ينعقدُ البرلمان الإسباني يوم غد الثلاثاء، للتصويت على مرشح الحزب الاشتراكي بيدرو سانشيس رئيسا للحكومة. الحزب الاشتراكي الذي فاز في الانتخابات الأخيرة وحصل على 123 مقعدا يحتاج أصوات حزب بوديموس اليساري وبعض الأحزاب الجهوية، بما فيها الحزب الجمهوري الكطلاني الانفصالي، ويحتاج أغلبية مطلقة ب175 صوتا من أصل 350 مقعدا أو بأغلبية عادية في الدور الثاني من التصويت. وتعد هذه المرة الأولى في تاريخ الديمقراطية الإسبانية التي يحصل فيها اليسار على أغلبية موزعة بين الاشتراكيين وأحزاب يسارية على يسار الحزب الاشتراكي.. ورغم محاولة الحزب الاشتراكي إقناع حزب بوديموس بصيغة التعاون بين الحزبين على مستوى البرنامج الحكومي واستبعاد المشاركة بحقائب وزارية، تخوفا من مواقف حليفه اليساري في التعاطي مع موضوع الانفصال في كاطالونيا، وملفات أخرى تتعلق بأمن الدولة أو بالعلاقات الخارجية، لم تفض المفاوضات بين الحزبين إلى الآن إلى اتفاق حول صيغة التعاون أمام تشبث زعيم حزب بوديموس بحصة حزبه من الحقائب الوزارية في حكومة ائتلافية برئاسة الاشتراكي بيدرو سانشيس، وإلحاح الزعيم الاشتراكي على صيغة دعمه على الطريقة البرتغالية. ولم يخف زعيم الحزب الاشتراكي رغبته في التعاون مع حزب سيودادانوس الوسط اليميني، ودعوته إياه إلى الامتناع عن التصويت في الدور الثاني وتسهيل فوزه دون الحاجة لأصوات بوديموس ولنواب الأحزاب الجهوية الانفصالية في البرلمان. نتائج الانتخابات الإسبانية الأخيرة (28 أبريل 2019) أفرزت لأول مرة في تاريخ الديمقراطية الإسبانية بلقنة غير مسبوقة زادت من تعقيدات المشهد السياسي، وجعلت من تشكيل الحكومة عملية شاقة لم تتعود عليها النخب السياسية الإسبانية بعد أربعين سنة من القطبية الحزبية. وزادت من تعقيدات هذا المشهد الملفات الساخنة التي تنتظر الحكومة القادمة، وفي مقدمتها ملف الانفصال الكطلاني. ويكاد يُجمع المتتبعون للشأن السياسي الإسباني على أن الحزب الاشتراكي الإسباني يخضع لضغوطات من مراكز القرار الاقتصادي لتلافي حكومة ائتلافية بين مكونات اليسار الإسباني الوطنية والجهوية، والاكتفاء في أقصى الاحتمالات بدعم باقي الأحزاب اليسارية، وفي مقدمتها بوديموس، دون المشاركة في الحكومة بحقائب وزارية. وتتخوف الدولة العميقة في إسبانيا من اختراق اليسار المتطرف لمجلس الوزراء وحصوله على حقائب وزارية حساسة، كوزارة الاقتصاد والمالية ووزارة العمل والدفاع وغيرها. من جانبه يرفض اليمين المحافظ ووسط اليمين أي دعم لحكومة الاشتراكي سانشيس على الطريقة الألمانية أو النمساوية، بدعم محدود وفي مواضيع وملفات تتعلق بالأمن القومي. ويعيش اليمين بدوره بلقنة أدخلته في صراع على قيادة اليمين بعد الصعود المفاجئ لليمين المتطرف وحصول حزب فوكس الفرانكوي على 23 مقعدا في البرلمان الوطني. المفاوضات تستمر بين الاشتراكيين وبوديموس وتتقدم بشكل ملموس نحو اتفاق متوقع في القريب من الأيام بعد أن أعلن زعيم بوديموس بابلو إيغليسياس انسحابه من لائحة المرشحين للحقائب الوزارية، واستعداده للتفاوض على برنامج حد أدنى للتدبير الحكومي، وتقسيم الحقائب الوزارية بقياس التمثيلية العددية للحزبين. كما صرحت الناطقة الرسمية لبوديموس إيريني مونطيرو بالتزام حزبها باحترام استقلالية الحكومة وولاء وزرائها لها وللمجلس الحكومي، ولمّحت إلى استعداد بوديموس القبول بحقائب وزارية في قطاعات أقل حساسية. تقديري أن بوديموس استطاع أن يعطي شحنة قوية لليسار الإسباني، سواء مع شريكه في الانتخابات من اليسار الموحد، أو مع الحزب الاشتراكي العمالي، وكان له دور في استعادة الحياة السياسية الإسبانية الكثير من عافيتها ومصداقيتها بعد فضائح الفساد المدوية التي طالت كل الأحزاب التقليدية، وبالخصوص حزب اليمين الشعبي. وتقديري أن أزمة بوديموس ذاتية وعابرة بمقدار قدرة القيادة الحزبية الحالية على تطويقها عبر النقد الذاتي والمصالحة الداخلية، والتخلي عن المنافسة على قيادة اليسار لصالح العمل على بناء جبهة يسارية واسعة قادرة على مواجهة اليمين المتطرف الصاعد في أوروبا. نتائج الانتخابات الأخيرة أكدت تقدم اليسار الاشتراكي بشكل كبير في كل جهات إسبانيا، وأن الناخب الإسباني استعاد ثقته في اليسار، وأن الأغلبية المجتمعية يسارية. لكن في المقابل سجل حزب بوديموس تراجعا مزلزلا في أغلب الجهات. هذه النتائج تؤكد أن أزمة بوديموس أزمة ذاتية، ويبدو أن اليسار الإسباني الجديد استوعب دروس صراعاته وخلافاته التي كانت سببا في انقساماته وإخفاقاته المتكررة، وهذا ما تؤكده على الأقل إدارته الذكية والهادئة حتى الآن للمفاوضات الجارية لتشكيل الحكومة. استطلاعات الرأي الأخيرة تؤكد أن الشعب الإسباني يرفض خوض انتخابات رابعة سابقة لأوانها. القيادة الشابة للحزب الاشتراكي الإسباني استطاعت أن تعيد التوهج للحزب بعد تراجعات متتالية كادت أن تعصف ب140 سنة من تاريخه، وأكثر من عقدين من التجربة الحكومية، وتعرف أن زمن القطبية والأغلبية المطلقة انتهى، وأنها أمام تحدي القدرة على التفاوض والاستعداد لاقتسام التسيير الحكومي. تبقى الكرة في مرمى اليسار الجديد بوديموس المدعو اليوم للتصرف كحزب دولة قادر على مباشرة الحكم. تقديري أن اليسار الإسباني الجديد سيكون في مستوى التحدي وسيدشن لأول مرة مشاركته ولو المحدودة في الحكومة بعد 40 سنة من الديمقراطية.