الثقافة وسؤال التنمية اليوم -3- عملية تحويل الثقافة إلى صناعة يمر عبر مرحلة مهمة ألا وهي مرحلة "نمذجة" المنتج الثقافي الأصل إلى عملية صناعية Procédé Industriel قادر على عملية إنتاج وإعادة إنتاج الشكل الأصلي. 1 تجارب غير مقنعة هذا التحويل من الأصل الثقافي المحض إلى الشكل الثقافي- الصناعي ليس جديدا تماما في بلادنا، فقد استفادت الصناعات الغذائية أساسا من هذه العملية حيث قامت بتحويل منتجات الثقافة في مجال فنون الطبخ المغربي إلى منتجات صناعية- ثقافية مثل صناعة أنواع الكسكس والكسكس الجاهز وفي مجال التوابل. لكن الملاحظ أن تلك التجارب بقيت جد محدودة، وما ندعو إليه في هذه المقالات المتواضعة هو الوعي بالمسألة، ثم بعد ذلك نقوم ب"نمذجتها"، وبالتالي نقوم بتحويل منتجات ثقافية عديدة إلى منتجات ثقافية – صناعية، سواء في فنون الطبخ (القديد المغربي منافس للجامبو الإسباني) أو في مجالات أخرى متعددة. هذه المواد بما تحمله من حمولات ثقافية وطنية ومحلية قادرة على ضمان جزء من السوق العالمي خاصة لدى الدياسبورا المغربية بما يعني ذلك من تشغيل وربح العملة الصعبة. ولربح مثل هذا الرهان، لا بد من إطلاق مبادرات صغيرة محليا، جهويا ووطنيا مع رعاية خاصة للتجارب النوعية من أجل تطويرها. الصناعات الثقافية المقصودة هنا لها علاقات وطيدة ووشائج مع مجموعة من الصناعات خاصة الصناعة التقليدية والسياحة. إن التجارب الحديثة لمجموعة من الدول الإفريقية، خاصة مالي ورواندا، ذات دلالة كبيرة في هذا المضمار. وقد أشرنا في المقال الأول إلى تجربة مالي. 2 تأثير غياب البعد الثقافي عن بعض المبادرات غياب البعد "الثقافي" في كثير من المبادرات والبرامج الاقتصادية يكون له وقع سيء على تلك البرامج. ففي بلادنا مثلا تتوفر وزارة الفلاحة على مشروع مهم لتنمية شجرة الأركان من خلال الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان. الوكالة المذكورة تحدد مجال شجرة الأركان انطلاقا من إقليمالصويرة، وخاصة ابتداء من منطقة "براكة الراضي" إلى حدود تافراوت؛ غير أن المهتم بالثقافة البدوية يعرف جيدا أن بداية شجرة الأركان تنطلق من منطقة آسفي وتحديدا من منطقة "سبت جزولة" على الطريق الوطنية رقم 1 إلى "براكة الراضي" وما فوق. هكذا، تضيع على المغرب وعلى السوق الدولية مناطق شاسعة لزراعة الأركان، مع ما يحمله ذلك من ضياع لفرص الشغل ولتنمية مناطق تعيش الهشاشة المطلقة. 3 التأثيرات الإيجابية من دمج الثقافة في التنمية في تقرير البنك الدولي المعنون ب"المغرب في أفق 2040"، يقول جون بيير شوفور، الذي سهر على إعداد التقرير سالف الذكر، بأن المغرب يلزمه الاستثمار في "الرأسمال غير المادي من أجل تسريع وتيرة الإقلاع الاقتصادي". ويذكرنا بيير شوفور في المقدمة ذاتها بمقولة المؤرخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل حيث يقول: "لا يمكننا التكهن بالتاريخ لكننا قادرون على الاستعداد له". هكذا، فإن الاستثمار في الصناعات الثقافية (اليدوية الفنية أو الثقافية الإبداعية)، اليوم، بالمغرب بإمكانه أن يساعدنا على مواجهة التحديات الكبرى التي تحيق ببلادنا وأساسا مواجهة: الإرهاب وفكره من تطرف وغلو، وثقافة عدم تحمل المسؤولية لدى الأفراد ولدى مؤسسات الدولة. وهذان التحديان أعتبرهما أهم التحديات التي تواجه بلادنا. كما أن دمج الثقافة في التنمية يكون له الكثير من التأثيرات المباشرة نجملها كالتالي: الثقافة باعتبارها رابطا هوياتيا: إن مشاركة الأفراد في الدينامية الثقافية (الإبداعية والفنية اليدوية) تساهم في تطوير الحس بالانتماء المشترك لشعب واحد وبالتالي تكون عاملا حاسما في دمج، وحدة والترابط الوطني. الثقافة باعتبارها عاملا مهما في عملية التلاحم الاجتماعي: التشديد على أهمية المثل الثقافية، والعمل على ترسيخ القيم الثقافية لدى الشباب ثم التأثير المباشر للثقافة في تقوية الإحساس بالهوية الوطنية، يسمح بضمان التلاحم الاجتماعي وبالتالي إعداد المجتمع لمواجهة التأثيرات السلبية للعولمة. وللتذكير، فإن الدول السائرة في طريق النمو مثل بلدنا تتلقى التأثيرات السلبية للعولمة دون القدرة على مواجهتها. الثقافة كعامل للاستقرار الاجتماعي: تطوير بعض الأنشطة المرتبطة بالثقافة في المجال القروي (سياحة ثقافية، تراث، فنون حرفية...) تساهم بخلق أنشطة مدرة للدخل وتحسين مستوى عيش السكان مما ينعكس إيجابيا على الحد من وتيرة الهجرة القروية (إيجابيا على البوادي والمدن). وفي هذا المجال، نورد شهادة رئيس جماعة إحدى البوادي في دولة مالي، عمدة دوجو، يقول إنه وبسبب توافد السياح وإمكانية العمل على المستوى المحلي، ساكنة القرية التي شهدت تناقصا حادا وصل النصف في الفترة بين 1990 وسنة 2000، عرفت نوعا من الاستقرار بل ازديادا طفيفا. ماذا يمكننا أن نقول نحن عن قرى سوس مثلا؟ تقوية الحس بالمواطنة: الثقافة وقد صارت مصدرا للرزق قادرة على المساهمة بدفع المواطنين على إنشاء وتطوير نموذج مجتمعي خاص، وبصيغة متفردة للعيش المشترك وبنموذج مبتكر لمفهوم الرفاه وبالتالي للمواطنة الكاملة. تنمية وتطوير مفهوم المسؤولية: من خلال التركيز على نماذج ثقافية إنسانية مغربية ونحن لا نعدمها بكل تأكيد تمجد المسؤولية. محاربة فكر التطرف: من خلال البحث المتواصل والحثيث عن نموذج مجتمعي خاص بنا يمجد للوحدة ويعلي من الاختلاف. هذه مجموعة من النتائج المرجوة والمأمولة من دمج الثقافة في التنمية، وجعل الثقافة إحدى الركائز الأساسية في عملية تطوير المجتمع المغربي. *كاتب [email protected]