت اسم "جهة الشرق والريف" وقد تم الاشتغال بهذا الاسم في الانتخابات الجماعية والجهوية والتي جرت خلال شهر شتنبر 2015، قبل أن نتفاجأ في المصادقة النهائية على التقسيم الجديد بحذف لفظة "الريف" من تسمية الجهة، والإبقاء على تسمية "جهة الشرق" القديمة-الجديدة؛ ما يجعلنا نتساءل عن السرّ الكامن وراء حذف كلمة "الريف"، وهل كان إدراج كلمة "الريف" فلتة لم ينتبه إليها صناع القرار بالمركز في البداية؟ أم أن إدراج كلمة الريف في الجهة خلال المشروع المقترح، خطوة لتمويه الريفيين عن مطالبتهم بجهة ريفية موحدة؟ 3-2. البعد الهوياتي والثقافي، عامل مهم في البناء الجهوي لا بد من استحضار البعد الهوياتي والمعطيات التي تشكل هوية الجهات في السياسات الجهوية، دون إغفال الأبعاد المجالية والاقتصادية والاجتماعية والمزاوجة فيما بينها، فبالنسبة للبعد الهوياتي يجب مراعاته في التقسيم الجهوي، سواء في الحدود الترابية للجهات، وفي أسمائها، والذي يعبر عن تاريخ الجهة وتراثها(15)، حيث "أن معايير الخصوصيات المرتبطة بالهوية واللغة والثقافة، قد يؤدي إلى خلق إحساس جماعي بالانتماء لجهة معينة ومساعدا على توحيد الجهة أو تملكها من طرف ساكنتها ومحفزا للتنمية بها"(16) على اعتبار أن الجهوية وسيلة للتدبير الديمقراطي للتعدد و الاختلاف دون ممارسة أي إقصاء لمجموعة بشرية أو منطقة معينة، في إطار الدولة الوطنية. ودون السقوط في فخ استيراد نماذج جاهزة، تنتمي لبيئة مختلفة عن بيئتنا، وخصوصياتنا، أو إفراغها من محتوياتها الإيجابية. وقد سبق للمؤسسة الملكية أن دعت إلى ضرورة "إيجاد نموذج مغربي- مغربي للجهوية، نابع من خصوصيات بلدنا"(17). بناء على كل ما سبق، فقد أصبح من الضروري تجاوز السياسات والأنظمة الجهوية، التي توضع على مستوى المركز، ليتم تطبيقها على مستوى الجهات، والبحث عن نظام ينبثق من الممارسات المحلية، يستجيب لحاجيات السكان المحليين وتطلعاتهم، ويجب العلم أنه بدون تشخيص شمولي للواقع الجهوي (معرفة دقيقة لمميزات وخصوصيات البنيات السوسيوثقافية والاقتصادية...)، لا يمكن معه وضع خطط دقيقة وناجحة، إذ أن هناك بعض العوامل المهمة ويختزلها الباحثين في الموضوع في: “عوامل مجالية وهوياتية تحدد دينامية المجتمع أو الساكنة داخل مجال وجودها الترابي، ويأتي على رأسها الأساس المادي وغير المادي للحياة الاجتماعية وبنائها التاريخي، مما يفرض استحضار هذه المقاربة العميقة لمفهوم التراب أثناء أي تدبير مجالي وسياسي يروم تنمية المجال الترابي"(18)، كما أنه لا يجب الفهم بأن التنوع الثقافي عامل معرقل لوضع الخطط، بل العكس تماما، خصوصا؛ إذا تم تصنيف وتخصيص كل فئة، وكل ثقافة بما تستحقه من عناية، والعمل على صيانة الرأسمال المادي وتأهيله، وتثمين اللامادي لإعادة الحياة إليهما، لما لهما من دور في تحريك عجلة التنمية المحلية، إذ أن "الدعوة إلى الاعتماد على الهوية الثقافية كعامل وحدة وتماسك للمجتمع يجب أن تقوم على أساس القبول بالتنوع اللغوي والثقافي الذي يميز مختلف مكوناته"(19). هذه الأمور ستمكّن بلا شك هذه الجهات من تطوير هياكلها وتدبير شؤونها، وإدارة نفسها بنفسها، بحكم أنها تعرف طاقاتها وأولويات سكانها، من أجل تنمية محلية نابعة من القاعدة وتراعي حاجيات السكان ومتطلباتهم فوق المجال الجغرافي الذي تتقاسم معهم فيها نفس التصور والهموم؛ الشيء الذي سيعمّق الإحساس بالانتماء لدى الإنسان بالمجال الذي يعيش فوقه، مما سيدفع هذا الأخير(أي الإنسان) إلى العمل على خدمة ترابه وتطويره، لأن " كل تنمية وكل ديمقراطية هما أصلا يعتمدان على الإنسان ويستهدفانه، والإنسان يوجد بكيانه الثقافي والمجتمعي والعلائقي وليس مجرد أرقام توزع وتضبط. لذلك كان من الضروري أن يشكل البعد الثقافي أحد أهم معايير التنظيم الجهوي..."