بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد واله وصحبه أدى اختيار الفاعلين الأساسيين للحركة الإسلامية بالمغرب لتوجهين مختلفين في العمل السياسي ، تمثل أحدهما في موقف "جماعة العدل والإحسان" واختيارها للمشاركة السياسية من خارج العملية الانتخابية، مقابل اختيار "حزب العدالة والتنمية" لخوض غمار الانتخابات ،أدى ذلك إلى خلق دينامية سياسية وحركية قوية بالمغرب ، سواء على مستوى حراك الشارع وما شكلته مساندة "العدل والإحسان" لحركة 20 فبراير من دفعة قوية لهذا الحراك ، أو على مستوى الحركية السياسية داخل السلطة وما أحدثه صعود العدالة والتنمية كوجه جديد من تفاعلات أزالت بعض الرتابة من الحياة السياسية ولو إلى حين . معطى آخر كشف عنه وجود الجماعة والحزب في موقعين مختلفين ، وإن كان هذا الوضع ناتجا عن اجتهادين ورؤيتين فكريتين مختلفتين وليس عن تقاسم للمواقع كما هو معلوم لكل ناظر ولو بشكل أولي في مبادئ الطرفين، هذا المعطى هو الحضور القوي للصوت الإسلامي داخل المجتمع المغربي ، بجميع شرائحه سواء من اختار المشاركة في العملية الانتخابية أو من قاطعها، يفسر ذلك التصويت المكثف "للعدالة والتنمية" في الانتخابات الأخيرة عند من اختار المشاركة ، وكذلك تأثر" حركة 20 فبراير" والتراجع الذي عرفته مسيراتها بعد انسحاب "العدل والإحسان"، بمعنى أن القسم الأكبر ممن اختار المشاركة الانتخابية صوت للإسلاميين، ومن خرج كذلك هاتفا بالمقاطعة والتغيير من خارج المؤسسات القائمة، كان في غالبيته مساندا لتوجهات الإسلاميين . ويبدو أن هذا الأمر لم يكن غائبا عن الاستراتيجية التي سلكها المخزن في التعامل مع كلا الطرفين ، إذ سعى جاهدا إلى الالتفاف على "حركة 20 فبراير" وبث الفرقة بين مكوناتها ،مستعينا في ذلك ببعض هذه المكونات نفسها، والتي لم تظهر النضج الكافي في العمل السياسي المشترك، عندما كانت تحفر بيدها قبر الحركة ، وهي تحاول تهميش دور "العدل والإحسان" وحصرها في مجرد رقم عددي تستدعيه للشارع وفق الطلب، ثم لا تسأله ولا تسأل عنه بعد ذلك ، بل وتعامله باعتباره عقبة وليس شريكا في التغيير. و بذلك تكون قد اختصرت الطريق على المخزن المتربص. هذا الأخير وبالإضافة إلى عمله على هذه الواجهة ، فقد عمل كذلك على الواجهة الأخرى، واجهة العمل السياسي الانتخابي ، إذ سمح هذه المرة لصناديقه الانتخابية أن تكشف عما بها وتفرز الأغلبية الإسلامية ، والهدف من ذلك بالإضافة إلى الإيحاء بوجود نوع من التماهي مع الربيع العربي، هو إقامة نوع من التوازن بين حركة الشارع ، وحركية الحياة السياسية داخل مؤسسات السلطة، فإذا شكلت "العدل والإحسان" الثقل الحركي في الشارع، فليشكل ظهور" العدالة والتنمية" الوجه الجديد مركز الثقل في الجانب الآخر، ولو أن الإشارات العديدة التي أرسلها المخزن بعد صعود الحزب قد ألمحت إلى أن الأمر لن يتعدى "الظهور" إلى مستوى " الحضور" الفاعل في اتخاذ القرار السياسي. كان الأمر في البداية كما ذكرنا إشارات تصب في رسم حدود الوافد الجديد ، سواء على المستوى الرمزي الذي عرف به المخزن المغربي منذ قرون، أو على مستوى استباق الأحداث والمسارعة إلى التعيينات التي ستتحكم في سياسة البلد ولو في الظل، إلى حين أن تتوفر الظروف المناسبة لتخرج منه إلى العلن . وقد كان لانسحاب " العدل والإحسان " من "حركة 20 فبراير" الأثر الكبير على سياسات أطراف العملية السياسية جميعا، بحيث أزال الورقة الجاهزة للإشهار من الجميع وفي وجه الجميع. ولعل المخزن الذي شكل الحراك الشعبي هاجسا مؤرقا بالنسبة إليه، وكانت كل إجراءاته، بداية من تعديل الدستور وصولا إلى الانتخابات السابقة لأوانها، مجرد إجراءات استباقية للحد من تداعيات الربيع العربي، ومحكومة بالظرفية الراهنة ، وقابلة في عمومياتها