برهنت مواقف وتصريحات رئيس الحكومة والوزراء وزعماء الأحزاب السياسية والنقابات، أغلبية ومعارضة، تجاه الخطاب الملكي بأنهم "خبراء" في الخداع والتضليل والنفاق والكذب حتى على ملك البلاد نفسه. فهؤلاء الوزراء ورؤساء الأحزاب والنقابات هم من انتقدهم الخطاب الملكي، وفضح عجزهم على تقديم نموذج تنموي، وكشف مسؤولية رؤساء الأحزاب في تزكية وترشيح واقتراح من يركع لهم ومن يسجد باسمهم ومن يخدم مصالحهم لمناصب حكومية أو برلمانية أو سامية دون أي كفاءة أو خبرة أو مستوى. هؤلاء الوزراء وزعماء الأحزاب السياسية لا يخجلون حتى من أنفسهم، فكيف يعقل أن يطلعوا بعد الخطاب الملكي على وسائل الإعلام البصرية والمسموعة والمقروءة والإلكترونية يشيدون بمضامين الخطاب الملكي، ويؤكدون اتفاقهم مع ما قاله جلالة الملك، وكأن انتقادات الخطاب غير موجهة إليهم، أو كأنهم غير مسؤولين عن الأوضاع التي "تؤلم" ملك البلاد ذاته، إن أقل ما يمكن وصف هؤلاء الوزراء وزعماء الأحزاب به هو أنهم جبناء منافقون وخبراء في النفاق والخداع، الأمر الذي ذكرني بكتاب بسكال بونيفاس "المثقفون المغالطون.. الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب"(Pascal Boniface Les intellectuels Faussaires: Le triomphe médiatique DES EXPERTS EN MENSONGE). هذا الكتاب الذي خلخل المبدأ العام لمفهوم السياسة حيث اعترف بأن وراء السياسة يكمن الخبث والنذالة والكذب، وهو ما تؤكده مواقف وتصريحات وزراء حكومة العثماني وزعماء الأحزاب السياسية بعد الخطاب الملكي، حيث أشادوا كلهم بمضامين الخطاب، وأيدوا تشكيل اللجنة الاستشارية لوضع تصور النموذج التنموي، والقبول بتعديل حكومي، واعترفوا باختلالات السياسات العمومية، وضعف أداء العمل الحكومي والتدبير الحزبي وكأنهم غير معنيين وغير مسؤولين عن هاته الاختلالات وهم من عجزوا على تقديم حتى تصور سليم واستراتيجي لنموذج تنموي يلبي الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، ويحد من الفوارق الاجتماعية ومن التفاوتات المجالية، إنها قمة خبث ونذالة هؤلاء المسؤولين بمفهوم بونيفاس، وسنبرهن على ذلك بما يلي: بالنسبة للترشح والتزكية لخوض الانتخابات: يتفق جل الباحثين والمهتمين على أن جل الأحزاب السياسية تدبر العملية الانتخابية على أساس الفوز بالصوت أو بالمقعد بغض النظر عن الكيف، حيث يفضل جل رؤساء الأحزاب السياسية منح التزكية لأصحاب المال والجاه والكائنات الانتخابية وسماسرة الانتخابات، والرهان على ترشيح من سيفوز بالمقعد، سواء في الانتخابات الجماعية أو الجهوية أو الإقليمية أو التشريعية، بغض النظر عن مستوى المرشح أو مساره النضالي أو المعرفي أو السياسي أو الأخلاقي أو حسه الوطني. ما يهم رئيس الحزب هو أن يزكي من يضمن له المقعد ولو بالمال الحرام، وهذه أحد المخاطر التي تهدد مستقبل الانتخابات بالمغرب والتي أفرزت "كائنات انتخابية" على مستوى المجالس الجماعية والإقليمية والجهوية بدون حس وطني وبدون قيم مواطنة، وبدون خطاب سياسي عقلاني، وبدون أي أخلاق أو مبادئ أو كرامة ومرجعية أيديولوجية. والمتتبع لتدبير الشأن العام محليا وجهويا وبرلمانيا، يلاحظ نوعية الموارد البشرية التي تتحمل مسؤولية التدبير حيث ضعف الحكامة وانتشار الأمية والجهل والفساد والانتهازية. والأكيد أن زعماء وقادة ورؤساء وأمناء الأحزاب السياسية هم من يتحملون المسؤولية في تزكية وترشيح كائنات انتخابية همها ليس خدمة الحزب/المؤسسة، أو الوطن أو المواطن، بل جعل الحزب/المؤسسة والوطن في خدمتها. بالنسبة للترشح للمناصب القيادية أو السامية: أثبت الواقع أن الترشح لهاته المناصب يخضع لمزاج زعماء الأحزاب السياسية ولخدمة مصالحهم، حيث يراهن زعماء وقادة ورؤساء وأمناء الأحزاب السياسية على من يركع لهم ويسبح باسمهم ويقدسهم ويخدم استراتيجيتهم دون احترام الحد الأدنى من معايير الكفاءة والتراكمات والخبرات، بل إن تاريخ الاقتراح لهذه المناصب أصبح منهجا في إقصاء كل المناضلين الشرفاء النزهاء والديمقراطيين الاكفاء الذين يقدسون المؤسسات وليس الزعماء، ولا يعرفون الولاء إلا للمبادئ ولا يمتثلون إلا للمشروعية المؤسساتية. ونتيجة هذه المنهجية