قدمت حكومة سعد الدين العثماني أمام المجلس الوزاري برئاسة الملك محمد السادس، الأربعاء، عرضاً حول التوجهات العامة لمشروع قانون المالية لسنة 2020، تضمن أربع أولويات كبرى ذات رهانات كبرى وتحتاج تعبئة مالية عظيمة. أولى هذه الأولويات تهم قطاع التعليم الذي يتخبط في مشاكل كبيرة منذ سنوات. وتُعول الحكومة في هذا على تنزيل القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين المُعتمِد على الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015-2030 رغم مرور أربع سنوات من عمرها. كما تُراهِن الحكومة على هذا القانون الإطار بهدف تقليص الفوارق وإرساء مبدأ تكافؤ الفرص، وتعزيز الدعم الاجتماعي للتمدرس، إضافة إلى تفعيل خارطة الطريق لتطوير التكوين المهني، خاصة في ما يتعلق بإنشاء مُدن جهوية للكفاءات والمهن، وتحديث المناهج التربوية عبر التكوين بالتناوب والتكوين بالتدريج، وملاءمة وتطوير روح المقاولة، خاصة بالنسبة للشباب المنتمين إلى القطاع غير المهيكل. أما الأولوية الثانية فتهم إرساء آليات الحماية الاجتماعية ودعم الطبقة الوسطى وتعزيز استهداف الفئات المعوزة، من خلال تحسين وتعميم الخدمات الاستشفائية، وتوسيع التغطية الصحية، وتفعيل التأمين الصحي، إضافة إلى تنزيل التزامات اتفاق الحوار الاجتماعي الأخير الذي أقر زيادة لعموم الموظفين العموميين على مدى ثلاث سنوات. وتتعهد الحكومة بتسريع تنزيل الجهوية، إذ تعتبرها "رافداً أساسياً لمعالجة الفوارق المجالية، وتحقيق التوازن المنشود بين المجهود التنموي العام وبين خصوصية كل جهة، من خلال الرفع من موارد الجهات، وتسريع تفعيل ميثاق اللاتمركز الإداري الذي سينقل الاختصاصات المركزية إلى الجهات". وبالإضافة إلى ما سبق، وضعت الحكومة ضمن أولوياتها أيضاً إعطاء دينامية جديدة للاستثمار ودعم المقاولة، مع التركيز على تنزيل توصيات المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات، ومواصلة تصفية دين الضريبة على القيمة المضافة، مع تقليص آجال الأداء؛ بالإضافة إلى إحداث صندوق للتأهيل والدعم المالي للمقاولات الصغيرة والصغيرة جداً والمتوسطة، التي تشكل أكثر من 90 في المائة من النسيج المقاولاتي في المملكة. وتبقى الأولويات سالفة الذكر كبيرة، وإن تحققت فعلاً على أرض الواقع فسيكون لها أثر بالغ الأهمية، لكن الحكومة تُواجه صعوبات مالية تجعلها أمام تحديات كبيرة لتوفير الموارد المالية الضرورية لتطبيق مقتضياتها، خصوصاً الجهوية المتقدمة التي تتطلب تحويل مبالغ أكبر إلى الجهات. ويزداد الوضع صعوبة بالنسبة للحكومة في ظل عجز للميزانية لا يسمح بهامش مريح للتحرك؛ لكن يتم الرهان على الإصلاح الضريبي المُقبل لتوسيع الوعاء الضريبي، وبالتالي رفع إيرادات الدولة. لكن ذلك ليس بالعمل السهل الذي قد يتحقق في ظرف سنة، بل يحتاج أولاً جرأة سياسية وسنوات طويلة لإنهاء ثغرات النظام الضريبي الحالي. وفي نظر رشيد أوراز، وهو باحث اقتصادي بالمعهد المغربي لتحليل السياسات، فإن الأولويات التي وضعتها الحكومة هي "إصلاحات مستعجلة يتوجب عليها العمل على تنزيلها بشكل أمثل لكي تنتج ظروفاً مناسبة لإقلاع اقتصادي بعد سنوات من تحقيق نسب نمو ضعيفة". ويؤكد أوراز، في حديث لهسبريس، أن الإقلاع الاقتصادي يواجه مشكلة الكفاءات البشرية، وأضاف: "لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية بدون إصلاح التعليم الأساسي والجامعي لتخريج شباب يتوفر على الحد الأدنى في اللغات والمعارف والقدرات". أما في ما يخص الجهوية المتقدمة، فيرى الباحث الاقتصادي أن جزءاً من ميزانية الدولة الذي يُصرف مركزياً يتطلب أن يخضع لمبدأ التفريع (Principe de subsidiarité)، ما يعني أن مجموعة من الموارد الضريبية للدولة يجب أن تُصرَف محلياً وجهوياً. وما يزيد من صعوبة مأمورية حكومة سعد الدين العثماني، حسب أوراز، أن قانون مالية سنة 2020 سيتحمل تبعات فشل المغرب في تحقيق التنمية بعد الإقرار بوصول نموذجه التنموي إلى مداه؛ وذلك يتجلى في استمرار الفقر والهشاشة وتراجع القدرة الشرائية لدى الطبقة الفقيرة والمتوسطة أيضاً. وفي ما يخص إعطاء دينامية جديدة للاستثمار ودعم المقاولة، أشار أوراز إلى أن هناك تراجعاً للاستثمار الأجنبي المباشر؛ ناهيك عن تراجع الاستثمار الخاص في المغرب بسبب انعدام الثقة في المناخ الاقتصادي والسياسي. وأكثر من يعُاني من انعدام الثقة والانتظارية هي المقاولة المغربية الصغيرة، لأنها تشتغل في ظروف غير مناسبة ولا تجد بيئة للنمو والتطور؛ ولذلك يُشدد الباحث الاقتصادي على ضرورة إيلاء الأهمية أكثر لتحرير الاقتصاد الوطني واعتماد إصلاحات مؤسساتية حقيقية عوض التركيز فقط على الحلول التقنية. ولإعطاء مثال على واضح عن المناخ المقاولاتي في المغرب، يشير أوراز إلى تحسن ترتيب المغرب في مؤشر ممارسة الأعمال الذي يصدره البنك الدولي؛ لكن ذلك لا ينعكس على الواقع لأن معدل الحرية الاقتصادية لازال ضعيفاً في المغرب بفعل استمرار الاحتكار والتركزات في عدد من القطاعات، وهو ما يجب على مجلس المنافسة التعاطي معه. ويخلص أوارز إلى القول: "الأولويات الأربع لمشروع قانون مالية 2020 هي بمثابة تحديات كبيرة للدولة، وإذا لم تنجح في كسبها ستواجه مشكلاً كبيراً في السنوات المقبلة، لأن الأمر يتعلق بقطاعات ومجالات ذات أهمية بالغة ولها تأثير مباشر على الاقتصاد الوطني".