خلال السنوات الثلاث الأخيرة جرى نقاش طويل، لازال مستمرا إلى اليوم، حول حقوق الإنسان في المغرب؛ وذهبت فئة كبيرة من الحقوقيين إلى اعتبار أنّ ثمّة "ردّة حقوقية" يعرفها البلد، خاصة بعد اندلاع أحداث الريف، وما واكبها من اعتقالات واسعة في صفوف المتظاهرين. الجمعيات الحقوقية المزعجة للدولة اشتكتْ، بدورها، من التضييق عليها، عبر منع أنشطتها، ومنع فروعها من استلام الوصول المؤقتة والنهائية، ومن منعها من استعمال القاعات العمومية...فكيف ينظر الفاعلون الحقوقيون المغاربة إلى حصيلة حقوق الإنسان في العشرين سنة التي قضّاها الملك محمد السادس في الحكم؟ وما تقييمهم لها؟. منجزات وانتظارات يرى عبد الرزاق بوغنبور، رئيس العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، أنّ حقوق الإنسان في عهد الملك محمد السادس عرفت تقدما، إذ "واجه ملفات حساسة منذ بداية عهده بالحكم بصرامة، كما هو الحال بالنسبة لملف الاعتقال السياسي، ومختطفي سنوات الجمر والرصاص". ملف الاعتقال السياسي وضحايا سنوات الجمر والرصاص كان من أوّل الملفات الحقوقية التي فتحها الملك محمد السادس، إذ نُظمت جلسات استماع إلى الضحايا وذويهم، وتمّ جبرُ ضررهم بتعويضهم مادّيا، من أجل طيّ صفحة "الماضي الأسود" لحقوق الإنسان في المغرب. مبادرة الاستماع إلى ضحايا سنوات الجمر والرصاص لقيَتْ ترحيبا، وقتذاك، لكنها، في الآن نفسه، وُوجهت بانتقادات من طرف جمعيات حقوقية، باعتبار أنّ الضحايا لم يُسمح لهم بكشف أسماء الجلادين الذين أذاقوهم مختلف ضروب التعذيب؛ ولم تتمّ معاقبة هؤلاء، الذين استمرّ بعضهم في تولي مهامَّ في تسيير الشأن العام. عبد الرزاق بوغنبور يرى أنّ فتح ملف انتهاكات حقوق الإنسان التي جرت خلال سنوات الجمر والرصاص كان انطلاق مسلسل تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب، لكنه استدرك بأّنّ هذا الملف لم يُطوَ بعد، لعدم تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، "والالتفاف على جزء كبير منها". من جهته يرى أبو بكر أونغير، رئيسة العصبة الأمازيغية لحقوق الإنسان، أنّ الحصيلة الحقوقية خلال حُكم محمد السادس "كانت على العموم إيجابية، على صعيد الحقوق المدنية والسياسية"، وفق تعبيره. "لكن على صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لازالت هناك انتظارات"، يردف المتحدث. نموذج تنموي معاق تعدّ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من الحقوق الأساسية للإنسان، وقدْ أولي لهذه الحقوق اهتمام في المغرب خلال "العهد الجديد"، لكنّها لازالت تتحرك ببطء شديد، ولم يتمّ تكريسها كما هو مطلوب، إذ لازالت الفوارق الاجتماعية شاسعة بين الفقراء والأغنياء، ولم يتم الوصول إلى التوزيع العادل للثروة. في خطاب العرش الأخير، أقر الملك محمد السادس بأن النموذج التنموي المغربي "أبان، خلال السنوات الأخيرة، عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية، ومن التفاوتات المجالية، وهو ما دفعنا إلى الدعوة إلى مراجعته وتحيينه". "هناك عجز واضح على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وقد أشار إليه الملك في خطابه. ويظهر هذا العجز جليا من خلال وجود فئة عريضة من المواطنين المغاربة تعاني من الفقر"، يقول أبو بكر أونغير، مضيفا: "هناك توزيع غير عادل للثروة، وهناك توزيع مجالي غير عادل، إذ توجد لدينا جهات غنية وجهات فقيرة، وهو ما يؤدّي إلى تزايد عدد الفقراء". في السياق ذاته، اعتبر عبد الرزاق بوغنبور أنّ سؤال "أين هي هذه الثروة"، الذي طرحه الملك محمد السادس في إحدى خُطبه، لازال، إلى حدود الآن عالقا، بدون إجابة، بل أصبحت الإجابة عنه، يردف، "مُحرجة أمام ارتفاع وتيرة نهب المالي العام وغياب المساءلة والمحاسبة". ويسجّل بوغنبور أنّ "استمرار المؤسسة الملكية في الارتباط بدوائر النفوذ الاقتصادي والمالي، إلى درجة التحكم، يعتبر أمرا سلبيا ولا يساهم في التطور الديمقراطي، بسبب استحالة حياد أصحاب القرار في تطبيق القانون وفي مساواة الجميع أمامه؛ كما أنه يؤدي إلى احتكار يحول دون دمقرطة الاقتصاد وتحفيز المستثمرين الوطنيين والأجانب". الاحتكار الذي تحدث عنه بوغنبور أكده الملك محمد السادس في خطاب العرش، مساء الإثنين، بقوله، حين حديثه عن الاستثمار في المغرب، إنّ هناك من يرفض انفتاح بعض القطاعات، دون أن يسمّيها، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، وأن هؤلاء "لا يفكرون في المغاربة، وإنما يخافون على مصالحهم الشخصية". الحكامة والمحاسبة هما الحل في وقت يقرّ الملك، شخصيا، بفشل النموذج التنموي الذي اعتمدته المملكة، وتأكيد المؤسسات الدستورية الاستشارية المعنية لهذا الفشل، فإنّ السؤال الذي يطرحه المتتبعون، بعد أن أخذت مرحلة التشخيص ما يكفي من الوقت، هو: ما هو الحل لعلاج النموذج التنموي من أعطابه؟. يعزو أبو بكر أونغير فشل النموذج التنموي إلى مجموعة من العوامل، في مقدمتها "عدم التوفق في اختيارات الكفاءات التي بمقدورها أن ترسم مسارا موفقا لقاطرة التنمية في البلد، وطغيان الجانب السياسي على الجانب الحكماتي"، مقدّما، في هذا الإطار، نموذج المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم، الذي صُرفت عليه آلاف ملايير السنتميات، دون أن يُثمر النتائج المرجوة منه. ويرى أونغير أنّ الخروج من الحلقة المفرغة التي يدور فيها النموذج التنموي المغربي يتطلب ترشيد العمل الإداري، وإضفاء الحكامة عليه، وأن تكون مشاريع النموذج التنموي الذي وضعته الدولة قائما على دراسات استباقية تلامس الواقع وتقدم معطيات دقيقة لمعرفة حاجيات المواطنين بدقة. علاقة بذلك، دعا عبد الرزاق بوغنبور إلى ترسيخ مبدأ التقييم لعمل المؤسسة الملكية وإنجازاتها، وأن يكون هذا التقييم ضمن التقييمات التي تتم كل سنة، لتدارك ما يمكن أن يقع من أخطاء أو هفوات بدل انتظار تراكم العديد من السنوات؛ كما دعا إلى تكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم الاكتفاء بمحاسبة الحكومة وحدها، حتى في السياسات الصادرة عن الملك، كما يجري الآن.