(20). كل هاته العوامل إن تم أخذها على محمل الجد، من طرف القائمين على رسم الخريطة الجهوية، وإيلائها العناية اللازمة فبدون شك، ستمنح فرصة أكثر للدولة المركزية للمصالحة مع جهات تاريخية لم تنل حظها من التنمية، بعد معاقبتها عقابا جماعيا عبر تهميشها بقرارات سياسية، فمثلا" هناك الجهات الشمالية التي لها خصوصياتها المتميزة لعدة عوامل، فمن الضروري أن تحدث إلى جانب منطقة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية جهات اعتبارا لوضعها وخاصياتها"(21)، وفي نفس الصدد يقول الدكتور محمد بريان أن جمع الناظور مع وجدة في جهة واحدة تقسيم غير صائب بما فيه الكفاية، فقد كان من الأجدى أن يتم الجمع بين عاصمة الريف الشرقي والحسيمة(22)، وذلك كمدخل للمصالحة بين المركز مع منطقة الريف، التي تعرض سكانها لانتهاكات حقوقية جسيمة تكررت عدة مرات منذ الاستقلال إلى اليوم، والتي كان آخرها ما صاحب حراك الريف من تدخلات فظيعة للسلطة وأجهزتها(أمنيا، قضائيا، إعلاميا). والتي أعادت فتح الجراح الذي لم يندمل بعد، وهو ما سيذكي فتيل أزمة الثقة بين الريفيين والمركز، وسيوسع الهوة أكثر، وهو ما قد تؤكده الأرقام الخاصة بالهجرة الجماعية وطلبات اللجوء السياسي والاجتماعي بدول أوربا الغربية خلال السنتين الأخيرتين. على سبيل الختم إن الجهوية المتقدمة كي تؤدي مهامها التنموية، يجب أن تبنى على أسس علمية سليمة، تتخذ من التنمية الجهوية محورا لها، وتحترم كل المعايير التاريخية والسوسيوثقافية إلى جانب العناصر الطبيعية بطبيعة الحال، لإعادة الأمل لدى سكان الجهات في استثمار مؤهلاتهم المختلفة في تنمية مجالاتهم الترابية، وإنصاف بعض الجهات التي تملك كل مقومات بناء اقتصاد محلي متين، إلا أنها تعيش في ظروف قاسية جراء غياب سياسة جهوية متوازنة، تحسن تدبير موارد كل جهة وفق بيئتها الخاصة، و ما يتماشى مع طبيعة أفرادها. حيث أن الجهوية الناجحة تقتضي ألا تقتصر الجهات على تنفيذ التعليمات والتوجيهات، والقرارات الصادرة من المركز، وإنما أن تقوم المصالح والإدارات الترابية المحلية باتخاذ القرار، لأداء أدوارها المهمة في مجال التنمية الجهوية. وهذا التقسيم الذي فكك ومزق الريف التاريخي إلى أجزاء متناثرة، نال حصة الأسد من الانتقادات حيناً، والرفض أحياناً، من طرف مختلف الباحثين والمهتمين، المجتمع المدني بكافة تلاوينه، الذين رأوا في هذه الخطوة ضربا لهوية الريف وذاكرته الجماعية المشتركة وتدميرا لبنياته السوسيوثقافية، مع سبق إصرار وترصد. حيث دائما ما كانوا يطالبون بجهة الريف الموحدة، (كمدخل لتبني النظام الفيدرالي وطنيا) هذه الجهة التي تستمد شرعيتها ومشروعيتها من معطيات واقعية كالتاريخ المشترك، البنية الاجتماعية المشتركة، الثقافة المشتركة، الهوية المشتركة، والمصير المشترك...وقد برز هذا المعطى بشكل واضح خلال الحراك الشعبي الذي عرفته منطقة الريف، ما يعني أن مسألة الخصوصية الجهوية عنصر رئيسي وعامل مهم في رسم السياسات الجهوية، وبالتالي فالاستثمار الإيجابي في هذه المقومات سيجعل من الريف لا محالة قطبا اقتصاديا قويا ليس في المغرب فحسب، بل في منطقة حوض المتوسط برمته بالنظر لموقعه الجيواستراتيجي المهم. وعلى هذا الأساس، فإن قضية تنمية الريف تتطلب تعبئة كل الوسائل والأدوات الملائمة للتدخل، كما تتطلب تبني منهجية واستراتيجية تدخلية محددة من أجل خلق تماسك وظيفي ومجالي ضروريين لضمان شروط تنمية مستدامة.