صباح الخير أمستردام. المطر خفيف والجو بارد. جئت من مراكش حيث ما زال الصيف جاثما على المدينة. الحرارة تتراوح ما بين 35 و39 درجة. ما يزال الصيف جاثما على صدور الناس هناك. هنا الشتاء يبدو مستعجلا مثل حاملٍ جاءها المخاض قبل الأوان. أول مرة ألج فيها المدينة عبر مينائها الجوي. زياراتي السابقة كانت كلها عبر القطار.. ودائما من بروكسل. اليوم جئت من مراكش. من مراكش إلى أمستردام. من الصيف إلى الشتاء مباشرة، وكأن لا خريف هناك. في الطريق إلى الفندق، كان سائق التاكسي الأفغاني سعيدا بنقل ركّاب يتحدّثون الفرنسية. شرحتُ له أننا مغاربة، من بلد إسلامي، لكنه لم يُبْدِ اهتمامًا كبيرًا بهذه التفاصيل. كل ما يهمّه هو أنني، ورفيقَيْ رحلتي بهاء الطرابلسي ومولاي الصّدّيق الرّبّاج، نتحدّث الفرنسية. وهو يريد استعراض فرنسيته المغبونة هنا في شوارع أمستردام. يريد اختبارها، وترويضها قليلا. سألَنا إن كنّا رجال أعمال. قلت له إننا كذلك تقريبًا. لكنّها أعمالٌ غير مُدرّةٍ للرّبح. لم يفهم. شرحتُ له أننا قومٌ أدْرَكَتْهم حرفة الأدب.. وأنّ الحرفة في العربية القديمة هي الفقر. فحدّثنا عن مدينته كابول، وعن الفقر الذي على أصوله هناك. كما أخبرنا أنه من قبيلة البشتون، فتحدثنا عن شعر نساء البشتون وغزلياتهن الشهيرة، ثم عن شعر التّبراع الذي برعت فيه نساء الصحراء في المغرب وموريتانيا، وكيف أنتجن فيه ديوانا بالغ الجرأة في التغزل الأنثوي الجريء بالذكور. وحين وصلنا باب الفندق استلَّ السائق الأفغاني من جيب معطفه نايا وبدأ يعزف لنا لحنا مغربيا. "مصطفى يا مصطفى.. أنا بَحبّك يا مصطفى". شرحنا له أنّ الأغنية مصرية وليست مغربية.. لكننا نعرف في بلادنا أكثر من مصطفى.. كما نحفظ الأغنية. ولمّا سايرناه بالغناء على نغمات عزفه - على سبيل البرهان - استشعر بعض الرضى والاطمئنان، فانفرجت أسارير وجهه عن ابتسامة لافتة. لعلها أول مرة أرى فيها ابتسامة أفغانية. وجهٌ أفغاني حليق، غير ملتح، يبتسم بوداعة. تحوّل الكهل الخمسيني إلى طفل وهو يبتسم. ونحن نودّعه، قلت في نفسي: "مرحبا بنا في أمستردام". المدن الكبرى دائما هكذا. تستقبلك بآخَرِها. الآخرُ الذي عرفَتْ كيف تتعدّد به ومن خلاله. في المدن الكبرى، يتعدّد الآخر ويتنوّع. المدن الصغيرة - المدن القرى - يكون الآخر فيها معزولا ومحاصرا. الآخر في المدن التي ليست مُدنًا واحدٌ نمطيّ. لكن، دعونا من "المدن السفلى". تذكّرتُ السائق الإثيوبي الذي التقيتُه في مانشستر وكتبتُ عنه في "دفتر العابر". قال لي إنه يعرف المغرب جيّدًا. تعرّف عليه خلال مقامه في أمستردام. الكسكس مثلا كان يأكله أسبوعيًّا في مساجد أمستردام وفي بيوت إخوانه المغاربة.. "الكرماء"، كان يؤكّد. مغاربة أمستردام كرماء، والعهدة على الأثيوبي. قال إنه مدين لهم بالكثير. حتى القرآن يعرفه برواية ورش عن نافع. "ياه، كم أحبُّ المغرب"، كان السائق الإثيوبي يُردّد. حسنًا، ثمّة مغربٌ كامنٌ في أمستردام.. مغربٌ كاملٌ له مُحبّون وعُشّاق. ولعلها فرصتنا لاكتشافه هنا في المهرجان. "اقرأ عالمي"، هذا هو اسم التظاهرة التي تنظّمها فعاليات هولندية بشكل سنوي في أمستردام وتستضيف لها كل دورة بلدا من أدنى الشرق أو أقصى الغرب. فرصة بالنسبة لهم لاكتشاف جغرافيات ثقافية وأدبية مجهولة. إنما، لماذا تأخّر الهولنديون في استضافة المغرب حتى الدورة السابعة؟ لست أدري. ربما لأنه ليس بعيدا إلى ذلك الحد لتُحيط به هالة العجيب المدهش المجهول. ربما بسبب الجالية المغربية الكثيفة المقيمة هنا يظنُّ الهولنديون أنهم يعرفون المغرب بما يكفي، ولا يحتاجون المزيد. ربما المغرب بالنسبة لهم بلدٌ إشكالي، وموضوعٌ إشكالي في الآن نفسه. عموما نحن لا نحتاج لا الهولنديين ولا غيرهم لنعقِّد حياتنا وقضايانا. نحن موهوبون في تعقيد الأمور، ولدينا براعة خاصة في تعكير أكثر الأجواء صفاء. قبل أن أجيء إلى أمستردام راسلْتُ صديقًا له ارتباطات شبه رسمية وأخبرته بالنشاط، فواجهني بصراحة أخوية أنه لا يستطيع الحضور إلى نشاط حول حراك الرّيف (عن أي ريف يتحدّث؟). قال إنه يتحفظّ على الأنشطة التي قد تعادي المصالح العليا للوطن. فصعقت. كأنّ الرجل يتحدث عن تظاهرة أخرى غير هذه التي أشارك فيها. ثم إن برمجة ندوة يتيمة عن تفاعل الأدب والأدباء المغاربة مع حراك الريف والديناميات الاحتجاجية في بلادنا لا تخدش في شيء الطبيعة الثقافية والفنية لتظاهرة غنية حافلة بالندوات والمواعيد. اتصلتُ في الآن ذاته بصديق آخر من قدماء المناضلين بهولندا فإذا به يعتذر هو الآخر عن حضور نشاط تشرف عليه شخصيات "شبه مخزنية". استَخْبَرْتُه عن هؤلاء فاستعصم. كَمْ نحن بارعون في التعميم وبناءِ كلّ شيءٍ للمجهول.. ألم أقل لكم إنها موهبة مغربية فريدة؟ المهم أننا هكذا وجدنا أنفسنا محرومين من الكرم المغربي الذي حدّثتني عنه سائق مانشستر. هكذا غاب عن التظاهرة العديد من إخواننا المغاربة من الفُسطاطَيْن. لحسن الحظ أنّ الهولنديين كانوا في الموعد. جمهور هولندي يريد أن يفهم. قلت في نفسي: "لعلها فرصتنا لنفكّر في قضايانا بهدوء". الفضاء المحايد والجمهور المحايد فرصتان ثمينتان لاكتشاف الذات. الآخرُ مرآتُك التي ترى فيها وجهك دائما بشكل أفضل. حسنًا، لنذهب إلى الموعد. فالترام 26 يمر من محطة خلف الفندق مباشرة. كانت سناء العاجي وفدوى مسك وموحى السواك وبهاء الطرابلسي ومولاي الصّدّيق الرّبّاج وعبد الله الطايع وكريمة أحداد وليلى باحساين ووداد مجامة أمام الباب. يغنون بمرح. "يا الله يا شباب"، لتنطلق القافلة. هجمنا على الترام بصخب جميل. انتبه الركاب الهولنديون إلى الصخب الذي أحدثَتْهُ كتيبتُنا وسط الناقلة. كانوا يتابعون صخبنا بسماحة، ودون استهجان. قلت لأصدقائي: تصوّروا مثلا لو كان التّرام فرنسيًّا، فانفجروا ضاحكين. مسؤول التذاكر في الترام حيّانا بمغربية فصحى لا تشوبها شائبة. شجّعَنا ذلك على التمادي، وكأننا في ترامٍ قادم من الحيّ المحمدي بالدار البيضاء. كنت أنظر بإعجاب لهذا الخليط المغربي الجميل من الأدباء المغاربة الذي انتقاه بعناية وذكاء