قصة تدور وقائعها حول حالة شاب بحاسة شم غريبة عاش طفولته بكريان سنطرا .. كيف ركبت أمه الحسناوية الأهوال والشدائد لتضمن له عيشا كريما ... وستتلاحق أحداث دراميتيكية بين مدينتي الدارالبيضاءوطنجة ثم جنوة بإيطاليا . ثم أخيرا كلمة العدالة في حق حالة إنسانية دقيقة . هي حالة حقيقية وقف عليها الكاتب بنفسه ، فوظفها في هذه الوقائع التراجيدية ، وفي آن لإعطاء انطباع عن اهتمام مجتمع بظاهرة وتوليها بالبحث والاستقصاء ؛ مقابل مجتمع يقبع في الضفة الأخرى ؛ لا يألوها أي اهتمام يذكر .. أو يصنفها في ذاكرته ضمن الأمور "العجيبة". طفل كريان سنطرا فتح عينيه وسط "دوار طوما" ؛ كريان سنطرا بالحي المحمدي أشهر أحياء الدارالبيضاء ، من أبوين لم ير منهما سوى أمه لبنى الحسناوية التي اعتادت الغياب عن "المرجة" بياض يومها لتعود إليها في ساعة متأخرة من الليل عبر "الكرويلا" أو دراجة رباعية الدفع لأحد قاطني الدوار . بدت منهكة القوى وهي تحاول إيقاظ وليدها "البخوش" كما كان يحلو لزمرة أولاد الكريان مناداته ، لصعوبة العثور عليه داخل متاهات الأكواخ والمسارب التي كان يعج بها الدوار ؛ كان يرقد على بطنه ، وهو دأبه كلما شعر بالجوع ينهش أمعاءه ... استيقظ مذعورا ومهلوسا : " ... لا ... لا ... سيرْ لمّاك .." ، أخذت تربت على كتفه محاولة تهدئته : " ... كولْ اشْويّا .. آولدي .. أولّي تنْعاسْ .. نوضْ .. نوضْ .." وبينما كان يزدرد كسرة من البطبوط المحشو بالنقانق تسللت أصابعها إلى أحد جيوب سرواله الخلفية لتعثر على علكة سوداء في حجم الحمصة ، أدنتها من أنفها ، وما كادت تفعل حتى انهالت عليه بالصفعات وقد فقدت صوابها : " .. ياكْ آولد القحْ .. منْ دابا بديتي تشمْ .. آدْوي لمّاكْ .. امْنينْ جاتك ..؟ " " .. انْساوها عندي ،، كايسخْروني باشْ نجيبْ ليهم الفلوس .." " .. اشْحالْ من مرّة .. انْهيتك .. ماتمْشيشْ لعندهم.." " .. هما لكايجيو إقلْبو عليّا .." انتحت زاوية مظلمة داخل القشة ، ثم ألقت بجسدها النحيف على الأرض لتذهب في نوم غطيط . وبعد أن انتصف الليل وأخذ الصخب والسباب والتراشق بالحجارة يخبو سُمع لطرقات خفيفة على بوابة الزنك ، ارتعدت فرائصها وأسرّت لابنها بأن يجيب الطارق " بأنها لم تدخل بعد من المدينة .." أطل من كوة من هناك فألفى "المرعود" واقفا عند الباب ، اعتاد على صوته المدوي الذي يشبه قصف الرعد كلما كلفه بتسليم السخرة لزبنائه في الحارة : " .. كايْنا امّاك ...؟ " " .. باقا ماجاتْ .." ما لبث إلا قليلا حتى ركل صفيحة الزنك وقفل عائدا تحت سيول الأمطار التي حولت الدروب الضيقة إلى سواقي يتقاذفها الطمي في كل اتجاه وعبر كل المنافذ والسقوف الهشة وسط ظلام دامس . انحازت قليلا إلى جوار ابنها لتدثره بجلبابها ولتستكين إليه ؛ وآذانها على وقع السيول العاصفة وهي تضرب بشدة صفائح قصديرية محاذية لجهة السقف . في الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم أخذ الصياح يتعالى من كل ناحية ؛ يختلط بعويل الأطفال وصرخات الاستغاثة ، فقد بات كريان طوما تحت وطأة كارثة كادت