بالأمس كان المعلم بالمغرب ذا مكانة راقية في المجتمع، راتبه الشهري يكاد يكون الأعلى، يحترمه الكبير قبل الصغير، وكان يؤدي واجبه المهني بكل جد وإخلاص، يتفانى فيه فلا يتغيب إلا لضرورة قصوى، ولا يتأخر إلا لماما.... بالأمس كان المتعلم هو الآخر له مكانته بين أهله وأقاربه وأقرانه بالحي أو الدوار.... وكان يؤدي العديد من الأدوار، يقرأ الرسائل أو يكتبها للعائلة والجيران، يفسر الدعوات وغيرها وغيرها، كان يحترم معلميه أكثر من احترامه لذويه، كان يقبل على الدرس والتحصيل بجد، لأنه كان يعلم أنه بهذا التعلم سيرتقي مجتمعيا، فيحسن أحواله وأحوال أسرته..... ولهذا كانت العملية التعليمية / التعلمية ذات معنى، فطرفاها المحوريان المعلم والمتعلم كلاهما يسعى إلى الارتقاء بها من حسن إلى أحسن، على الرغم من قصر اليد وبساطة الوسائط.. نعم كان نظامنا التعليمي بالأمس يصنع الإنسان السوي بتربية وإن كانت تعمها القسوة بين الفينة والأخرى، لكنها هذبت وقومت السلوك، ارتقت بالأخلاق والقيم المبنية على احترام الجميع وتقديرهم، ونجح التعليم / التعلم وإن بنسب متفاوتة، وكانت نسبة النجاح هي العليا، أما الفشل فكان استثناء.... ولعل الأجيال التي عاشت هذه الفترة الذهبية ما زالت تحن إلى تلك الأيام وهي تنهل من عصارة اجتهاد المرحوم أحمد بوكماخ في سلسلته اقرأ، ومن سلسلة bien lire et comprendre .. ما زالت تتذكر فترة الحساب الذهني (جدول الضرب نموذجا)... المحبرة والريشة والمنشفة التي ساهمت بشكل كبير في التدرب على الكتابة بخط جميل في غالب الأحيان.... وكان الغني والفقير والأكثر فقرا يدرسون في نفس المدرسة وبنفس المنهاج والبرنامج، ما كان يميز بينهم هو المستوى التعليمي ولا شيء غيره، فكنت تجد الفقير يتفوق على الغني وقد يحدث العكس.... وهكذا صار بوعزة والجيلالي والمعطي أبناء البسطاء من العمال والفلاحين الصغار والحرفيين مهندسين وأطباء وقضاة وأساتذة، الشيء الذي غاظ البعض، وخاصة بعض الأسر التي تريد احتكار وظائف معينة على أسماء معينة، فسعوا إلى وضع العراقيل أمام هؤلاء وبصنوف شتى.... وجاء الإضراب العام لسنة 1979 والذي طرد خلاله العديد من رجال التعليم ونكل بهم... فوجدت الدولة والأسر السالف ذكرها الفرصة المواتية لتقلب جميع الأوراق بل لخلطها خلطة عجيبة، وهكذا بدأت المنظومة التعليمية تنحدر سنة عن أخرى نحو مستويات متدنية، وبات ذاك المعلم المحترم ذو المكانة الاجتماعية عرضة للتنكيت والسخرية، وبات راتبه بالكاد يضمن له لقمة العيش، غرق في القروض وما عاد يفكر إلا في الوسيلة التي يتخلص فيها من الفقر، فحلت بين ظهرانينا الدروس الخصوصية، وهل التعليم الخصوصي لغرض ضرب المدرسة العمومية، فتحول هذا التعليم من ملجإ للفاشلين حين كان نظيره العمومي يقوم بالدور الرئيس، إلى ملجإ للنخب ورؤوس الأموال.... غيرت البرامج والمناهج وباتت المنظومة حقلا للتجارب، وعوض صناعة الأسوياء والعلماء صار الهدف كما قال المرحوم محمد جسوس هو خلق أجيال من الضباع، فغابت الفلسفة من مؤسساتنا وحلت محلها الأسطورة والخرافة بأسماء مختلفة، فغاب الفكر النقدي وحل محله الفكر الخنوعي الخضوعي (الشيخ والمريد)، وما عاد المتعلم الذي كان بالأمس فصار صاحبنا ضحية لسلوكات دخيلة عن ثقافة أسلافه من الآباء والأجداد والذين قد يكون العديد منهم من الجيل الذهبي الذي كان بالأمس... فبات المعلم درجات، فتفشت الأحقاد والضغائن بينهم، فهم يؤدون نفس العمل ولا يتلقون نفس الأجرة.... وأضحى المتعلم أيضا فئات، الفئة المحظوظة التي تلقت تعليما جيدا تلج إلى أعلى المعاهد والمدارس وقس على ذلك، بينما تبقى الكليات حكرا على الفئات ذات الحظ التعس والتي يسميها بعض الظرفاء ب"التكوين قبل البطالة" قراءة تأويلية منهم للحروف المختصرة للكلية باللغة الفرنسية : FAC فحولوها إلى: formation avant chômage..... وتفشى بينهم أيضا الحقد، وتواجد العنف بشكل مخيف بمدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا، فانعكست هذه الصور على المجتمع برمته، وكيف لا والتربية كما قال علماؤها صانعة الأجيال، فالجيل الذي تلقى تربية رصينة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وتلقى تعليما جيدا نوعا ما كان أقل عنفا، وكان يحترم ويقدر الغير لا يخرب الممتلكات العامة وغيرها إلا لماما وكانت هذه العملية حين تحدث تعتبر استثناء، أما اليوم فبات العنف والتخريب هو القاعدة في غياب التربية الفعالة والتعليم الناجع والذي يتساوى فيه الجميع، وهكذا أصبح التعليم اليوم يعتريه الفشل وتعمه الفوضى، بعدما كان بالأمس نبراسا ينير طريق رواده، وما عاد للمعلم قيمة ومكانة الأمس وما عاد لمتعلم الأمس وجود بين ظهرانينا أيضا.. *معلم متقاعد