اعتاد الحسين أن يقصد حانة "هيدفيغ"، أو "السورينامي" كما يحلو لبعض الزبناء بتسميتها، كل مساء. هناك كان يلتقي بمجموعته التي تقاسمه نفس الهوايات. كؤوس الخمر توزع أثناء لعب القمار، رقص وغناء، ومن حين إلى آخر تتناول مختلف المخدرات. هكذا يقضي الحسين نهاية اليوم في الزهو والنشاط غير عابئ بما يروج في البيت. نصيب كبير من نقوده كان يترك عند "السورينامي"، قبل أن يمتطي دراجته في آخر الليل باحثا عن بيته. في نفس الحين كانت زهرة تظل في حجرتها الصغيرة ساهرة هي أيضا في انتظار زوجها. تتنقل من نافذة إلى أخرى مترقبة وصوله. بجانبها يرقد سمير ذو الثمان سنوات ومريم ذات السبع سنوات. صغر الشقة لا يسمح لكل طفل بغرفته الخاصة. وبمجرد سماع صوت الحسين تسرع زهرة لاحتضانه وإدخاله إلى البيت قبل أن ترمقه عيون الجيران التي لا ترحم. رائحة الخمور والدخان والحشيش المنبعثة منه تعبق المكان. تسد زهرة الباب بسرعة ثم تنهال عليه بكل أنواع السب والشتم، قبل أن تحتم عليه المبيت في قاعة الجلوس. فهي لا تسمح له بالمبيت في فراشها. هكذا كانت حالة زهرة والحسين دائما. هذا الوضع أثر عليها وعلى ابنيها بشكل كبير في البيت وفي المدرسة. تأخير وغياب مستمر. كانت الصراعات داخل البيت حاضرة باستمرار حول المصروف، حول تأدية فاتورة الكراء، حول شراء الأدوية التي كانت تستهلكها زهرة بالخصوص، الماء، الكهرباء والملابس إلخ. هذه الظروف حرمت الأسرة أيضا من التمتع بالعطلة وزيارة الأهل والأحباب بالمغرب أكثر من ثلاث سنوات. وأمام تكاثر الشكايات المتتالية من طرف الجيران، أجبرت الأسرة أخيرا على قبول التعامل مع مؤسسة المساعدة الاجتماعية؛ وهو ما ترتب عنه إجبار الأب على متابعة دروس وتكوينات متتالية قصد إبعاده عن "هواياته المفضلة" وأخذ بعض القرارات الصارمة في حقه، منها حرمانه من التصرف في أجرته. طبعا، لم يتم هذا بسهولة. لقد خضعت الأسرة بكاملها أيضا لضغوطات كبيرة، حتى تغير نمط حياتها من جديد. وهذا ما بدأ يعطي ثماره. وأخيرا سيمكنهم قضاء العطلة الصيفية هذه السنة في المغرب. دأبت زهرة على زيارة "السوق الشرقي" كل يوم في هذه الأسابيع الأخيرة استعدادا للعطلة. ترافق مريم وسمير أولا إلى المدرسة، ثم تتجه مباشرة إلى Dappermarkt سوق "الشجاع" كما يطلق عليه بالهولاندية. سوق يومي يتواجد في الجهة الشرقية من مدينة أمستردام. ويقصده عدد كبير من الأجانب، معظمهم من أصول مغربية. نظرا لقربه من محل سكناهم ولانخفاض أثمنة منتوجاته المتنوعة. تحاول زهرة اقتناء بعض الملابس لأفراد عائلتها لكي تحملها معها في العطلة الصيفية كهدايا جريا على العادة. وبما أن اللائحة طويلة فيجب عليها ولوج السوق كل صباح حتى تعثر على أبخس الأثمان. وأخيرا ستزور أهلها بعد هذا العناء الطويل. زوجها الحسين لا يبالي ولا يعير أي اهتمام لانشغالات زهرة بترتيبات السفر أو الهدايا التي سيحملونها معهم. الأدهى من هذا فهو لا يريد الذهاب إلى المغرب بتاتا. ولكن لا خيار له أمام جبروت زوجته. فهي لن تسمح له بالبقاء لوحده في البيت خوفا من الرجوع إلى عادته السيئة. لقد اكتسبت زهرة ثقة كبيرة في نفسها. وبدأت تقرر وتنفذ وتسيطر على الوضع، على الرغم من عاهتها السمعية؛ فهي التي تقوم بكل الترتيبات المتعلقة بالأسرة داخل وخارج البيت، كما أنها هي التي تتحكم في كل المصاريف المنزلية على الرغم من أنها لا تعمل ولا دخل لها. وتجبر زوجها على تقديم أجرته الشهرية ووضعها رهن إشارتها كل شهر. وتحاول من هذا الراتب تأدية كل المصاريف المنزلية والتوفير أيضا لقضاء العطلة. زهرة، المنحدرة من نواحي ورزازات، تتابع أطفالها أيضا في المدرسة، تراقب نتائجهم وتحضر كل اللقاءات المدرسية، على الرغم من عدم تمكنها من اللغة الهولاندية. فتحاول بلغتها العربية البسيطة البحث عن الترجمة لدى باقي الأمهات المغربيات. ولقد استطاعت زهرة هذه السنة أن تتحايل على قانون التعليم الإجباري والحصول على ترخيص من إدارة المدرسة بأخذ أسبوع إضافي قبل العطلة. لقد كانت مضطرة لاختلاق عذر يخول لها