أن تغرق سكانه ، وتحول عشّاتهم وأكواخهم إلى أثر بعد عين . مناسبة لصيد ثمين استمر ميلود/البخوش يكبر لا يبارح حارته ؛ اكتسب ثقة العديد من الصعاليك الذين كان الكريان يمور بهم وبأمثالهم ممن امتهنوا ترويج المخدرات والكحوليات .. كم مرة توسل إلى أمه في أن يصطحبها خارج ذلك العالم ، لكن رفضها كثيرا ما كان يثقل باله بمجموعة من التساؤلات سرعان ما يتخلص منها بمجرد أن يعلم أنها مصدر قوته اليومي . كانت الحسناوية تشتغل "خدامة" لدى تريّا ؛ تسند لها مهمة عند زبنائها الذين كانت تتواصل معهم عبر البورطابل/الواتسب ، وذات يوم رن هاتفها قبل أن تغادر الكريان : " ..عندكْ واحدْ اليوماينْ فْدار كبيرا .. امّاليها دايْرين العرسْ ...كوني حادْكًا .. عنداك تحشميني معاهم ..؟ " . التحقت بفيلا ضمن مجموعة من الخدّامات ؛ على رأسهن الحاجة الباتول التي تولت توزيع المهام عليهن من نظافة وطبيخ وسهر على راحة الضيوف وإجابة طلباتهم ... فيلا فخمة تقع بحي آنفا ، تطل من الواجهة الغربية على شاطئ عين الدياب ؛ استعارها أحد الأمراء الكويتيين ليقيم بها حفل زفاف ابنه . وعلى مدى يومين متتاليين تحولت الفيلا إلى قبلة للعديد من الضيوف الذين قدموا من أنحاء أوروبا وأمريكا والخليج . تقدمت الحاجة البتول من الحسناوية وأخذت تتفرس سحنتها ثم ما لبثت أن خاطبتها بلهجة صارمة مادة إليها بكيس : " .. هالكسوا لّيغاتلبسي .. دوزي لعنْد مولاتْ الماكيّاج ... حفْظي دوْركْ مزْيان .. هوّا تسقي الضيوف .. الّيبغا شيحاجا اعْطيهالو ..واشْ سماعتي ولاّ .. لا ..؟! " " .. انْعامْ آلالاّ ... اسْمعت .." صدحت المويسيقى في كل أرجاء الفيلا التي ازدانت بوجوه لامعة من وجهاء القوم ؛ يغدون ويروحون ذهابا وجيئة على عشب ندي لأجزاء متناثرة من حديقة فواحة بعطور الآس والياسمين ؛ تصحبهم همسات وقهقهات ودخان كورجا بلاك .. تتعقب الحسناوية خطواتهم حاملة صينية بأرفع كؤوس الشامبانيا والويسكي . ولما فرغ أحدهم كوبه في جوفه همس في أذنها : " .. الهانم تأخرت .. روحي اطْرقي بابها رقم 13 .. قولي لها تعالي .. متْأخّريش .." طرقت الباب ، فتحت لها امرأة في عقدها الثالث .. ثم أبلغتها بأن الرجل ينتظرها بالحديقة . تمطّت وتثاءبت .. ثم استمهلتها ريثما تخرج من الدش ، في هذه الأثناء جالت الحسناوية بنظرات متلاحقة في أنحاء الغرفة لتحط على مجوهرات وقلادات كانت معدة لتوشح بها صدرها وأيديها . ارتدت الهانم فستان السهرة وتزينت تحت نظرات الحسناوية ؛ بين الحين والآخر كانت ترغب في رأيها : " .. كيفْ .. حيلوْ .. موشْ لا .. هيك ..؟ " " ..حيلو ... والله حيلو .." لاحظت أنها اكتفت ببعض حليها ثم أغلقت الدرج ، وهمّت بنزول الأسانسور رفقتها .. لكن ما إن ترجلت قليلا وسط الحضور حتى أدركت أنها نسيت علبة سجائرها بالغرفة ، فناولت الحسناوية لاكارط/المفتاح ودلّتها على الكود ثم استعجلتها بكلمات خافتة : " .. أسرعي .. لقد تأخرت .." . غابت الحسناوية قليلا ، وكل أعين الحضور كانت مركزة على الهانم منبهرة بقدها وأنوثتها ولباسها .. وزاد أن افتتنوا