مندوبا التظاهرة الروائي والفنان التشكيلي ماحي بينبين والكاتبة الصحافية فدوى مسك. أدباء من مختلف الأجيال والحساسيات ولغات الكتابة: عربية، فرنسية، أمازيغية، دارجة. كأنه برَّاد شاي مغربي بالتّْخالط، فكّرتُ. كلهم هنا في أمستردام يتنقّلون بشكل جماعي يوميا ما بين المبنى الجميل الذي يحتضن فعاليات المهرجان، وفندقهم الذي كان سجنا ذات يوم. فعلا كان فندقُنا سجنا. ويبدو أنه ليس السجن الوحيد الذي حوّله الهولنديون إلى فندق. فلهذا الشعب على ما يبدو ولعٌ غريبٌ بالإقامة الاختيارية في السجون. أقصد في الفنادق التي كانت سجونا. جدران غرفتي المُجرَّحة ما زالت تحمل معالم السجن الذي كان هنا، والأرضيةُ أيضًا. لكنَّ السرير مريح، ولديّ غرفة حمّام خاصة وفسيحة. نزلاء آخرون من بين الكتّاب المشاركين كانت لديهم رشاشات دُشّ فقط وسط الغرفة. تصوّر أن تأخذ حمّامك وأنت منتبه جدا لأطرافك. عليك ألا تفركها بانطلاقٍ أثناء الاستحمام وعليك ألّا تستعمل الماء بإسراف وإلا فسينالُ سريرَك رَشٌّ من ماء الدُّشّ. ثمّ هناك "كرّاطة" قرب رشّاش الماء لكي تجفّف أرضية الغرفة بنفسك فيما بعد. هي فرصة إذن لكي تعيش بعض جو السجن. مع أنه كان سجنا طبقيا. فما بين الغرفة العادية كغرفتي التي تتوفر على دشّ مستقل عن السرير، والغرف العجيبة التي يجاور فيها السريرُ رشّاشَ الدُّشّ، كانت هناك غرفة فسيحة تضم سريرا واسعا وصالونا للتلفاز والتحلق حوله ومكتبا للعمل ومجلسا للاجتماعات. لا يحتاج المرء إلى نباهة كي يخمّن أنّ هذه الغرفة بالذات كانت مكتب مدير السجن. لكن بالنسبة لإدارة الفندق اليوم، كلها غرف مفتوحة في وجه الزوار. لا فرق بين زنزانة ومكتب. فعلا لا فرق هناك، ما دامت كل الغرف تطلّ على القناة وعلى الماء الذي يجري فيها بوداعة. ظل المطر يهطل هذه الأيام. فعلا لا خريف هنا. بل سحاب داكن ثقيل. مطر وشتاء. السماء رمادية والماء رمادي في القناة. في كل القنوات المائية والأودية التي تخترق المدينة. لكن أمستردام عرفت كيف تثأر لنفسها ولساكنيها من هذا الجو المتجهّم حينما أنشأت للأهالي والزوار على حدّ سواء حديقة ضوئية حمراء في قلب المدينة. حيُّ الضوء الأحمر، أهم المعالم السياحية للمدينة، حديقة تضج بالحياة وتشعل الحواس في الحيّ الأحمر. زرتُ هذا الحيّ العجيب ذا الواجهات المضاءة والفيترينات المشتعلة حيث أصنافُ اللحم الأنثويّ الحيّ معروضة بطريقة لا نظير لها، هنا حيث مقاهي المخدّرات المرخصِّ لها ولمُستعمليها، حيث متاحف الدعارة والمسارح الحمراء، فوجدته مكتظّا عن آخره. مزدحما بالسيّاح والمارّة وطلّاب اللذة العابرة. لكنه هذه الليلة بالذات بدا شبه مُحتلٍّ من طرف الإيرلنديين الشماليين. عرفتُ فيما بعد أنّ مقابلة ستجري في اليوم الموالي بين المنتخبين الهولندي والإيرلندي الشمالي هي التي جعلت القمصان سماوية اللون تجتاح المكان. كان الإيرلنديون يجوبون الأزقة المجاورة بصخب وحماس. بعض المخمورين منهم يتدافعون ويردّدون أهازيجهم بشكل جماعي. لكن في اليوم الموالي، خَفَتَ حماسُهم.. بل إن العديد منهم بدوا لي منطفئين. وحين استفسرت عن الأمر علمتُ بأن منتخب الطواحين الذي كان مهزوما على امتداد ثلثي زمن المباراة سيطحنُ الإيرلنديين في الدقائق الأخيرة بريمونتادا قاسية. هكذا يعزّز من حظوظه في التأهل إلى يورو 2020.. هذا جيّد، فقد كان غياب منتخب "الكرة الشاملة" فادحا خلال دورة 2016 الأخيرة. أمستردام مدينة القنوات والوديان. وديان ووديان. وادي أمستل الذي يشطر المدينة نصفين. لكن هناك وديان أخرى تنبع من المدينة وتتّجه نحو أكثر من مصب: أمستل نفسه - أو نفسها - وهاينيكن. وديان ترفع من يسبح في "لُجَيْنها" إلى أعلى علّيّين. إنّما، ما علينا. هي أمستردام هكذا.لديها مرادفاتُها المتعدّدة. قد تكون من بينها أمستل. هاينيكن. وأياكس. كنا نسميها أيّام أوّل الشباب والولع بالكرة "أجاكس أمستردام"، قبل أن ننتبه إلى أنّ جيم الهولنديين ياء. أياكس أمستردام. وما إن نتحدّث نحن المغاربة عن أياكس، حتى نفكر مباشرة في حكيم زياش ونصير مزواري نجمَيْ فريق العاصمة الهولندية. ومن عجائب الاتفاق أننا ونحن في الطائرة نبهني صاحب "المصارع"، الكاتب بالفرنسية مولاي الصّدّيق الرّبّاج، إلى أنّ الجالسين قبالتنا بالضبط ليسا سوى زيّاش ومزواري. فعلا كان نجما المنتخب المغربي لكرة القدم أمامنا مباشرة. كان حكيم يتحرك بين الصفوف بجوربين قطنيين أبيضين، كأنّ حذاءه الرياضي أزعجه في الطائرة وأثقل عليه. في لحظة سقط مني قلمي وتدحرج باتجاههما. تطوّع مولاي الصّدّيق لإحضاره فسلّمه أحد اللاعبين القلم. تذكرت المقولة المغربية الطريفة: "اللي ما جا بالقلم يجي بالقدم". فعلا، القدم أهم من القلم في زمن الناس هذا. لكن يبقى زيّاش ورفاقه من أبناء الجالية المغربية بهولندا جسرا حقيقيا بين المغرب وهولندا. مثلهم مثل أدبائنا عبد القادر بنعلي، حفيظ بوعزة، مصطفى ستيتو واللائحة طويلة. بنعلي الحاصل على جائزة ليبريس، أرفع جائزة أدبية هولندية، ظلّ بالنسبة لي كاتبا مغربيا. هو يكتب بلغة الهولنديين، لكن وجدانه وخياله مغربيان، أمّا شخصياته فمغربيةٌ جدًّا. لهذا حرصت على إشراكه معي في أنطولوجيا "مرّاكش نوار" التي أصدرتها عن دار نشر نيويوركية شأنه في ذلك شأن مواطنيه فؤاد العروي ومحمد الأشعري وماحي بينبين ومحمد نضالي وحنان درقاوي ومولاي الصّدّيق الرّبّاج. عبد القادر بنعلي كاتبٌ مغربيٌّ بالقدر نفسه الذي يُعدُّ به زيّاش لاعبا مغربيا. في أمستردام، هناك مجال لمغرب كامن معطاء. معطاء في الأدب والثقافة والفن وكرة القدم. صحيح أننا لم نحصل على نصيبنا من كسكس أهل أمستردام الذي حدّثني عنه سائق التاكسي الإثيوبي في مانشستر. صحيح أيضا أنّ عددا كبيرا من المغاربة غابوا عن تظاهرتنا الثقافية. لكن النادل المغربي، ابن تطوان، الذي أهدانا مطريات ونحن نستعد للخروج من الفندق في لحظة كان المطر خلالها يهطل بغزارة، جاء ليؤكّد لنا من جديد أن الكرم المغربي هو الأصل. هنا وهناك. في مراكش والصويرة وآسفي والبيضاءوتطوان وزاكورة... وفي أمستردام أيضًا.