ثمّة مثل يقول شيئا من هذا القبيل "لوْ أردت أن تعرف إلى ما أشير فانظر إلى أبعد من أصبعي"، ويمكن أن نُضيف: وإذا أردت أن تستريح وتُريح فلا تنظر إليَّ أصلاً. في سنة 1999، وبُعيْد وفاة الملك الحسن الثاني رحمه الله، كتب المرحوم عبد السلام ياسين إلى الملك الجديد حينها، محمد السادس، رسالة بعنوان "مذكرة إلى من يهمه الأمر". من حيث الجوهر لا اختلاف بين المذكّرة ورسالة سابقة كان ياسين قد أرسلها إلى الحسن الثاني تحْت عنوان "الإسلام أو الطوفان". كِلْتاهما حملتا جَرْساً قويّاً جافّا نوعاً ما وغير لطيف، لِنقُل إنه كان نشازاً وسط جوقة المدّاحين. انبرى البعض للرد على مذكرة الشيخ فكان من أطرف الردود ما ورد عن الزعيم المحجوبي أحرضان، حيث قال ساخراً "الفقيه اللي كنترجاو براكتو دخل نجامع ببلغتو" (الفقيه الذي نرجو بركته دخل المسجد بحذائه). في الجهة المُقابلة نسجل رد أحد أعضاء مجلس الإرشاد، الذي ذكَّر بأن الرسالة موجهة إلى من يهمه الأمر لا إلى من لا أمر له ولا همّ له. ثمَّ أما بعد، لا جرم أن كتاب "رَواء مكة" للأستاذ حسن أوريد حرّك ورجَّ المشهد الثقافي الراكد الساكن في مجتمع هادر مائر. قرأ الكتاب من قرأه وسمع عنه البعض والبعض سمِع من السامع، فمُستحسن ومُستجِهن. مستحسن للأسلوب الرّاقي الذي عُرِف به الكاتب، أو لجرأته في البوح ببعض تفاصيل حياته كتعاطي الخمر والتموقف من الإسلام كموروث ثقافي يستحق الاحترام وفقط، أو لشجاعته في إحداث قطيعة مع الماضي القريب للعودة إلى الماضي البعيد، إلى دين الأب والجدّة. أما المستهجن فرأى في "ردة" الكاتب خرجة استعراضية أخرى لرجل ما انفك يتكّلف في كتاباته وخطاباته، أو أن الرجل بعد أن أوتيَ في الدنيا حسنة قرر أن يغيّر من جلدته علّه يستدرك حسنة الآخرة، كما ترددت كثيراً عبارة "تصفية الحساب مع الماضي المخزني" بحكم أن الرجل من زملاء الملك في الدراسة وشغل منصب الناطق الرسمي باسم القصر، ومؤرخ المملكة، ثم واليا على جهة مكناس، فتكهَّن البعض بأن النظام لفظ السيد أوْريد فكانت ردة فعله أن غيّر ملّته. كاد الأمر يكون شبه عادي، رغم مكانة حسن أوريد ثقافياً وسياسياً، لولا أن طرفاً آخر دخل المشهد، ألا وهو المقرئ أبو زيد، الذي اعتبره البعض "العرّاب" الحقيقي لكِتاب "رواء مكة". ابتدأ الأمر بمقطع من برنامج "سواعد الإخاء"، حيث أبو زيد، وسط لفيف من الدعاة، يتكلم بحماس عن الرواية، ويُفهم من كلامه أيضاً أنه سبق أن قدم الكتاب في لقاء عمومي بحضور المؤلف. وحينما يتكلم المقرئ أبو زيد فلْننتظر مَلكة رهيبة في الخطابة واستحضار أسماء من هنا وهناك وقدرة على شد الانتباه، وهو ما يفسر انتشار المقطع بهذه السرعة. ولكن من جهة أخرى حينما يتكلم أبو زيد فلْننتظر أيضاً ألْسِنة حِدادا مصقولة مسبقاً في وجه الرجل، وهو ما يفسر أيضا تركيز البعض انتقادهم على "العراب" بدل الكتاب. وحتى المنبر الذي نتنفس عبره من حين لآخر، وأعني جريدة هسبريس، لم يسلم من هذه الآفة. "إشادة برلماني تحوّل "رواء مكة" لأوريد إلى رواية شهيرة بالمغرب".. قصاصة إخبارية تحمل عنوانا غير بريء وكأنّ المقرئ أبو زيد تكلم عن الرواية تحت قبة البرلمان أثناء مناقشَة بنود الميزانيات الفرعية. كما أن منبر هسبريس، الذي كنا وما زلنا نحترمه، بعد أن صنّف أبو زيد في خانة "النازلين"، وذلك حقه، جعل أحد الاعتبارات التي أخذها بعين الحسبان كون المقرئ صرَّح في تقديمه للرواية بأن "حسن أوريد كان سكيرا ولا يؤمن بالله قبل أن يهتدي"، والواقع أن الكاتب يصف حاله، وهو في إحدى المستشفيات بماليزيا، أن سماوات وبحورا كانت تفصله عن الإسلام، فأين الافتراء؟ مثال آخر، هو مقال نشر في الجريدة نفسها، وهذه المرة لا نحمل هسبريس أي مسؤولية، "رواء الكراسي"، كله نقد، أو قُلْ سبّ، في حق المقرئ أبو زيد.. "المناسبة شرط" هكذا يقول الأصوليون، وليس من الأدب والحكمة تصريف مكبوتات وتصفية حسابات تحت ستار النقد الأدبي. ونحن صغار كنّا نصغي إلى المعلم وهو يحكي عن المقاومين المغاربة، فكنا نتخيلهم كأبطال هوليوديين ننبهر بسماع قصصهم.. بعدها ظهر فتى نحيف أسمر يجري في الحلبات ويحرك رأسه كالمَجنون قبل الوصول إلى خط النهاية. كان سعيد عويطة ينهي سباقه ونجد قلوبنا تدق بسرعة وكأننا كنا نعدو وراءه، ومع الوقت جنح بنا "الغرور" فأمسينا لا نسأل عن الرتبة الأولى، ولكن هل حطَّم عويطة الرقم القياسي. تأثرنا بدموع نوال المتوكل، وهي تعانق الذهب في لوس أنجلوس، وحين كبرنا فهمنا أن يهوديا مغربيا رفض الجنسية الإسرائيلية وأيد قيام الدولة الفلسطينية، وكان وزوجته من المنافحين ضد الاستبداد المخزني، فكبُر في أعيننا اسم أبراهام وكريستين السرفاتي.. تتبعنا أخبار فريق مايوركا الإسباني، ليس إعجابا به، بل لأنه ضم إلى صفوفه عملاقا اسمه بادو الزاكي.. "جذبنا" على نغمات ناس الغيوان وجيل جيلالة.. انتشينا باحتفالية نعمان الحلو الأنيقة. أمتعتنا أوتار سعيدة فكري.. صفقنا حينما تم انتخاب السيد عبد الواحد الراضي رئيسا للاتحاد البرلماني الدولي، ولا تسل عن شعورنا ونحن نسمع عن كمال الودغري سفيرا للمغرب في الناسا.. في فترة ما وجدتُني أدرس عند الدكتور اللبناني الأصل سامي عوْن، كنت من حين لآخر أتحدث وإيّاه بعجالة قُبيل أو بعيْد المحاضرة، وذات يوم طلب مني، بدون مقدمات، أن أعطيه اسم أحد المفكرين المغاربة المحترمين، قبل أن يضيف "من غير المهدي المنجرة"، فاجأني السؤال فأجبته بأول اسم خطر في بالي وهو عبد الإله بلقزيز، ابتسم وقال: لكن بلقزيز نشارككم فيه نحن أيضاً. جميل أن تعلم أن لدينا من الرجال من ينازعنا فيهم الآخرون. الأكيد أن اللائحة طويلة، ولستُ أدّعي بأننا بِدع من الأمم، فكل ما أودُّ قوله أن الوطن مزهرية واسعة، واسعة جداً، خليقة باحتواء كل أصناف الورود والأزهار، قد لا يعجبنا شكل بعضها، قد لا نتذوق رائحة الأخرى، لكنها أزهار، لكنهم نبغوا، تفنَّنوا وتفوّقوا وبات بإمكاننا، أو على الأقل لجزءٍ منّا، الافتخار بهم. فما بال البعض منا يُحجِّر واسعاً؟ بعبارة أبسط، كفانا عنْفاً وإرهاباً وإقصاءً.. إن لم يهمُّك أمر ما فلا تتريب عليك، اغْضض بصرك وأتِمَّ سبيلك، فهناك من عنده همٌّ وأمر، وإن لم تستطع أن ترى أبعد من أصبعي، فأرح واسترح، انظر إلى الجهة الأخرى ولا من يلومك، ثم اترك المكان مشكورا لِمنْ قد يُعجبه رُواء ما أشير إليه، فلعله يجد هناك "رَواءه".