بها حينما ولعت سيجارتها وقذفت من حولها بأدخنة مترنحة لتستتبعه بجرعة من شراب الكونياك على يد الحسناوية . كانت نظراتها زائغة ومذعورة وكؤوس الشراب تترنح في الصينية وهي تحاول أن تستزيدهم منها . عمدت إلى شجيرة ظليلة بعيدة عن الأنوار وأخذت ترتب لنفسها حيلة للهرب والنجاة ، فيما كان الحراس يطوقون الفيلا يتبادلون المواقع في صمت مطبق ونظراتهم لا تفتر عن مراقبة الأبواب والمنافذ ،اتجهت نحو دهليز هناك ؛ قادها إلى شاحنة للنفايات كانت رابضة هناك وسائقها يراجع أضواءها الخلفية ، وما إن تحركت قليلا حتى تسلقت الواجهة الخلفية بسرعة جنونية أشبه بقطة بيضاء مذعورة لتتكوم داخل صندوق للخمور وتنتظر قدرها . ليلة رهيبة طال انتظار ميلود البخوش ، وكعادته كلما ألم به الجوع يلوذ بالنوم ، لكن لم يلبث سوى قليل حتى انتهت إلى مسامعه هزات الباب فاعتقد أول وهلة أنها صفعات الرياح أو المرعود جاء يسأل عن أمه في الهزيع الأول من الليل . التفت مذعورا صوب الباب وهو يسمع أنفاسا تتلاحق وتنهدات عميقة .. حرصت على ألا توقد السراج ، متكتمة على أحوالها .... اقتربت منه ودعته للخلود إلى النوم . وفي ضوء غبش الفجر وبينما كانت قطع الظلمة تتبدد في الأفق البعيد ، تسللت الحسناوية ممسكة بمعصم ولدها ، ومحملة بكيس ثخين على ظهرها وقد علت محياها خدوش وسخام . لأول مرة في حياته ؛ وبعد أن تجاوز عتبة سنه الخامسة عشرة ؛ يرى نفسه يخرج من قفص الكريان ويتركه وراءه معانقا أرضا جديدة مفعمة بحياة ضجيج السيارات والأطوبيسات .. ولم يكن يعبأ بالزحام الذي طفقت الكرويلا تغوص فيه بين الفراشا وصراخ أصحاب الهوندات والطاكسيات ... بدا له عالما جديدا لم يألفه بعد ولا تجرأت أمه يوما أن تحدثه عنه . المال يوقظ الأحلام استعادت أحلامها وهي تنظر من خلف زجاج نافذة لحافلة كانت تقلها إلى طنجة ؛ كيف عشقت "الخارج" منذ طفولتها وظلت تحلم أن تبتسم لها الأقدار يوما فتجد نفسها تذرع شوارع إيطاليا أو إسبانيا .. كانت كلما شعرت بالنوم يداعب أجفانها تحسست صدرها لتطمئن على "مالها" ، وبين الفينة والأخرى كانت تتفحص بنظراتها شبه النائمة وجه ميلود ، وكأنها تتساءل ما إن كان جديرا بتحقيق الحلم الذي ظل زمنا يراود أمه وهو بعد بخوش صغير ! على وقع فرامل قوية استفاق من نعاسه ليلفي قبالته دركيين يتفرسون وجوه المسافرين فمال على أذن أمه : .. من يكن هؤلاء وبهذا الزي غير المعتاد في الكريان ؟ أغلق فمك .. إنهم أحناش الطريق .. كان ينظر إليهم بشيء من الإكبار قبل أن تخزه أمه بإطباق عينيه . استأنفت الحافلة طريقها بين أبنية شاهقة وشوارع رحبة وحركة دائبة كانت تتناهى إلى مسامعه ، ونظراته مأخوذة بسحر هذه المدينة ؛ أصوات أبواق سيارات بمختلف الإيقاعات فازداد اندهاشا لهذا العالم والتصق بأمه يهمس في أذنها : هل أنا نائم أم في يقظة ؟! هيا ... سننتقل إلى إقامة جديدة .. شقت الحسناوية طريقها وسط حشود المسافرين ولغط سماسرة المحطة ، وبدت في وجه شاحب تعلوه مسحة القلق والخوف ، تجدّ في سيرها نحو الطاكسي وهي لا تطيق المشي مخافة أن يفتضح