الاقصائية والمنغلقة لزعماء الأحزاب، تنفر النخب المواطنة والموارد البشرية النزيهة والشريفة والمؤهلة من العمل السياسي، وتبتعد عن الانخراط في الأحزاب السياسية التي تحولت مع هؤلاء الزعماء والرؤساء إلى ضيعات ضد مقتضيات الدستور الجديد ومبادئ القانون المنظم للأحزاب السياسية، مما جعل أحد الباحثين يصفهم بزعامات الفساد أو فساد الزعامات الفاقدين لأبسط مؤهلات القيادة. رسائل خطاب عيد العرش إلى الوزراء وزعماء الأحزاب السياسية: كشف هذا الخطاب عيوب وعجز وأعطاب الحكومة والأحزاب وفشلها في تدبير الشأن العام لكون نخبها نخبا منغلقة عن ذاتها وعاجزة وفاقدة الثقة والمصداقية، بل إنها نخب مترددة خائفة، لا تمتلك ثقافة المبادرة ولا تخدم إلا مصالحها، مما جعل الفوارق الاجتماعية تتسع والتفاوتات المجالية تتكاثر والطبقة الوسطى تندثر ونسب النمو تنحبس، ما أدخل البلاد في وضعية صعبة، الأمر الذي آلم جلالة الملك ودفعه للتفكير في جيل جديد من الإصلاحات والسياسات العمومية الاجتماعية بجيل جديد من النخب والكفاءات لضخ دماء جديدة على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية بما فيها الحكومة. وعليه، فرسائل وانتقادات خطاب عيد العرش لسنة 2019 إلى الوزراء والأحزاب السياسية هي استمرار لرسائل وانتقادات الخطابات الملكية إلى الحكومة والأحزاب منذ 1999. ألم يتسائل جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2017 بنبرة حادة عن جدوى وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصل، قائلا: "ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصل، إذا كانون هم في واد والشعب وهمومه في واد آخر؟ فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين تدفع عددا من المواطنين، وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي وعن المشاركة في الانتخابات، لأنهم بكل بساطة لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل". وأضاف: "وإذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟ لكل هؤلاء أقول: كفى، واتقوا الله في وطنكم... إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا، فالمغرب له نساؤه ورجاله الصادقون. ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، لأن الأمر يتعلق بمصالح الوطن والمواطنين. وأنا أزن كلامي، وأعرف ما أقول ... لأنه نابع من تفكير عميق". إنه خطاب جلالة الملك يا سادة، فكم من وزير ومن والٍ وعامل وسفير وقنصل وزعيم سياسي استقال أو انسحب؟ كم من مسؤول كانت له الجرأة وتفاعل إيجابيا مع مضمون هذا الخطاب؟ كم من مسؤول حكومي أو حزبي كانت له الجرأة واعترف بأخطاء وقرر الانسحاب بهدوء؟ إنهم تصرفوا وكأنهم غير معنيين بالأمر وكأن جلالة الملك لا يخاطبهم بل يخاطب مسؤولين يعيشون بكوكب آخر. خطاب عيد العرش لهذه السنة حدد المخاطر وأكد أن مشكلة المغرب بالأمس واليوم هي أن بعض وزراء الحكومات وبعض زعماء وقادة ورؤساء الأحزاب السياسية يسيرون السياسيات العمومية ويرشحون للمناصب الحكومية والسامية والبرلمانية والجهوية والإقليمية والجماعية نخبا فارغة فكريا ضعيفة تدبيريا وحكاماتيا فاسدة أخلاقيا ومنبطحة سياسيا ومستبدة سلوكيا، إنها نخب جبانة منغلقة مترددة لا تنتج إلا الفراغ المؤسسي والسياسي، نخب عاجزة على الإبداع السياسي للدولة وللوطن وللمواطن، حيث إن تفكيرها لا يتجاوز أفق مصالحها الخاصة إلى أفق المصالح العامة. لذلك، أردد دائما وأقول أيها السادة وزراء الحكومة الحالية ويا زعماء ورؤساء الأحزاب السياسية، جلالة الملك لا يحتاج للإشادة بمضامين خطبه وترديد محتوياتها، بل بحاجة لمن يلتزم بها ويعمل على أجرأتها وتحويلها إلى ممارسات على أرض الواقع ليشعر المواطن بآثارها، لأن الواقع المغربي في شقه الاجتماعي عنيد وتغييره بحاجة للعمل وليس للغو، ولأن تغيير الواقع الاجتماعي للمواطن لن يتحقق بدون تغيير العقليات، وبدون توفر الإدارات والمؤسسات على أفضل الأطر تدبيرا وحكامة ووطنية ومواطنة، وبدون اختيار الأحزاب السياسية لأحسن النخب المؤهلة لتدبير الشأن العام وتحمل المسؤولية، وبدون مؤسسات ذات مصداقية وديمقراطية، وبدون ربط المسؤولية بالمحاسبة.