(23) إلا أن صياغة مشروع الجهوية المتقدمة، على هذا المقاس والذي لم يأخذ بخلاصات المقاربة التشاركية والتي ترجمها المجتمع المدني إلى توقيع عدة عرائض أبرزها، تلك التي كانت تطالب بدمج الحسيمةوالناظور والدريوش في جهة واحدة، سواء في جهة طنجة أو مع الجهة الشرقية، أو من كانوا يطالبون بخلق جهة ريفية خالصة(الريف الكبير)، كما هو الشأن بالنسبة للأستاذ محمد بودهان الذي ظل يبحث عن إجابة لهذه الأسئلة: "لماذا إذن لا يتم التعامل مع الريف، كما هو، أي كجهة واحدة موحدة، كما كان دائما وكما هو في الواقع؟ لماذا تقسيم جهة الريف إلى مناطق تلحق بجهات أخرى لمنع قيام وحدة جهوية بالريف؟"(24). وما دام أن النسخة الأخيرة خرجت مخيبة لتطلعات الفاعلين المحليين، نخلص إلى أن التركيز على هذه المقاربة التشاركية التي ينص عليها الدستور الجديد كان فقط شكليا دون العمل بمضامينها وخلاصاتها، مما سيدفعنا إلى التأكيد على استمرارية الدولة في اعتماد معاييرها القديمة، وخاصة السياسية منها، وإغفالها أو تجاهلها لمعايير مفصلية، ما فوّت على التجربة المغربية فرصة كانت ستجعل منها تجربة رائدة مغاربيا وقاريا، في مجالات الحكامة الترابية واللامركزية. الهوامش: 1-André DAUPHINE (1979) : Espace, region,système (collection geographia), Economica P: 9 2 عبدالعزيز أشرقي (2011): الجهوية الموسعة بالمغرب نمط جديد للحكامة الترابية والتنمية المندمجة. مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء ص: 150. 3 صالح المستف (1986):التطور الإداري في أفق الجهوية بالمغرب. مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، ص:271. 4 المادة الثالثة من القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات والصادر في 7 يناير 2015. 5 عبدالعزيز أشرقي، مرجع سابق، ص 150. 6 عبدالعزيز أشرقي، مرجع سابق، ص 18. -7المادة 80 من القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات. 8المادة 81 من القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجهات. 9- محمد بودهان.: الجهوية القاتلة للجهة. جريدة ثاويزا العدد77، سنة 2003، ص: 2. 10-الأزراق(2013):الريف وأسئلة التنمية المؤجلة. الطبعة الأولى، مطبعة شمس، الرباط، ص:8 11- رشيد الحاحي(2013): الأمازيغية والمغرب المهدور، ط 1، مطبعة الرباط نت، ص:64. -12الفصل 136 من الدستور المغربي الذي تم الاستفتاء بشأنه في 1يوليوز 2011. 13-la région au Maroc (1990):Faculté de lettres et science humaines Fes.p113. 14- ميمون خراط: تحديات الجهوية الموسعة على ضوء الخطاب الملكي. مقال منشور على موقع العلوم القانونية الأنترنت. 15-François MANCEBO (2011): Le développement durable 1ere P: 8 16-سعيد بوجروف(2012):الجهة والجهوية بالمغرب، أي مشروع لأي تراب؟ط1، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ص:203 17- الخطاب الملكي ليوم 03 يناير2010. 18-رشيد الحاحي(2013): مرجع، سابق ص:67. 19-جمال خلوق (2009):التدبير الترابي بالمغرب واقع الحال ومطلب التنمية. مكتبة الرشاد- سطات ص:.87 20-محمد اقضاض (1997)،"ثقافة الجهوية والجهة"، فضاءات مغربية، العدد الرابع، السنة الثانية، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، ص -15-16. 21- مجموعة من الباحثين(2010):الجهوية الموسعة بالمغرب(أي نموذج مغربي على ضوء التجارب المقارنة). ص:192. -22جان فرانسوا تروان(2006): المغرب: مقاربة جديدة في الجغرافيا الجهوية، دار طارق للنشر، ص 288. -23محمد بودهان، مرجع سابق. 24- الحسين بوضيلب وآخرون(2014): الريف وإشكالية التنمية، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ص 32