الخصوصية المجتمعية والسياسية الداخلية للنظام السياسي الفلسطيني تجعل من الصعب تحليله انطلاقا من نظريات علم السياسة أو ما هو معمول به في المجتمعات والدول الأخرى، إلا أنه يمكن مقاربة وتحليل المشهد أو الحقل السياسي انطلاقاً من أداء مكوناته السياسية وما تم إنجازه من أهداف تضمنتها المواثيق الأساسية للأحزاب وما وعدت به الشعب . في ظل المشهد السياسي، تبرز منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى رأسها حركة فتح، كعنوان رسمي وشرعي للكيان السياسي، إلى جانب أحزاب أخرى من خارج المنظمة. وانطلاقاً من الصفة التمثيلية للمنظمة وموقعها القيادي وبالمقارنة بواقع حال غيرها، فإننا لا نتردد في الانتصار لها ودعمها، وهذا لا يعني أن المنظمة وحركة فتح منزهتان عن الخطأ أو أنهما عالم الملائكة والآخرون عالم الشياطين؛ فالتحيز في هذا المجال نسبي وغائي. لا أحد ينكر أنه، خلال المسيرة الطويلة لمنظمة التحرير، تم ارتكاب تجاوزات وفشلت مراهنات؛ بما فيها المراهنة على اتفاقية أوسلو وعلى الوسيط الأمريكي، وهو فشل اعترفت به القيادة مؤخراً عندما قرر الرئيس أبو مازن وقف العمل بالاتفاقات الموقعة. إلا أنه في مقابل ذلك حققت منظمة التحرير كثيراً من الإنجازات؛ مثل تكريس قضية فلسطين دولياً كقضية شعب يناضل من أجل الحرية ويريد تقرير مصيره السياسي، كما فضحت ممارسات إسرائيل العدوانية والإرهابية والخارجة عن الشرعية الدولية، وحافظت على الثقافة والهوية الوطنية. إن انتصارنا لمنظمة التحرير ولحركة فتح ودفاعنا عنهما هو انتصار ودفاع عن الفكرة والمشروع الوطني، وهناك فرق بين الفكرة والمبادئ والمنطلقات التي قامت عليها وما زالت تجمع أغلب أبناء حركة فتح وفصائل منظمة التحرير من جانب، وما آل إليه حالهما مؤسساتياً وواقعاً راهناً من جانب آخر. ولكن، لأننا لا نتحدث عن فكر فلسفي يستمد معقوليته من اتساقه المنطقي وجدله الداخلي وليس من خلال تطابقه أو انسجامه مع الواقع، كما لا نتحدث عن أيديولوجيا تستمد معقوليتها وأهميتها من قدرتها على التأثير على العقول وليس على الواقع، بل نتحدث عن فكر ونهج سياسي لحركة تحرر وطني لشعب يرزح تحت الاحتلال، فإن مصداقية وصحة هكذا فكر ونهج يتأتيا من قدرتهما على تغيير الواقع بما يلبي مصالح الشعب. في منظمة التحرير وحركة فتح كثير من القادة السياسيين تحوّلوا إلى فلاسفة ووعاظ يرددون مقولات فكرية وأخلاقية ويجترون الذكريات وهم في أبراجهم العالية، وآخرون تبوؤوا مواقع قيادية دون أن تتلوث أقدامهم، ولا أريد أن أقول دماءهم، بتراب الوطن؛ إلا أن ذلك لا يؤثر كثيرا على النهج العام، وعلى صحة الفكرة وعدالة القضية الوطنية. كما أن هؤلاء العابرين وقادة الصدفة والتوازنات الاجتماعية الداخلية والحسابات والاشتراطات وحتى الدولية يعتبرون قلة مقابل الكثرة الوطنية المؤمنة بمنظمة التحرير وبحركة فتح ومشروعهما الوطني وتاريخهما المشرف. الفكرة والمبادئ والمنطلقات الأولى صحيحة ويجب التمسك بها، سواء تعلق الأمر بحركة فتح كحركة تحرر وطني تعبر عن الهوية والانتماء الوطني أو بمنظمة التحرير كعنوان وإطار جامع للكل الوطني ومعترف بها عربياً ودولياً؛ ولكن في الوقت نفسه ننتقد وبشدة كل انحراف عن هذه المبادئ وكل سلوك لأي شخص أو جماعة وحتى للقيادة إن بالغت في المناورة على الثوابت والمنطلقات الأولى. واقع منظمة التحرير، وعلى رأسها حركة فتح، ليس بأفضل حال الآن وستزداد الخشية عليها في حالة غياب الرئيس أبو مازن. وقد انتقدنا وانتقد آخرون حتى من داخل المنظمة الواقع المترهل للمنظمة، والكل طالب بضرورة تطويرها واستنهاضها واستيعابها لكل القوى والأحزاب غير المنضوية فيها، وحتى بدون من هم خارجها عليها أن تعيد ترتيب بيتها؛ لأنه بدون ذلك ستجد من يثير الشكوك حول صفتها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وكذا الأمر بالنسبة إلى حركة فتح التي باتت تعيش على قوة الفكرة الوطنية والحنين إلى الماضي وليس على إنجازات التنظيم راهناً. صحيح أن الساحة الفلسطينية لم تنتج حالة سياسية أفضل وأكبر من المنظمة ومن حركة فتح بتاريخها النضالي وبفكرتها الوطنية، ومحاولة حركة حماس تشكيل البديل فشلت فشلاً ذريعاً، إلا أن الحكم بالأفضلية لا يكون من خلال المقارنة مع ما هو أسوأ؛ بل بما يجب أن يكون وبالالتزام بالمنطلقات والأهداف الوطنية، وإن لم يتم تدارك الأمر بسرعة فإن قوة الفكرة ستتآكل بمرور الوقت أو ستجد من يصادرها، وهناك محاولات حثيثة في هذا السياق من بعض الأطراف الفلسطينية المدعومة من دول عربية وتجد تجاوبا أمريكيا وإسرائيليا. غالبية الشعب الفلسطيني أيدت قرارات الرئيس أبي مازن بوقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، كما تؤيد مواقفه الرافضة لصفقة القرن ولمجمل السياسة الأمريكية، حتى وإن كانت هذه المواقف حتى الآن مجرد قرارات.. كما تبارك جهوده الدولية الحثيثة للحفاظ على حضور القضية دولياً، ولكن، هل واقع تنظيم حركة فتح وواقع منظمة التحرير مهيئين لاستعادة دورهما الوطني التحرري في الضفة وغزة، إذا ما تم انهيار السلطة وفرض صفقة القرن؟ أتمنى ذلك وإن كنت أشك في ذلك . وأخيراً، نقول للجميع: لا تخذلوا الرئيس أبا مازن في مواقفه الوطنية كما خذل البعض الرئيس أبا عمار، ودعم مواقف الرئيس الوطنية - التي يجب أن تتحول إلى أفعال تصب في خدمة المصلحة العامة للشعب - لا يكون بشعارات المداهنة والنفاق بل بممارسات نضالية فعلية على الأرض.. وقد رأينا وجربنا كيف أن كثيراً من قرارات الرئيس الصائبة يتم إفشالها أو تفسيرها على غير مقاصدها من لدن البعض في النخبة المحيطة بالرئيس أو من قيادات في تنظيم فتح ومن كل المستفيدين ببقاء الأمور على حالها. [email protected]