أمرها . دلفت إلى فندق بدا من بنايته وموقعه كما لو كان في عهود قديمة مأوى لقراصنة البحر . ألح المستخدم على بطاقة هويتها ، لكن توجعها أشفع لها عذرها ، فاصطحبهما إلى غرفة بالطابق الخامس موال لسطح الفندق ، ثم نصحهما بألا تتأخر ليلا وهي لا تحمل بطاقة هوية . الحسناوية على لائحة المطلوبين للعدالة تداركت الحاجة البتول ؛ من خلال تفقدها لمهام الخادمات ؛ أن الحسناوية غير موجودة فأبلغت الحرس بفقدانها ، وعلى إثره دبت حركة محمومة لتفتيش كل مواقع الفيلا ومرافقها . لكن ستزداد الشبهات تلاحقها حينما ستتفقد الهانم مجوهراتها وتعلن عن فقدانها لقلادة ذهبية مطرزة بدقيق الماس ؛ كان قد أهداها لها زوجها في عيد ميلادها . في هذه الأثناء وقد قاربت الساعة الثالثة فجرا سيرن هاتف الوسيطة تريا : " ... نعم ... فاينْ هي صاحبتك ْ الحسناوية ..؟ " " .. عندي غير التلفون ادْيالْها .. ماشتْها من الْبارحْ ... " " .. البوليس .. كيقلْبو عليها .. اتْعاوني معانا .. بلا افْضايحْ .." " .. حتى التلفون ادْيالها مكايْصونيشْ .." " .. غاتمشي معا البوليس لْفين ساكْنا ... ولكن ..." " .. عمْري ماعرفتْ فين ساكنا .. وخّا .. كتقولْ فدوار الطوما .." وما أن همت بإغلاق هاتفها حتى سمعت بابها تحت وابل من الطرقات العنيفة ... فتحت لتجد دورية بوليسية متنقلة ، فدعوها لمرافقتهم وتدليلهم على مسكن الحسناوية ساكنة دوار الطوما هي من الكثافة والشساعة والفوضى .. حيث يعزّ/يصعب العثور على شخص معين ، لكن بعضهم أوعز إلى البوليس بالتخابر مع المرعود بوصفه المتحكم في رقاب الدوار لا تغيب عنه الشاذة والفاذة . ولما مثل أمامهم بقامته الفارعة وعينيه المظلمتين ووجهه الذي زاد في بشاعته ندوب غائرة .. أفادهم : " ... لا ... لا ..تسو .. ماجاتشْ من هدي تلتيّام ... ولكن ... غير نشمّ ريحْتها .. نْجيبها وخّا تكون تحت الارض ..." الطالياني والتهجير كانت للحسناوية صلة بشبكات التهجير إلى أوروبا ، وطلبوا لها مبلغا طائلا لتسفيره إلى الضفة الأخرى عبر قوارب "الموت" ، بيد أن أحدهم استنفر كل خطوط اتصالاته لما نفحته أوراقا مالية مغرية ، فأرشدها إلى سائق إيطالي يتردد بين طنجة وجنوة ، ويقبل بتسفير مهاجرين ، لكن تحت شروط قاسية . لم تكن تنوي الدخول في "مزايدات" بشأن إنقاذ ابنها من الضياع طالما أن أصبحت بحوزتها الملايين مما عجل بترتيب لقاء صفقة بينها وبين الطالياني روميو في أحد المقاهي العتيقة . قعدوا هم الأربعة والوجوم يخيم على الوجوه ، فيما كانت هي بفعل تمرسها بمعاملة أنماط بشرية كثيرة تتفرس القاعدين أمامها فأرسلت بحدسها يسبر غور أعماقهما . لكن الوسيط بيتشو سرعان ما بادر إلى تعريف كل منهما بالآخر إلى جانب ابنها موضوع الصفقة . الطالياني روميو إلى البيتشو بنظرات زائفة وكان يتكلم الدارجة بركاكة : الطالياني : " ..آمون فريرو ...كونسيل .. إيل بيزو أنو ..." بيتشو : " ... إبل بريزو ...فينال كبير فافور .." الطالياني متأففا : " ... ديسي ميليوني .." بيتشو ملتفتا إلى الحسناوية : " .. قالّاكْ عشْرا .." الحسناوية : " .. فاشْ غايركْبو ..؟ " بيتشو : " .. عندو كاميونْ ارْموك .. ديال السّلعا .." الطالياني متوجها إلى الحسناوية : " غايبْكا عنْدي فالكاميونْ .. والباطو .. غاينكّلنا للطاليان ... خايمي ديو جورني ربو " الحسناوية مركزة نظراتها على ابنها ميلود البخوش وهو كل ما تملكه : " ...أوكي .. فالعشيّا .. نجيبْ لك الفلوس .." افترقا على أن يتجدد لقاءهما بنفس المكان . غمرته سعادة كبيرة وهو يرى نفسه يذرع شوارع طنجة متمسكا بتلابيب أمه ؛ رأسه تميل ذات اليمين وذات الشمال وكأنه في رقصة أحيدوس ؛ لا يفتر عن رمي أمه بسؤال : " ... واشْ غانمشي للطّاليان فالطيّارا ..؟ !" ، لكن هموما ولواعج دفينة كان يزدحم بها صدرها فلم تكن لتأبه بكلامه فتكتفي بإلقاء نظرة زائغة لجانبه ولسان حالها يقول " .. أنت .. .. أنت .. الذي حملني على ركوب هذه الأهوال .." بميناء طنجة المتوسط في المقعد الأمامي للشاحنة ؛ وهي في طريقها للتسجيل والجمارك قبل أن تأخذ موقعها داخل بطن السفينة ؛ جلست الحسناوية إلى جوار روميو تسلم له بقية الملايين ، ثم تنفحه نصف المليون زيادة وهي تشد بيدها اليسرى على كتفه ويدها اليمنى على رأس وحيدها : " ... مسيو روميو ... بير فافور ...ولدي عينيكْ ... امْنينْ ترجع ...عندي ليكْ هدية ... أوكي ..؟" نظر إليها وقد رسم على محياه ابتسامة بلهاء " ... ترانكيلو .. ترانكيلو ..سينيورا حسناوي .." قبل أن تنزل من الشاحنة أخذت رأس ولدها بين يديها ثم ما لبثت أن احتضنتها والدموع ترفرف في أعينها . وقبل وصوله إلى بوابة الجمارك أشار إليه بدخول صندوق خشبي عمودي متصل مباشرة بأسفل مقعده ثم رفع سبابته في وجهه بعينين حمراوين وقال صارما : " .. ترانكيلو بكوش ..تخرج ..نو .. سي كوراجيو ..." بميناء جنوة بعد مضي قرابة اليومين من الإبحار في عرض مياه المتوسط شرعت السفينة سيرفو "Serveu" تلامس حوض ميناء جنوة ، بينما كان البخوش ؛ بين الفينة والأخرى ؛ يطل من تحت مقعد الشاحنة تبعا لتعليمات الطالياني روميو . استكمل الإجراءات الجمركية ليغادر الميناء في اتجاه منطقة دارسونا Darsona صحبة البخوش جنبا إلى جنب فلاحظ امتعاضا باد على محياه فسأله بتودد : " .. لاباس ... لاباس .. نو ..؟ " البخوش بعد أن تبدد عنه عناء السفر داخل الصندوق " .. أوه .. إخْ .. روائح أزعجتني طيلة الرحلة .. يبدو وكأنك تقود شاحنة للفئران وليس للسلع ..!" أوقف الشاحنة قبل أن يستوضحه : " .. الفئران .. الفئران.. وهل ضايقك فأر هنا .. أم كنت تحلم ؟! " " .. لا ..لا .. لم أراها .. ولكني شممت روائحها .. فهي تعيش في حاوية ما .. مما تقله شاحنتك .." اقتاده روميو إلى حظيرة للسيارات المتلاشية هناك .. ووعده بأن سيعود إليه ليتفقد أحواله قبل أن يودعه في مكان آمن .. نظر البخوش من حوله فلم يجد شيئا مما ألفه في عالمه بالأمس ؛ وحدات سكنية متناثرة هناك تربطها طرقات مرصفة بين شجيرات مشذبة على مستوى أفقي متراص لم يعهد لها مثيل سوى بألعاب البلايستيشن . تسمر في مكانه واعتلاه رعب حينما باغته كلب رابض هناك ببوابة الحظيرة ، إلا أن حارسا هدأ من روعه بكلمة ياما سمعها من روميو : " ... ترانكيلو .. ترانكيلو .." ولج إلى داخل الحظيرة بخطوات متئدة خلف الحارس ، ومشهد سيارات ومركبات وقطع متهالكة كان يؤثث مساحة شاسعة ، بدت أشبه بغابة ذات أغصان وأوراق حديدية ! لكن وقبل أن يجلس سمع لصدى بوق سيارة يتكرر بالباب ..