هل المغرب لنا؟ أستحضر جيدا تلك الشعارات و"المبادئ" التي حشرت بها عقولنا وهي في بداية احتكاكها بالأشياء والموجودات، لقحنا ومنعنا ضد انشطار الهوية وضد فقدان الشخصية والإنسية المغربية. ولقننا معلمونا في تلك المدارس التي اختزلت ذات زمان أقصى درجات التهميش، كل أنواع وأشكال الانتماء إلى الجغرافية والتاريخ، كما تم تصورهما رسميا، وزرعوا في نفوسنا ما اعتبروه مقومات لتغذية وتعميق الشعور الوطني، خاصة في وقت لم تكن الأمور قد نضجت والشروط قد اجتمعت لإفراز منتوج اسمه الفردانية وعدم الانتماء. كم صرخنا ملء حناجرنا، وكم رددنا بكل البراءة والعفوية التي كانت تطبعنا "المغرب لنا لا لغيرنا" و"بلاد العرب أوطاني.. لنا مدنية سلفت سنحييها وإن اندثرت"، وكم تغنينا وعددنا مزايا ومحاسن اللغة العربية، لدرجة حسبنا معها أن تحرير موضوع إنشائي بطريقة سليمة وأنيقة يكفي لوضع التلميذ في مكانة سامية ولن يطاله أي مكروه أو عقاب، ولن تمتد إليه سلطة الأستاذ لتفتك به وبطموحاته. بل أكثر من هذا، كان يمكن لمن يقرض الشعر، أو يتلو خطابا بطريقة جذابة وخالية من الأخطاء، أن يحظى بتعامل خاص لدى مختلف السلط والأوساط. ربما للقدر دور حاسم في تقرير مصير العديد من الاختيارات، فأنا على سبيل المثال، وعلى غرار أبناء جيلي، لم أتلق تعليمي في مدينة تتمتع بالحد الأدنى من التجهيزات والمرافق والخدمات، بل في قرية صغيرة لا كهرباء فيها ولا ماء ولا وسائل نقل، وتحديدا في مدرسة أسسها الاستعمار الإسباني، وكانت في المرحلة الاستعمارية ثكنة عسكرية، لكن سرعان ما تحولت إلى فضاء تربوي. وبطبيعة الحال لم تكن لدينا الإمكانيات الاجتماعية والمادية والشروط التربوية الضرورية لنؤهل أنفسنا منذ البداية، وندربها على الاختيارات الصحيحة بالمفهوم الاجتماعي والبراغماتي للكلمة. ولذلك رضخنا للأمر الواقع، ولم تدغدغنا أحلام أو طموحات كبيرة، بل لم نحلم إطلاقا بأننا سننال ذات مشوار تعليمي شهادة عليا، لأن كل أسباب الفشل كانت موجودة وبكثرة، وترافقك أينما حللت وارتحلت حتى في الحلم. مع ذلك تمكنا من مراوغة العوائق الموضوعية، واستطعنا أن نجعل الممكن والموجود (أقصد الدروس والمصحف الكريم وكتاب بالفرنسية وآخر بالعربية) السلاح المعرفي والتربوي الوحيد لفرض الذات واختبار كفاءتها وقدرتها على المنافسة واجتراح المعجزات. أحيانا كنا نبحث عن أفق مغاير للتعلم والقراءة، كنا نطمح إلى أن تمتلئ حقائبنا بالقصص الملونة، وبالروايات التي من شأنها أن تسافر بنا إلى عوالم مثيرة ومحفزة للخيال، لكننا لم نعثر عليها بالعربية ولا بالفرنسية، وهكذا حكم علينا أن نكتفي بما كان بحوزتنا. وهذا ما دفعني شخصيا إلى اجتراح منهجية تربوية لتنمية وإثراء أدائي بالفرنسية، حيث عمدت إلى حفظ المفردات والإكثار من قراءة النصوص حتى تترسخ في ذاكرتي، وكنت أجد متعة آسرة في النصوص الفرنسية، خاصة أن الصور الملونة والحالمة التي كانت تؤثثها، أشعلت في دواخلي رغبة جامحة. الآن عندما أتأمل من شرفة أفكاري وقناعاتي تلك المرحلة التربوية العصامية، أتساءل بدون أية خلفية أو مرارة: لماذا لم توفر لنا الدولة الإمكانيات والبيئة الملائمة والأرضية الواعدة لتلقيننا لغة سليمة، ومعرفة عميقة بالفرنسية؟ ولماذا غرر بنا وخدعنا بشعارات التعريب؟ ولماذا تركنا نحارب بأسلحة صدئة ومتهالكة واقعا عنيدا وملتبسا ومفارقا، يكرس ثقافة الإقصاء ولا يعترف إلا بالعلاقات المصلحية والسلوكات الانتهازية؟ ليس من المهم التصدي لكل هذه الأسئلة بالأجوبة الضرورية، لكن لا بأس من الإشارة إلى الاختلالات التي أنتجتها الاختيارات التعليمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، التي دافعت عنها النخب الحاكمة منذ عدة عقود، لأنها لمست أن مصلحتها تكمن في مجال لغوي يتداول الفرنسية ويتمسك بقيمها ومحمولاتها، وتبعا لذلك لم تكن هناك سياسة تعريب حقيقية قائمة على مخطط محدد الأهداف، الشيء الذي أحدث اعوجاجا وتشوها في المنظومة التربوية، ووجد طلابنا أنفسهم في متاهة لا بداية ولا نهاية لها. أما أبناء الفئات الميسورة والماسكة بزمام الاقتصاد والإدارة والسياسة، فلم يطرح أمامهم المشكل أصلا، لأن معظمهم ببساطة كان يدرس في البعثات الأجنبية، والفرنسية تحديدا، وبعد ذلك يواصلون تعليمهم في إحدى الجامعات أو أحد المعاهد الغربية في أوربا أو أمريكا، وحاليا لهم في المغرب منتجعات تربوية، تجعلهم لا يفكرون في معضلة التشغيل، أو يقض مضجعهم هاجس عدم الاستقرار. والأنكى من كل هذا أن التعليم العمومي بمختلف أسلاكه بدا للذين وجدوا في خيرات المغرب مصدر إثراء سريع، بمثابة حمل ثقيل على الدولة، لذلك وجب التخلص منه والعمل على خوصصته، ما يعني إنعاش الأمية وتكريس الجهل، ولم لا إنشاء وزارة للتجهيل العمومي؟ ليس صدفة أن تفرنس الحياة في المغرب، في خرق سافر وصارخ لمقتضيات الدستور، وليس بالأمر الغريب أن ينخرط رجال الأعمال المغاربة في المناخ الفرنسي، فهم لا يتحدثون ولا يتواصلون في اجتماعاتهم وعلاقاتهم اليومية إلا بالفرنسية، ويجدون صعوبة كبيرة عندما يضطرون للإدلاء بتصريح بالعربية، فإما أنهم يتلكؤون ويتمتمون ببعض الكلمات الممزقة الأوصال والمبعثرة المعنى، أو يرفضون مبدئيا الحديث بالعربية، وليس بالمسألة المثيرة للدهشة أن تلاحظ الإعلانات التجارية أو الإشهارية المبثوثة في التلفزيون أو المثبتة فوق جدران البنايات أو تلك المنتشرة في المواقع الاستراتيجية للمدن الكبرى مكتوبة أو ناطقة بالفرنسية، وكأنها موجهة إلى الفرنسيين، وهذا ما يعكس سلوكا تجاريا وتواصليا بليدا، لأنه يستغبي المواطن ويحتقره، علما أن هذا المواطن هو المستهدف تجاريا واقتصاديا. وحتى عندما أرادت شركات الإشهار إعمال مقاربة القرب اللغوي، فإنها عمدت إلى استعمال عامية لقيطة وكسيحة ومشوهة أصابت الفضاء اللغوي العمومي بتلوث غير مسبوق، وساندتها في ذلك مجموعة من الإذاعات. في إحدى المناسبات الثقافية التي احتضنتها الرباط منذ سنوات خلت جمعتني جلسة مع نخبة من الشعراء والصحافيين المشارقة، وعلق شاعر لبناني قائلا: لماذا كل شيء في المغرب مفرنس حتى قائمة المشروبات في مقهى الفندق تحتكرها الفرنسية ولا تزاحمها العربية ولا الإسبانية ولا الإنجليزية ولا الأمازيغية؟! بصراحة لا أفهم لماذا هذا التطرف اللغوي، الذي لا يحترم المواطن ولا الزبون، ولا أعتقد مطلقا أن السياحة ستنجح بهذه الطريقة من التواصل، ولا أجد تفسيرا مقنعا لماذا يشعر أبناء شريحة اجتماعية برغبة في الانفصال عن لغتهم الأصلية وعن وطنهم، بل يحتقرون من يستعمل اللغات الوطنية؟، علما أن فرنسا نفسها تدعم اللغات الأم، حتى لا تخاطب شعوبا تائهة ومغتربة ولا انتماء لها أو هوية تفتخر بها. *صحافي وكاتب