هذا الترخيص. فاختارت عذر مرض أمها المزمن مدعية أنها ستقوم بإجراء عملية جراحية، وبالتالي فحضورها إلى المغرب ضروري. كل هذا من أجل اقتناء تذاكير الطائرة بثمن مناسب؛ لأن أثمنة الطائرة تتضاعف بشكل صاروخي في بداية العطلة الصيفية بالخصوص. لقد اشتاقت لزيارة أهلها، خصوصا والديها الكبيرين في السن. أوشكت زهرة على ترتيب كل مستلزمات السفر. ولقد توفقت في شراء كل الهدايا التي كانت تنوي اقتناءها بأثمان مناسبة. وضعت كل مشترياتها وأمتعتها في الحقائب التي اشترتها خصيصا لذلك. أخبرت جيرانها بموعد السفر. سمير ومريم ودعا الأستاذة "استر" (Esther) والأستاذ "هانس" (Hans) . جوازات السفر والتذاكر وضعتها زهرة في قلب محفظتها الشخصية بعدما تفقدتها من جديد. أما الحسين فهو غائب بالمرة عن كل هذه الإجراءات. ليست له الرغبة في السفر بالمرة. حتى أمتعته الشخصية لم يتفقدها بنفسه. ولكن لا خيار له. حان وقت السفر! ستقلع الطائرة على الساعة الواحدة زوالا من مطار "اشخيبول" بأمستردام. هذا يعني أن الحضور إلى المطار يجب أن يكون بحوالي ثلاث ساعات قبل موعد الإقلاع. اتصل الحسين بالطاكسي ليقلهم إلى المطار. ازدادت الحركة داخل البيت. قفلت النوافذ، حملت الحقائب بالقرب من الباب. الفرحة بادية على وجهي الطفلين. زهرة في حالة هستيريا كاملة. تشعر بثقل المسؤولية التي تتحملها بمفردها. وفي نفس الوقت جد متشوقة لمعانقة الأحباب. هتف سمير "أنه الطاكسي يا ماما". لقد سمع صوت السيارة وانتقل بسرعة للباب للظفر بنشر الخبر السار. خرج سائق الطاكسي مبادرا بالتحية بلباسه الأنيق ليساعد في حمل الأمتعة وترتيبها بشكل جيد. نظرت الأم إلى نوافذ العمارة قبل أن تمتطي السيارة، فرأت كما كانت تتوقع أعناق الجيران تشرئب نحوها. "أنتم متجهون نحو المطار على ما أظن؟" هكذا بادر السائق بالسؤال. فكان الرد: "طبعا" من طرف الجميع. انطلقت السيارة بشكل عادي في اتجاه الطريق السيار، لتقصد بعد ذلك المطار. خيم صمت طويل داخل السيارة. وفجأة تذكرت زهرة البطاقة البنكية. وسألت بسرعة زوجها الحسين عنها. "لا علم لي بالبطاقة. أنت التي تتكلفين بكل شيء" هكذا ثار الحسين في وجهها. تعالت الأصوات ما بين الحسين وزهرة داخل السيارة. تبادلا الاتهامات، انزعج السائق وحاول تهدئة الوضع، لكنه لم يفلح في ذلك. تعالت الأصوات أكثر. وما كان للسائق إلا حل واحد هو التوقف. استغل الحسين هذه الوقفة الاضطرارية، ففتح الباب وانطلق بسرعة في الخلاء. ازداد صراخ زهرة وشرع الطفلان في البكاء توسلا من أبيهما في العودة. لكنه لم يلتفت وغاب عن الأنظار. ترى ما العمل الآن؟ زهرة في حيرة كبيرة. العودة إلى البيت أو السفر إلى المغرب بدون الحسين؟. الوقت لا يرحم. السائق ينتظر القرار الحاسم. أرقام العداد لم تتوقف. طالت مدة الانتظار. ثم أعلنت زهرة : "اشخيبوبل". انطلق السائق من جديد في اتجاه المطار بعد هذا التوقف الإجباري. خيم الصمت من جديد؛ ولكن دموع زهرة والطفلين لم تنقطع بعد. توقف الطاكسي من جديد؛ ولكن هذه المرة قرب مدخل المطار. "على سلامتكم" خاطبهم السائق. أخرج طبعا كل الأمتعة من السيارة وأبدى أسفه الكبير لما حدث. ناولته زهرة 30 أورو المرسومة على لوحة العداد. شكرها، وتمنى لها مرة أخرى عطلة سعيدة. عند ولوج باب المطار، تنبهت زهرة إلى الساعة. أنها الآن الساعة الثانية عشرة والنصف. ازدادت حيرتها وهي تبحث عن رقم المدخل الذي سيؤدي بها إلى نقطة التفتيش وإيداع الأمتعة. تضاربت أمام عينيها أرقام الرحلات المتعددة أمام شاشة الإقلاع. طلبت المساعدة من سمير. لكن بدون جدوى. ازداد القلق أكثر. ثم طلبت أخيرا المساعدة من إحدى المسافرات التي أرشدتها إلى المكان المناسب. وعند وصولها وجدت المكان خاليا. لقد كانت جد متأخرة ولم يسمح لها بالسفر. بدأت زهرة في البكاء أمام الملأ. سمير ومريم هما أيضا وقفا شاردين أمام ما حدث. كل المسافرين ينظرون بألم إلى الثلاثة دون علم بما جرى ويجري. ضاع السفر، ضاعت التذاكر، ضاعت الهدايا، ضاعت النقود، ضاع الأب، ضاعت العطلة.