بيب .. بيب .. بيب .. " .. آه .. إنه المستر بافلوف يعود ثانية .." قالها الحارس وهو ينهض مسرعا صوب الباب . المستر بافلوف أصلع في عقده الخامس ، بدا متأففا : " .. أف .. تبا هذه المرة سأحرقها وأريح أعصابي منها .." الحارس : " .. هون عليك .. مستر ..ماذا دهاك .. اهدأ .." " ..هذه هي المرة الثانية التي أستبدل فيها (سلسلة المحرك)Courroie/ Cintura في أقل من شهرين ، أخذتها جديدة ولكن .." الحارس : " .. إذن .. ماذا تريد ..؟" بافلوف حانقا : " .. سأستبدلها بسلسلة قديمة .. وهي التجربة الأخيرة " ذهب ثلاثتهم بافلوف والحارس والبخوش ينقبون بين صناديق المحركات المتراكمة هناك عن السلسلة بنفس الماركة . وفيما بعد تولى الحارس عملية استبدالها بمساعدة البخوش الذي كان يناوله المفاتيح المناسبة ، بيد أن هذ الأخير فجأة اعتراه تقزز ونظراته محصورة في أجزاء المحرك فصدرت عنه إيماءة إلى الحارس : " .. فأر .. .. فأر .. فأر .. !" الحارس مع بافلوف يحملقان فيه : " ... ماذا يعني ..؟ " البخوش سارع إلى أن استل ورقة مطوية قديمة من جيبه تحمل صورة فأر .. ثم طفق يشرح بيديه وأسنانه . الحارس ملتفتا إلى بافلوف : " .. لعله يقصد ..." بافلوف مقاطعا : " ..فهمت .. ..فهمت .. ..فهمت .. يعيش معي في هذه السيارة فأر وهو الذي يقضم كل سلسلة .. !" بافلوف مشدوها ؛ وهو بروفيسور مختص في جراحة الجيوب الأنفية : " .. لكن كيف لهذا الفتى أن يشتم رائحة حيوان من فصيلة الفئران دون أن يراه !" البخوش يتحول إلى نجم في وسائل الإعلام ليتأكد من حاسة الشم لدى البخوش ، اصطحبه إلى مختبره وحاول إخضاعه إلى تجارب متدرجة تارة عبر غرفة فارغة وأخرى تحمل رائحة فضلات فأر ... فتوصل إلى نتيجة أنه أمام شخص بحاسة شم قوية لمختلف الروائح وعلى رأسها رائحة الفأر . مضى على إصلاح سيارته قرابة العام دون وجود عطب في السلسلة .. بعد أن طهر الجراج من كل الفئرن وروائحها بمعونة البخوش الذي صار يناديه على سبيل الدعابة ب"صديقي الفأر" ؛ يرافقه في كل رحلاته وأسفاره سواء من خلال مؤتمراته العلمية أو محاضراته ، كما احتضنته العديد من الشبكات والمنابر الإعلامية وصار ذا شعبية على كل لسان في الشارع العام الإيطالي أوالأوروبي معا . ومن الطرائف التي لقيها بهذا الصدد أن همس يوما في أذن أحد أرباب المخابز : " ..أن فأرا يعيش معك فاحذر .." ، فأقبل عليه مشدوها : " ..