لتتأقلم مع التغيرات المحتملة، قد وجد في هذا الانسحاب ، حسب تقديره، فرصة للمناورة وتغيير تكتيكه في التعامل مع الحكومة الجديدة ،على اعتبار أن التهديد بالنزول إلى الشارع كما عبر عن ذلك بعض مسؤولي" العدالة والتنمية " قبيل الانتخابات ، قد خفت تداعياته بدون التنسيق مع" العدل والإحسان "، إضافة إلى الغطاء العربي والدولي للسياسات الرسمية ، كل ذلك سيغير من طريقة التعامل مع تشكيل الحكومة نحو مزيد من التحكم فيها حتى قبل "حكمها "، ويجعل كل خيار يسلكه هذا المسار يصب في مصلحة المخزن ويفقد الوافد الجديد بريقه، إلا إن أدرك هذا الأخير تغير الأوضاع فغير هو كذلك من طريقة تعامله معها. و بناء على ذلك يبدو أنه من الصعب أن تخرج المسارات المقبل لتشكيل الحكومة عن الخيارات التالية: 1- إطالة أمد مشاورات تشكيلها، مما يتيح كسب مزيد من التنازلات على حساب الحزب الفائز تجعل من قيادته للحكومة شكلية، بالموازاة مع الاستمرار في طرح بعض القضايا الهامشية أو السابقة لأوانها، ليس فقط من أجل إلهاء الرأي العام عن القضايا الأساسية ، ولكن أيضا من أجل تمييع النقاش حولها وطبعها بنوع من "الفلكلورية" التي تقود المزاج الشعبي إلى أن يمُج التجربة الإسلامية ويفقد تعاطفه النفسي مع الإسلاميين. و يرسخ في الذهن أن هؤلاء القوم فعلا أهل تبتل وعكوف في المساجد وإتقان للمواعظ والخطب في المقابر... لكنهم في الحياة السياسية لازالوا لم يتجاوزوا مرحلة الطفولة بعد. مما يدعم الطرح العلماني، ويضيف تهمة جديدة لملف الدعاوى المرفوعة دائما ضد الإسلاميين، بداية بالدعوى الأولى التي منعت أكثرهم من الحصول حتى على شهادة الميلاد.. 2- الوصول إلى نفق مسدود في مسار تشكيل الحكومة ، مما يعطي الذريعة لإعمال النصوص القانونية التي تعيد ترتيب المواقع، وتدفع إلى تشكيل أغلبية جديدة ، تبعد "العدالة والتنمية" على خلفية عجزه عن القيام بمهمته، وقد تمهد لما هو أكبر من ذلك، وتفتح الباب لنقاش جديد حول بعض النصوص الدستورية التي ستبدو وكأنها تجاوزت في انفتاحها الواقع السياسي والحزبي، المتسم بالتشرذم والعجز عن مسايرة مسلسل "الإصلاحات" المقترحة، مما سيعزز مسلسل التراجعات عما قيل من "مكتسبات " لازال الانتقال الديمقراطي لا يستطيع استيعابها في الوقت الراهن.. 3- أن تبادر" العدالة والتنمية "إلى الفعل ، وتعلن انسحابها من التشكيلة الحكومية ،على اعتبار أن ظروف العمل لا تساعدها على تنفيذ برامجها التي بنت عليها حملتها الانتخابية ، نظرا لغياب الشروط الموضوعية للعمل المشترك سواء مع المخزن أو مع باقي الفرقاء السياسيين، إضافة إلى كثرة المعيقات و الاستغلال السلبي للمرونة التي أبداها الحزب مع باقي الأطراف و عدم ردهم التحية بمثلها، و كذلك مع النزول المتزايد لسقف العمل الذي ينذر بأن يخر على من يقف تحته ... قد يخيل للقارئ بعد هذا الكلام أن المخزن قد أتقن اللعبة ورسم حدود الميدان السياسي وأحكم السيطرة عليه ، لكن لا يغرنك ذلك فقد علمتنا سنة الله في التاريخ أن الاستبداد يستطيع أن يناور ويمكر ويكسب بعض الوقت، و على كل حال فهذا شأنه دائما، لكن الأهم من ذلك هو مدى يقظة الطرف الآخر واستعداده لإفشال المخططات التي تحاك ضده. ولعل هذا هو ما فعلته "العدل والإحسان" عندما غيرت الميدان ونقلت احتجاجها إلى ميدان آخر يكون أوسع من ميدان " 20 فبراير" الذي أصبح ضيقا ولا يسع مطالب الشعب.. فهل تنحو"العدالة والتنمية" نفس المنحى وتغير الميدان الضيق الذي يسعى العديد ممن لا يروقهم الصوت الإسلامي، ولو كان خافتا، إلى أن تحشر فيه،قبل أن يصعب الأمر ويصبح التغيير مكلفا؟ ومن المعلوم في الأوساط الكروية أن اللاعب المحترف الجيد النظر، هو الذي ينسحب في أوج عطائه، ولا يبقى حتى تخبو جذوته، فيذكر بخواتيم عمله أولا يذكر...