شكلت أحداث القرنين السابع والثامن عشر مضمونا للعديد من البحوث والإنتاجات الفكرية والتاريخية، وما تميزت به هذه المرحلة من زخم كبير على مستوى السياسة والفكر والأيديولوجيات، وكذا التحولات المفصلية في الخريطة الجيوسياسية العالمية... وشكل المغرب آنذاك رقما مهما في المعادلة السياسية العالمية، فمن جهة أولى استقبل آلاف المطرودين من اليهود والمسلمين من الأندلس (الموريسكيين)، وخاصة بعد صدور مرسوم ملك إسبانيا فيليب الثالث سنة 1609، الذي كان من نتائجه تكوين كيان سياسي بمدينة سلا يتمتع باستقلال عن السلطة المركزية تحت اسم "جمهورية قراصنة بورقراق"، مستغلين صراع أبناء احمد المنصور السعدي حول الحكم...وامتهنوا أعمال الجهاد البحري كشكل انتقامي ممن طردوهم من الأندلس، وهي جمهورية ستتآكل بوصول الدولة العلوية، وخاصة المولى إسماعيل، إلى الحكم... ومن جهة ثانية كان المغرب الدولة العربية والمسلمة الوحيدة خارج الإمبراطورية العثمانية، وهو ما يعني مناوشات وطمعا من جهة الشرق. كما أن القراصنة الأتراك كانوا يستغلون الشواطئ المغربية، سواء الشمالية أو الأطلسية، في أعمال القرصنة أو الجهاد البحري، أضف أن البرتغال تخلت عن طنجة لفائدة الإنجليز سنة 1661، كما أن الإسبان احتلوا مدنا وشواطئ عديدة كسبتة ومليلية والعرائش وأصيلة وغيرها، مستغلين تداعيات أفُول الدولة السعدية وانشغال السلاطين العلويين في حملات توحيد البلاد... ومن جهة ثالثة باركت السلطة المركزية أعمال القرصنة بحوض سلا ورفعتها إلى منزلة "الجهاد البحري" مقابل عُشر الغنائم لفائدة خزينة البلاد بداية، وإرسال أسرى السفن الأوروبية إلى مكناس في عهد المولى إسماعيل...لرفع مداخيل الدولة المركزية من خلال "فدية الأسرى"، وأيضا للضغط على الدول الأوروبية في المفاوضات...وهو ما نشَط أعمال السفارة في تلك الفترة. كما شكل موضوع الأسرى واسترجاع "المكتبة الزيدانية" محور المفاوضات واتفاقيات السلام مع الدول الأوربية... وفي ظل عمليات الكر والفر للسفن الأوروبية وتعقبها من طرف سفن قراصنة سلا، وكذا حملات المدفعيات الأوروبية على أسوار سلا، ظهر اسم عبد الله بن عائشة وذكائه الحاد في قراءة عمليات قرصنة ناجحة، لم تكن لتمنع سقوطه أسيرا في قبضة سفينة إنجليزية سنة 1680، حيث سيُطلق سراحه بعد ثلاث سنوات وبتدخل من الأمير جيمس كارل، أخ الملك تشارلز الثاني؛ ثلاث سنوات من الأسر ستقربه من تقاليد وأعراف الإنجليز والتمكن من لغتهم، إلى جانب تمكنه من اللغة الإسبانية.. عملياته العديدة وغنائمه من الأسرى جعلت اسم عبد الله بن عائشة يكتسي شهرة كبيرة وسط القراصنة الآخرين ولدى المسؤولين الأوروبيين، وهو ما دفع المولى إسماعيل إلى تعينه سنة 1684 كجنرال لسفن سلا...وأصبح اسمه مرادفا للرعب في المتوسط والأطلسي، خاصة مع غنائم ماي 1687 من السفن الفرنسية الكبيرة، التي ستدفع بملك فرنسا لويس الرابع عشر إلى إصدار أمر ملكي في يوليوز 1687 بحضر العلاقات الفرنسية مع المغرب، وفي السنة نفسها ستعجز مدفعية 25 سفينة حربية فرنسية أمام مقاومة سلا... في شتنبر 1698 سيُعين عبد الله بن عائشة سفيرا للمولى إسماعيل العلوي إلى ملك فرنسا لويس الرابع عشر. وتعيين بن عائشة على رأس سفارة إلى فرنسا لويس الرابع عشر لم يكن بالحدث العادي، سواء من حيث اللاعبين السياسيين أو من حيث التوقيت، نظرا للوضع السياسي للبلدين، إذ كانت فرنسا في صراع مع إسبانيا وملوك الدول الأوروبية وتتحالف مع العثمانيين، أما المغرب فكان مُحاطا بالأطماع الخارجية، إضافة إلى قلاقل داخلية، أضف إلى ذلك الشخصية القوية لكل من المولى إسماعيل ولويس الرابع عشر ومُلْكهما الطويل والمطلق، واختيار عواصم جديدة مكناس للمولى إسماعيل وفيرساي للملك لويس الرابع عشر...