كلما اقتربت امتحانات البكالوريا بالمغرب، تزداد وتيرة الحديث عن موضوع الغش، كما تتسارع المقاربات الأمنية والزجرية بهدف محاربته والقضاء عليه. لكن، ألا ينم تكرار حالات الغش، رغم تناقص عددها، عن فشل هذه المقاربات؟ أليس حريا بنا تبني استراتيجيات تربوية جادة تسهم في التحسيس بأهمية القضاء على الغش؟ إن ما ينبغي الانتباه إليه، أن مسألة الغش، على غرار الظواهر الاجتماعية الأخرى، تحتاج إلى بحث معمق عن الأسباب، لأجل معرفة الحلول التي بإمكانها محاصرة الغش وتضييق الخناق عليه. هذا الغش الذي أضحى نقطة سوداء في جسم المنظومة التعليمية لانعكاسه السلبي على مبدأ تكافؤ الفرص كمؤشر حقيقي على دمقرطة النجاح ومصداقيته. و بالرغم من المجهودات المبذولة من طرف الجهاز الوصي على القطاع من أجل اقتلاع الظاهرة من جذورها والقطع مع ثقافة الغش، إلا أن دار لقمان ما تزال على حالها، ومازالت حالات الغش في امتحانات البكالوريا تتطور من حيث أساليبها المستخدمة، الأمر الذي يدفعنا إلى الوقوف عند مجموعة من الأسباب نرى ضرورة تشريحها بهدف اجتراح حلول نأمل أن تكون بلسما شافيا لهذا المرض المزمن الذي لازم الجسم التعليمي والتربوي لسنوات طويلة. 1- الأسباب: وجهة نظر.. لا جدال في أن الشفاء من أي مرض، كيفما كان نوعه واختلفت أعراضه، لن يتأتى ويتحقق ما لم يعلم المريض أسبابه ودواعيه. ولأن الغش مرض استشرى واستفحل.. والوصفات السابقة لم تعط أكلها، صار لزاما التفكير في مقاربات أكثر جدوى وفائدة. بيد أن الموقف يقتضي أولا عرض بعض أسباب هذه الظاهرة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي: أ_ سبب أسري: لا اختلاف في أن الأسرة هي المنهل الأول لتربية الطفل⁄ المتعلم على القيم الأخلاقية، كما تعمل على تزويده بمختلف أنماط السلوك الواجب اتباعها والاقتداء بها، كتجنب الغش مثلا باعتباره سلوكا منافيا للتنشئة الاجتماعية السليمة. ولأن الانسان لا يكون إنسانا إلا بالتربية كما قال كانط، نرى أن الأسرة ( وهذا ما يؤسف عليه) قد تخلفت عن الركب، وتجنبت خوض غمار التحدي وركوب موج الإصلاح الشامل، وهو ما انعكس سلبا على سلوكيات الأطفال الذين وجدوا أنفسهم لا سند ولا معين ينير لهم الطريق الصحيح. والأدهى من ذلك والأمر أن بعض الآباء والأمهات استنكروا في مناسبات عدة أجواء المراقبة المشددة في امتحانات البكالوريا، وهو ما يزيد الطين بلة والوضع أكثر تعقيدا. ب_ سبب مرتبط بضعف التوجيه: يعد التوجيه المدرسي أحد أهم الأسس التي يرتكز عليها مستقبل المتعلم(ة)، ذلك أن مساره الدراسي يتوقف بدرجة كبيرة على حسن توجيهه الوجهة الصحيحة والمتلائمة مع قدراته وكفاءاته الذهنية والمهاراتية. إلا أن واقع الحال عكس ذلك تماما، حيث الضعف وغياب النجاعة سمتان تميزان التوجيه المدرسي. فكثير من المتعلمين، ومن منطلق تجربتي الفصلية المتواضعة، يزجون بأنفسهم دونما توجيه صحيح صوب شعب ومسالك لا تربطهم بها صلة أو محبة. وأخص بالذكر، كمثال للتوضيح، أغلبية تلامذة شعبة العلوم الإنسانية غير مدركين لدواعي وأسباب اختيارهم للشعبة. لا غرابة في الأمر ما دامت أجوبتهم عن ذلك غير مقنعة. وهذا لعمري مشكل عويص وجب الحسم فيه منذ سنوات التعلم الأولى، لكي يعلم المتعلم وتعلم أسرته أيضا الوجهة التي هو موليها. ج_ سبب مرتبط بالبرامج والمناهج: يشتكي العديد من تلامذة التعليم الثانوي التأهيلي من الكم المعرفي الهائل الذي تتضمنه البرامج الدراسية المثقلة بالدروس، إذ يجدون