بعد غيابٍ قصيرٍ عن العاصمة عدتُ ولا أخفيكم أنني استمتعتُ بحركة السير "المخففة" في أواخر هذا الشهر، الراجعة بالأساس إلى "حالة الهدنة المؤقتة" المرتبطة بالعطلة المدرسية وبمغادرة سكان الرباط "المرفحين" (وهو تحوير دارج للمرفهين) مقر سكناهم الرئيسية إلى سكناهم الثانوية للاستجمام، وكذلك إلى استغلال شهر يوليوز من طرف "الطبقة المتوسطة"، المعروفة منذ حقبة "المادية التاريخية" بانتهاز الفرص، قصد الاستفادة من عطلهم السنوية بدل شهر غشت الذي ستتخلله أيام عطل عديدة دينية ووطنية... المهم أني عدتُ إلى قواعدي سالمةً والحمد لله، ولاحظتُ بعين متجددة بعض ما طرأ على المدينة، وأول ما يثير الاهتمام طبعاً هو الطريق المؤدية إليها، أي الطريق السيار. هكذا تبدى لي أن الجسور المخصصة لعبور السيارات والمارة فوق هذه الطريق صارتْ مسيجةً بسياجٍ أزرق يسُر الناظرين! هو تفصيلٌ صغير لكنه ينم عن تجذر عقلية غريبة، خصوصاً لدى ما يسمى بالجيل الصاعد (صاعد إلى أين؟)، عقلية يمكن نعتها جزافاً ب"عقلية المخاربة"، واعذروني إنْ وجدتم هذا النعتَ قدحياً، فلم أجدْ غيره لوصفِ سلوكاتٍ أصبحتْ عندنا عاديةً من قبيل قذف السيارات والقطارات بالحجارة وعدم النظافة أو تخريب المرافق العامة (كالارتماء بالدراجة في مسبحٍ عمومي ظلتْ ساكنة الرباط المحرومة تنتظره لأعوام) والاعتداءات اللفظية والجسدية في الفضاءين العام والخاص، وكل أشكال العنف الممارس علينا كمشتركين في هذه الفضاءات... والأغرب هو افتخار "المخاربة" بتلك الأفعال أو إيجاد تبريرات لها، في إطار "الاستثاء المغربي". إن كانوا يقصدون بالاستثناء هو استثناء التحضر واستبعاد العقل والثقافة وحسن الخلق من مدننا فهم على حق، أما غير ذلك فتبجح وصفاقة. والأولى بنا أن "نجمع الوقفة" وتخلص من هذه العقلية الصبيانية الآثمة التي أخرتنا لعقود وأنتجتْ أجيالاً من ضعيفي النفوس وعديمي المواطنة والذوق "تخافْ وْما تحشمْ". أجيال ضائعة، في فضاء عام مقرف لا تكفي معه أطنان مساحيق التجميل لأن الأساس غير نظيف (ولن يكذبني لا المهندسون المعماريون ولا خبراء التجميل)، وفضاء خاص خانق لا يعرف معنى الحياة الشخصية وأخلاقيات العيش المشترك. فما العمل؟ من المريح إلقاء المسؤولية على الآخرين، على الدولة التي لم تفعل كذا وكذا، على "الطبقات الشعبية" التي "تلدْ وتطلق"، على "أولاد الحرام" الذين نهبوا كل شيء ولم يتركوا "لأولاد الحلال" شيئاً، على ما يسمى المجتمع المدني (ولمَ لا العسكري؟!)، ولهم جرا. سنظل نتبادل التهم ونطالب بإنزال أقصى العقوبة على "المخاربة" إلى ما لا نهاية والوقت يمر وهم يزدادون ضياعاً وفضاؤنا العام يزداد بؤساً ونحن نزداد أسىً إنْ لم نبحث عن زرع بذور ثقافة بديلة وعقلية جديدة، ليس بنقل الوصفات الجاهزة (من مستعمرينا) ولا بالامتثال لإملاءات خارجية (من البنوك الدولية التي تعرفون)، ولا بالعودة إلى "السلف الصالح"، فأنا لا أجادل في "صلاحهم" ولكن أشك في صلاحية حلولهم لإشكاليات زمننا الحاضر...ما علينا سوى الصحوة، أي أن نستفيق من حالة التخدير الناجمة عن وهم "الاستثناء المغربي" وندخل في مصاف البشرية جمعاء بدون استثناء، ونقفز في زمننا بكل خطانا، لأن "نْصْ نْصْ... حَدو طنجة"... والفاهم يفهم!