ما جعل كلا من فرنسا والمغرب في حاجة إلى سلك طريق الدبلوماسية؛ فالمغرب يحتاج إلى السلاح ومواد أولية لصناعة السفن وغيرها، وفرنسا محتاجة إلى الرفع من حجم تجارتها الخارجية وسلامة سفنها وأمن بحاريها وكذا منافذ مغربية مُطلة على المحيط الأطلسي ... كما أن سفارة عبد الله بن عائشة جاءت بعد سفارتين لقائد تطوان الحاج محمد تميم في سنوات 1861/ 1682 وسنة 1685...وما رافقها من إشكاليات التنفيذ والتصديق ومن تبادل المبعوثين والقناصل الفرنسيين... كما نُذكر هنا أن سفارة عبد الله بن عائشة كانت هي الأهم ضمن خمس سفارات في أقل من عشرين سنة من المفوضات الفرنسية / المغربية.... انطلق السفير بن عائشة يوم 17 أكتوبر 1698 في اتجاه ميناء بْريست الفرنسي التي وصل إليها يوم 11 نوفمبر 1689...حيث كان مرفوقا بالقنصل جون بابتيس إستيل، والمترجم الشاب بوتي دو لاكروا ... لكن لماذا توقف المؤرخون كثيرا عند سفارة بن عائشة، رغم أن نتائجها كانت سلبية كغيْرها....؟. نعتقد أن الشخصية القوية للسفير بن عائشة وطريقته الذكية في تدبيره للمفاوضات، وما رافق الرحلة من أحداث عبر عنها الكثير من المختصين في الاجتماع والسياسة بأنها شكلت مجالا "للصدمة الثقافية"، هي التي ميزت سفارة بن عائشة عن غيرها، كما أن تسميتها بالزيارة الرسمية يُعد إنجازا دبلوماسيا في ذلك الوقت لأن لويس الرابع عشر سبق له أن رفض استقبال أكثر من سفير مغربي أو كلف غيره للتفاوض؛ كما أنها الزيارة المغربية الوحيدة المسجلة في 16 فبراير 1690 في كتاب زيارات الإقامة الملكية بفيرساي باعتبارها "زيارة رسمية" وما تتمتع به هذه الزيارات من بروتوكول وطقوس دقيقة تنظم الزيارة منذ لحظة الوصول إلى الأراضي الفرنسية. وقد عمل الملك لويس الرابع عشر على تدوين هذه الترتيبات في كتاب من 2000 صفحة... لقد ظهرت القوة التفاوضية وقوة شخصية السفير بن عائشة منذ وصوله إلى ميناء بْريست، حيث وقف على نية الملك لويس بالعمل على توقيع بن عائشة لمعاهدة السلام في ميناء بريست وبنفس شروط المعاهدات السابقة، أي 1681 و1682، لإظهار قوة الجانب الفرنسي وعدم وجود التوازن باعتبارهم المُنتصرين، وهو ما فطن له السفير بن عائشة وأعلن عن عدم توقيعه لأي اتفاق سلام قبل تسليمه أرواق اعتماده للملك شخصيا، وأمام هذا التهديد بعدم التوقيع أعاد السفير بن عائشة التوازن للزيارة قبل بدء المفاوضات، فأعلن بعد ذلك الملك الفرنسي استعداده لاستقباله، وهكذا وصل السفير بن عائشة إلى باريس يوم 10 فبراير واستقبل استقبالا رسميا يوم 16 فبراير 1690 مع إلقائه كلمة باللغة العربية بالمناسبة في حضرة الملك الفرنسي، وكذا الأسرة المالكة والنخبة الفرنسية، وهو ما اعتبر تشريفا مميزا لممثل السلطان العلوي المولى إسماعيل في قصر فيرساي بباريس... استمرت المفاوضات وكانت العقبة هي الفصل السابع والخاص بملف الأسرى، وتوقفت أكثر من مرة، وفي 6 أبريل أعلن عن انتهاء المفاوضات وتم تحديد موعد رحلة عودة السفير بن عائشة، وفي الوقت نفسه أعطيت الأوامر