صعوبات جمة في فهمها واستيعاب مضامينها، وذلك في نظري مرتبط بضعف التوجيه من جهة، وبضبابية الرؤية البيداغوجية والديداكتيكية للمدرس من جهة أخرى. فالمدرس يجد نفسه في حالات كثيرة مطالبا بإنهاء المقرر الدراسي ولو على حساب الحيز الزمني المخصص، فيضطر معه المتعلمون إلى حفظ بضاعتهم المعرفية بدل محاولة فهمها الفهم السليم، هنا يلجأ أغلبيتهم لأساليب وحيل غير تربوية ولا أخلاقية. د_ سبب مرتبط بالإعلام: إن الإعلام باعتباره مؤسسة عمومية لم يلعب دوره كاملا في الدعوة إلى تجنب جميع أسباب الغش ومسبباته، وذلك في غياب تام لاستراتيجية وطنية تضع موضوع الغش في صلب اهتمامها( حوارات. برامج. أفلام.ندوات...). ه_ سبب مرتبط بغياب ثقافة حقيق للمحاسبة: إن النأي بالعديد من المسؤولين، بمختلف قطاعاتهم، عن المحاسبة جراء أخطاء ارتكبوها: غش، فساد، رشوة، اختلاس... من شأنه أن يزرع في نفوس الناشئة مبدأ مفاده أن الافلات من العقاب مسألة صورية. فالتشبع بمثل هذه القيم من شأنه أن يفاقم الوضع ويجعلنا في موقف من يحارب السراب. 2- حلول ومداخل: وجهة نظر أخرى.. إن الاقتصار على المقاربة الأمنية والزجرية، لا يمكن أن يفي بالغرض المنشود، لأننا سنصبح كمن يعطي للمريض نصف الدواء ويترك الباقي. لهذا، ينبغي التفكير في الظاهرة من جميع الجوانب والأوجه، لأن من خصائص الظاهرة الاجتماعية تعدد أبعادها. لذلك، فإننا نقترح الحلول التالية علنا لا نجانب الصواب: يجب ألا يكون تدخل الدولة في محاربة الغش موسميا وعابرا، كما تمر العاصفة ثم تعود الأمور إلى سابق عهدها، بل ينبغي وضع خطط منظمة طيلة السنة وفي جميع المستويات بدء بالابتدائي وصولا إلى مرحلة الإجازة. خصوصا ونحن نعلم أن المتعلمين يجتازون فروضا وامتحانات من بداية الموسم الدراسي إلى منتهاه، هذا فضلا عن أن محاربة الغش يجب ألا تقتصر على مرحلة الثانوي بل من الضروري أن تشمل مرحلتي الابتدائي والاعدادي ثم الثانوي وصولا إلى المرحلة الجامعية، لأن مصداقية هذه الشواهد جزء لا يتجزأ من مصداقية شهادة الإجازة. ضرورة الانخراط الفعلي للأسر وجمعيات اباء وأمهات التلاميذ في التعبئة من أجل مدرسة بدون غش شعارها الإنصاف وتكافؤ الفرص، مع الأخذ في الاعتبار أن التربية ليست شأنا مدرسيا فحسب، بل إنها خيار استراتيجي جماعي. إعادة النظر في أساليب التوجيه المعتمدة عبر اعتماد خطة هادفة تتغيى التخطيط الدقيق لمهارات المتعلمين وتوجيههم وفق ما يلائم قدراتهم وكفاءاتهم. إعادة النظر في البرامج المقررة من خلال التقليص من الكم والتركيز على الكيف، لأن ما يهم بالدرجة الأولى هو كفايات المتعلم وقدراته. إحداث شعب جديدة تدخل ضمن اهتمامات فئات عديدة من المتعلمين، وتسهيل ولوجهم إليها، كإحداث شعب للرسم والموسيقى والمسرح والفنون بمختلف أشكالها... التطبيق الفعلي لمبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، ليحس المتعلم أن الإفلات من العقاب أضحى من سابع المستحيلات.. 3- في سبيل الختم.. خلاصة ما تقدم أن مطلب الجودة في المدرسة المغربية رهين بأهمية تحسين ظروف التعلم وضمان شروطه، وعلى رأسها مبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع من خلال التقليل من فرص ممارسة الغش، ولم لا القضاء عليه بشكل نهائي. إن ما قدمته في هذه الورقة المتواضعة ليس وصفة جاهزة، إنما هي مجرد أفكار من ضمن أخرى دفعتنا إليها غيرتنا على مستقبل جيل نأمل أن يكون نقطة الضوء في المستقبل. *مدرس الفلسفة وكاتب