كان فقيه دار المخزن، عبد الكبير المدغري العلوي، بعيد النظر حصيف الرؤية عندما أطلق على كتاب ألفه يوم كان يعبر الصحراء عنوان «الحكومة الملتحية»، ومن تحت هذا العنوان أرسل أكثر من رسالة إلى من يهمه الأمر على عادة فقهاء السلطة، ولم يتأخر الجواب، حيث عين «الفقيه» على رأس بيت مال القدس، عندها انشغل العلوي بجمع «الصدقات» لصالح القدس الشريف، وترك كتابه في الخزانة المغربية لكل غاية مفيدة. الذين فوجئوا بصعود الإسلاميين في المغرب لم يكونوا على علم واطلاع على ما يجري في «قاع» المجتمع وبواطن التحولات الاجتماعية التي جعلت من الإسلاميين ومن الدين وطقوسه الملجأ الوحيد للاحتماء من الإقصاء والتهميش والحرمان. في الأحياء الفقيرة وأحزمة البؤس التي تطوق خصر المدن الكبرى، لا أحد يسمع لسكان المغرب المنسي سوى جمعيات البر والإحسان، وفقهاء الوعظ والإرشاد، وأصوات المعارضة الإسلامية التي تتكلم مع هؤلاء باللغة التي يفهمونها، وبالأسلوب الأقرب إلى قلوبهم وعقولهم، أما الأحزاب اليسارية فإنها غرقت في كراسي السلطة، وفي خلافاتها المخملية في الصالونات المكيفة، وأما السلطة فقد رعت مبادرة ضخمة اسمها «INDH»، وصبت فيها المليارات، بيد أن آثارها لم تصل إلى عمق المجتمع، وتحولت إلى «نشاط دعائي» تتكلف به وزارة الداخلية التي لا تمتلك ثقافة التنمية ولا تقنيات التواصل مع الفئات المهمشة. صارت أموال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مثل «الشحم» الذي يزرع في ظهر «السمين»... ونبتت آلاف الجمعيات وآلاف الوسطاء الذين حولوا أهداف المبادرة عن سكتها، وحولوا أموالها إلى جيوب مكاتب الدراسات وحساب الوسطاء، وظلت حكومة الفاسي تتفرج على المليارات تجمع وتصرف بلا مراقبة ولا إشراف، لا من البرلمان ولا من الحكومة، مع أن القاعدة الأولى لتحقيق أي تنمية هي شفافية الإدارة، وديمقراطية السياسات، والرقابة على الآمرين بالصرف. الذين صوتوا للمصباح يوم 25 نونبر لم يكونوا جميعا مقتنعين بالأفكار السياسية التي يتبناها الحزب.. كانوا ينتقمون من السياسات العمومية التي أقصتهم من اهتماماتها، وحولت مطالبهم ومشاعرهم وفقرهم إلى مادة للدعاية السياسية والانتخابية. لقد اتجهت سياسيات صندوق الإيداع والتدبير «CDG» مثلا إلى بناء فنادق الخمس نجوم، ومارينات اليخوت، ومشاريع «المرفحين» بأموال الكادحين الذين يضعون رزقهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، عوض أن تستثمر هذه الأموال في المشاريع الاجتماعية وفي البنيات التحتية وفي ما يعود على الفقراء بالنفع، لأن الفائدة الصغيرة التي توظف بها أموال العمال في «سي.دي.جي» لا تسمح للباكوري ولا للعلمي ولا للذين يقفون وراء تعيينهما على رأس العلبة السوداء للمخزن، بتوظيف هذه الأموال في مشاريع النخبة، وفي مضاربات البورصة، وفي أنشطة مالية أخرى تنافس الرأسمال الوطني، وتوسع مساحات «الظلام» والزبونية والاحتكار في النسيج الاقتصادي للبلاد. هذا مثل واحد عن انعدام المقاربة الاجتماعية في سياسات الدولة، والأمثلة كثيرة تؤكد أن في البلاد سياسة تفقر الفقير وتغني الغني... لماذا لا تنبت للحكومة لحى بدل لحية واحدة، وإذا حلقوا لبنكيران لحيته غدا وفشل في ما وعد به الناس، فإن هناك لحى كثيرة ستنبت في وجوه أبناء الفقراء والمهمشين والمحكورين، والذين لا يعرفون شيئا عن المواطنة التي يتحدث عنها الإعلام الرسمي كل يوم.