بتجهيز ثلاث فرطقات حربية لمهاجمة ميناء سلا مباشرة بعد انتهاء الهدنة في 15 شتنبر... ومن جديد ستظهر قوة السفير بن عائشة على المناورة وحرصه على تجنيب الدفاعات السلاوية لهجومات مباغتة من الفرنسيين، فاخبر أحد المفاوضين بنيته لتوقيع الاتفاقية، وهو ما تراجع عنه بعد مدة قصيرة. لكن ستستمر المفاوضات إلى غاية 4 ماي، حيث سيعلن عن نهاية المفاوضات بشكل رسمي. وسيغادر السفير بن عائشة باريس في اتجاه ميناء بْريست ليصل إلى ميناء مدينة سلا يوم 10 يونيو 1690، لتكون رحلة عودته إلى المغرب إعلانا عن نهاية الطريق الدبلوماسي في حل المشاكل المغربية / الفرنسية....ولتنطلق من جديد المناوشات وأعمال الجهاد البحري واعتقال الأسرى الفرنسيين والهجومات الفرنسية على الموانئ المغربية...وبموت كل من السلطان المولى إسماعيل والملك لويس الرابع عشر ستقطع العلاقات بشكل نهائي مع المغربي مقابل تقارب فرنسي / إسباني.... من جانب آخر فإن اعتبار سفارة بن عائشة إلى فرنسا كزيارة رسمية سمح له بزيارات منظمة بحضور التراجمة والتقنيين إلى كل من المطبعة الملكية ودار سكة النقود والميداليات ومصنع الصابون والمثلجات، والفضاءات الثقافية، كالمكتبة الملكية وأكاديمية الرسم والنحت واللوفر وقصر فيرساي والمنتجعات الملكية والنزل الوطني للمعاقين الخاص بالجنود، وأيضا الحضور لعروض مسرحية...وغيرها. وهذا ما دفع العديد من المؤرخين والباحثين في علم الاجتماع إلى الحديث عما شكلته هذه الزيارات من "صدمة ثقافية" لدى بعثة سفارة بن عائشة إلى فرنسا..حيث يمكننا سرد العديد من النقاط المتضادة، والتي ساهمت في هذه الصدمة الثقافية، كاهتمام النخبة الفرنسية بالجلباب المغربي واختلافه عن لباس النخبة الفرنسي، والتطور الهائل في الصناعات، خاصة السلاح والسفن، ووسائل النقل، كالسكك الحديدية أو "بابُور البر"، ووجود المسرح كمظهر ثقافي واجتماعي مهم وكفضاء ثقافي إلى جانب المكتبات، وحفلات الاستقبال وما يُرافقها من اختلاط بين الرجال والنساء وأيضا طريقة الاختلاف بين طريقة التأريخ بين الميلادي والهجري، وغيرها من مظاهر الاختلاف بين دار الحرب أو دار الكفر ودار السلام .... عبد الله بن عائشة هو قبطان بحارة سلا والعارف بخبايا البحر وبصيد السفن والأسرى الأوروبيين، وهو أيضا السفير المفاوض والمناور الذكي، جاب البحر طولا وعرضا، يتمتع بشخصية قوية ويتكلم أكثر من لغة، وهنا نستحضر علامتين لهذه القامة المغربية، أولها زيارة المجاملة التي قام بها للملك الإنجليزي جاك الثاني بمنفاه بباريس أثناء سفارته لفرنسا، بحيث شكلت رسالة شكر وعرفانا له نظير توسطه لدى أخوه الملك الإنجليزي تشارلز الثاني لإطلاق سراحه ببريطانيا...ثانيها أننا نتحفظ على حادث خطبة المولى إسماعيل لابنة لويس الرابع عشر ماري آن دوبوربون، إذ إن هذه الخطبة راجت فقط في الصالونات الباريسية والرد عليها كان شرطه هو "تنصر" المولى إسماعيل. وهنا نستحضر رسالة المولى إسماعيل نفسه في شتنبر 1681 إلى الملك لويس الرابع عشر للدخول إلى الإسلام، ما يعني إنه إما أن الفرنسيين ردوا رسالة الدعوة إلى الإسلام بالتنصير، أو أن السفير بن عائشة كان يهدف من خلال إثارة الخطبة إلى التأثير عن المفاوضات أو رهن العلاقات المغربية الفرنسية بزواج سياسي....وهو ما يجعل من السفير عبد الله بن عائشة مدرسة دبلوماسية قائمة الذات منذ القرن السابع عشر....