ومن أخبرك .. فقد بذلت كل نفيس للتخلص منه ... ولكن .." في أعقاب الثلاث سنوات التي تلت حلوله بالديار الإيطالية كان لا يفتر عن الاتصال بأمه ، لكن ما إن أخبرته بنيتها في جلب بعض أغراض لها من الكريان سنطرا حتى انقطعت الصلة بينهما ولم يعد يسمع صوتها كما ألف من قبل .. مما حمله على التفكير في الذهاب إلى المغرب وتقصي أخبارها بعد أن أصبح يتمتع بجنسية إيطالية مع بطاقة VIS تخوله حرية التنقل بكل أنحاء أوروبا . البخوش يحط بمطار الدارالبيضاء هناك بون شاسع بين بخوش المغرب وبخوش إيطاليا الذي حل بالمطار مرتديا سترة زرقاء مفتوحة وقميصا أبيض تتدلى على صدره ربطة عنق حمراء ، بنظارة سوداء ، يحمل حقيبة يد خفيفة ... منظره كان أشبه بأحد عملاء المافيا جاء لتصفية حساب شخص ما ! لكن انتقاله إلى كريان سنطرا كان مبنيا على تخطيط مسبق ؛ فرض عليه التنكر في سحنة أحد أصحاب الكرويلا ، جاء يبحث عن الحسناوية لاستخلاص ديونه منها ... حاول الاقتراب من دائرة القشة (الكريان) وهو يسأل المارة كل حين .. فلاحظ إعراضهم عنه كلما سمعوا بهذا الإسم ، لكن أحدهم شكل استثناء حينما نفحه ورقة 20 ده ، ملحا على أخبار الحسناوية وعشتها : كان مطبقا بصره إلى الأرض وهو يقول بحرقة بادية في صوته : " .. جات واحدْ النهارْ ... وتقبّطْ بها المرعودْ .. ولكنْ ..." البخوش يصيخ إليه بكل جوارحه : " ..لكنْ ... آشنو وقعْ ...؟ " يبتلع ريقه ويستطرد : " ...اضْربها بخواتمْ يدّيه ... لعيْنيها ... امْنين طاحت الأرض ... احْنا عليها يصحابْلو ماتت ... ولكن ..." البخوش يستزيد بهمس : " ..آش وقع ... قول ... ... قول ..ماتت ...واشْ ؟ لا ... مماتتشْ .. ولكن جبْدت الجّانوي .. واخْشاتو لو فكرشو ... طاحْ بحالْ اجْمل ... والدمايات .. جاوْ البوليسْ ... والبونبيّا ...كتفوها .. وسيْبوها فاسْطافيتْ ..." يتحول البخوش عن عابر السبيل وأخذ يمسح العرق الذي كان يتصبب على جبينه . ثم يسمع العابرالسبيل يختم حكايته بأن قذف سمعه بهذه العبارة : " ...غيرْ متقلّبشْ عليها ... راهوما حكمو عليها .. بالمؤبدْ ... وممنوعة من الزيّارة ... !" مفاوضات واجتهاد قضائي عاد البخوش بعجلة إلى روما ليبدأ من هناك اتصالاته بشأن الإفراج عنها ، وكم كان مذهولا حينما علم من محاميه الإيطالي بأن أمه سجل القضاء في حقها ارتكاب أعمال جنحية ثقيلة ، منها بتر عضو تناسل لشخص في حي البرنوصي ؛ وسرقة حلي ؛ وأخيرا قتلها للمسمى ادريس المرعود ، إلا أن المحامي وعده بأنه سيبحث في إمكانية تحويل عقوبة المؤبد إلى المحدد ليتسنى آنئذ الوصول إلى حالة إنسانية مما سيحفظ للجاني حق طلب السراح . استمرت الاتصالات والمشاورات زهاء خمسة أشهر وانتقلت إلى مستويات رفيعة بين وزارتي خارجية البلدين ، فأدلى الطرف الإيطالي ببيان أن الحسناوية خشيت على مصير ابنها ؛ وهو يعيش بين الفئران ؛ أن يصبح يوما فأرا في صورة إنسان ... لذلك ركبت الأهوال واخترقت كل الحدود لتضمن له علاجا شافيا . يسدل الستار على أحداث القصة يسدل الستار على وقائع هذه القصة التراجيدية بمشهد خيوط أشعة شمس دافئة كانت تتسلل وراء قطع سحب في الأفق البعيد ليعانقها سرب من الطيور يحلق جهة المشرق ... بينما كانت هناك امرأة بعين مفقوءة تمشي الهوينا على عكاز طبي .. فتقترب من بوابة حديدية حيث ستتقدم إليها خارجها يدا ابنها ... ويحتضن كل منهما الآخر تحت غزارة الدموع التي كانت تفيض بها أعينهما معا .