تروي كتب السير والمغازي عن أنس بن مالك أنه قال:" أتى رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، قال: عذت مُعاذا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربنى بالسّوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص يأمره بالقدوم عليه ويَقْدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن اللئمين، قال أنس: فضرب فوالله لقد ضربه ونحن نحبّ ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنّينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع (أي السوط) على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني ". لاشك أننا جميعا قرأنا هذه القصة في دروس التاريخ الإسلامي أو في مقررات التربية الإسلامية أو سمعناها من أفواه الخطباء والوعاظ في المساجد... حيث قطع ذلك الفتى المصري الفيافي لأنه ظُلم في موطنه من طرف ابن والي مصر آنذاك عمرو بن العاص، ولاذ بعدل عمر بن الخطاب الذي أنصفه وانتصف له. ولاشك أننا أيضا نتباهى ونفخر بتلك المقولة الخالدة التي وردت على لسان عمر بن الخطاب في خاتمتها "مُذ كَمْ تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"، لأننا نعتبرها من المقولات الخالدة والمبكرة التي أسست لفلسفة حقوق الإنسان قبل إقرارها في المواثيق الدولية الحديثة، وجسدت بشكل واضح وملموس العدل بين مواطني الدولة الإسلامية في زمن عمر بن الخطاب... نستحضر هذه الواقعة التاريخية المضيئة في تراثنا الإسلامي لنقيس عليها ظاهرة مجتمعية متنامية يعبر عنها المغاربة ب"ولد الفشوش" أو "بنت الفشوش"... والفشوش عبارة مغربية دارجة تصف حالة الدلال الزائد عن الحد التي يعيشها بعض الأشخاص، ذكورا كانوا أو إناثا، في مظاهر حياتهم اليومية والاجتماعية على مستوى المظهر الخارجي في اللباس أو الأثاث أو المراكب المستعملة أو الذوق في المأكل والمشرب وفي كيفية التخاطب أو حركات الجلوس والمشي والوقوف...وغيرها من الأشياء المظهرية التي تخالف في العادة عموم الناس وتخرج عن المألوف... ويوصف أصحابها بأنهم "ولاد الفشوش" أو "بنات الفشوش" !! وإذا كان الأمر في هذه الحدود، فإن عامة الناس تكتفي بالنظر إلى هذه الظاهرة على أنها سلوكيات "سلبية" تخص أصحابها ولا تتجاوزهم إلى الغير إلا من خلال بعض الاستفزازات النفسية والشعورية التي تصيب بعض ضِعَاف المناعة المجتمعية تجاه تلك المظاهر... إلا أن الأمر في السنوات الأخيرة، ومن خلال حوادث متفرقة، لم يعد "الفشوش" سلوكا شخصيا سلبيا يخص أصحابه، بل أصبح سلوكا مقرونا بالاعتداء العنيف الجسدي أو اللفظي الذي يصدر عن "أبناء أو بنات الفشوش" تجاه بقية أفراد المجتمع لاسيما تجاه بعض القائمين بواجبهم المهني (شرطة – درك – مخازنية – حراس أمن خاص – موظفين عموميين...)، مع أن هؤلاء الأفراد هم أصلا محميون بمقتضيات القانون الجنائي المغربي ولاسيما الباب الرابع من الكتاب الثالث (الفصول 263 – 267) المتعلقة ب"الجنايات والجنح التي قد يرتكبها الأفراد ضد النظام العام"، ومنها على الخصوص: ما يتعلق بإهانة الموظفين العموميين أو الاعتداء عليهم أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسب قيامهم بها، سواء كانت تلك الإهانة ب"أقوال أو إشارات أو تهديدات أو إرسال أشياء أو وضعها، أو بكتابة أو رسوم غير علنية، وذلك بقصد المساس بشرفهم أو بشعورهم أو الاحترام الواجب لسلطتهم"، أو كانت بعنف أو إيذاء جسدي، حيث ينص الفصل 267 من ذات القانون على أنه " يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين من ارتكب عنفا أو إيذاء ضد أحد من رجال القضاء أو الموظفين العموميين أو رؤساء أو رجال القوة العامة أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها. وإذا ترتب عن العنف إراقة دم أو جرح أو مرض أو إذا ارتكب مع سبق الإصرار أو الترصد، أو ارتكب ضد أحد من رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين بالمحكمة أثناء الجلسة، فإن الحبس يكون من سنتين إلى خمس سنوات. فإذا ترتب عن العنف قلع أو بتر أو حرمان من استعمال عضو أو عمى أو عور أو أي عاهة مستديمة، فإن العقوبة تكون السجن من عشر إلى عشرين سنة. وإذا ترتب عن العنف موت، دون نية إحداثه، فإن العقوبة تكون السجن من عشرين إلى ثلاثين سنة. وإذا ترتب عن العنف موت مع توفر نية إحداثه، تكون العقوبة الإعدام. وعلاوة على ذلك يجوز بالنسبة للمحكوم عليه بعقوبة الحبس الحكم بالمنع من الإقامة من سنتين إلى خمس سنوات".. فهل يجهل أبناء وبنات الفشوش هذه المقتضيات الزجرية؟ أم أنهم يتجاهلونها ويستخفون بها ويرتكبون حماقاتهم وعنجهيتهم عن سبق إصرار وترصد، ويتعمدون خرق القانون وانتهاك حرمته في تحد سافر لجميع السلطات والمؤسسات، ولا يعترفون بأن جميع الموطنين سواسية أمام القانون طبقا للفصل 19 من الدستور؟ أم أنهم تربوا في محيطهم العائلي والأسري على أنهم من "أبناء الأكْرَمِين" الذين "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"؟!! إن سلوكيات هؤلاء الزاعمين "للأكرمية" لا يمكن أن تُصلح وتُقوّم إلا بمثل ما أصلح وقوّم به عمر بن الخطاب سلوك "ابن اللئمين" في زمانه، وذلك موكول لسلطة القضاء وردع القانون، والقانون يعلو ولا يُعلى عليه.