الانصاف وتكافؤ الفرص، مجال من مجالات رافعات الرؤية الاستراتيجية للإصلاح التربوي، لكنه يَصْطدم بواقع مَرير، يَضرب عَرض الحائط هذه الحزمة من الشعارات الرنانة المخالفة للتوجهات المُجَسدة على الأرض، حيث يكفي تسليط الضوء على فضائح الغش التي تغزو مباريات الكفاءة المهنية لمختلف الفئات المشتغلة بقطاع التربية الوطنية لنكتشف ممارسات للغش والتدليس في نطاقها الواسع، أقل ما يقال عنها إنها مُشينة ومُخْجلة وجد مسيئة للقطاع، من طرف أطر يُفترض فيهم قيادة الإصلاح والرفع من جودة التعليم والتدبير الإداري والارتقاء بالفرد والمجتمع. هذه الممارسات هي في عُمقها مَظاهر لأزمة قِيم مُجتمعية مُتَجذرة ومُتَرسخة في بنية المجتمع قد تحتاج إلى دراسات أكاديمية لمحاولة فك شفراتها، لما تحمله من تناقضات عصية على الاستيعاب، تتلخص في رفع شعارات تربوية وأخلاقية لا تجد ترجمتها في سلوكيات الأفراد والجماعات ولا في قناعاتهم، بل فقط التسلح بالغش كثقافة شعبية براغماتية، "الكل ينهب ويغش" كقيم لسموم خبيثة للوصولية والانتهازية لإدراك غايات نفعية. في شكلها الظاهري، فإن مجريات امتحانات الكفاءة المهنية تمر في ظروف عادية، بدءا باحترام أوقات الدخول والخروج من القاعات، مرورا بضبط لوائح الحضور والغياب، وكذا زيارة لجان المراقبة، وصولا إلى تجميع أوراق التحرير وتحرير المحاضر والتقارير، التي في جانب كبير منها تفتقد للدقة وتنأى عن الموضوعية. لكن من حيث المضمون، فما يجري داخل فصول الامتحان ليس في حقيقته سوى مهازل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تتجلى في سيادة شتى أساليب الغش والتدليس البشعة، تأخذ شكل استعمال المترشحين المدججين بالهواتف النقالة، و"الحروزات"، والكتب والمراجع، فتتحول بذلك الفصول إلى قاعات للمناظرات وتبادل النقاشات والحوارات جلوسا ووقوفا، وجيئة وذهابا، وتحت أنظار وأعين مراقبين، ربما قد يكونوا مروا هم أنفسهم من التجربة نفسها، وتَرَقّى بعضهم بالطريقة ذاتها، إذْ يقتصر دورهم على الإشعار المُبكر كُلما اقترب مسؤول من المرور أمام قاعة الامتحان. وسَينتهي العرض المسرحي لما يسمى بالامتحانات التي تقيس كفاءة الموظفين والموظفات، وسَيَرجع المترشحون والمترشحات إلى مقرات عملهم سالمين مُتَرَقبين ومُنْتظرين باكورة مجهوداتهم الجبارة، ومخرجاتهم العلمية، وما أبدعته عقولهم من أساليب التركيب وفنون التحليل والاستنتاج للحصول على النقط المضمونة، ويكون بذلك النجاح مضمونا، وبالتالي الامتحان ما هو في جوهره سوى تمرينات بسيطة للخط والنقل والاملاء، وعليه ربما يكون إلغاؤه من الأصل خيارا موضوعيا بالنظر إلى انتفاء مبررات وجوده كأسلوب حضاري للتكوين والترقي، وصار مرتعا لتفريخ الفشل. هذا المشهد هو في حقيقته نوع من الإجهاز على مبدأ تكافؤ الفرص بين المترشحين، ووصمة عار على جبين مكونات وأطر القطاع التعليمي وعلى جبين الوطن ومستقبل أجياله. ربما أن الأجهزة الوصية لا يجب أن تكتفي بتعزيز ترسانتها القانونية لمحاربة ظاهرة الغش فقط في صفوف تلاميذ الباكالوريا، من خلال إجبارهم على توقيع التزامات للشرف مصادق عليها، وكذا القيام بحملات تحسيسية في صفوفهم، فضلا على تجهيز مراكز الامتحانات بكاميرات المراقبة وأجهزة السكانير الكاشفة لتواجد الهواتف النقالة، بل يجب أن يشمل ذلك جميع مباريات الكفاءة المهنية لمختلف أطر وأعوان وفئات موظفي الدولة بالقطاع. لا بد هنا من الإشارة إلى أننا لا نبخس من قيمة ومجهودات بعض الشرفاء والمُجِدين من المترشحين والمترشحات على قلتهم، الذين يختارون النزاهة والصدق والشفافية والاعتماد على النفس عنوانا وسلوكا في اجتيازهم للمباريات، ويشكلون استثناءات من القاعدة العريضة. ظاهرة الغش المتفشية تضرب في مقتل مختلف محطات عمليات التقويم والامتحانات، وتهدد بذلك نظام التقويم ومصداقية الاستحقاقات والشهادات، على الرغم من توافر ترسانة قانونية تعتبر الغش والخداع في المباريات بمثابة جنحة يعاقب عليها القانون بعقوبة سجنية، كما يؤدي إلى بطلان ما يحتمل من نجاح في المباراة أو الامتحان المرتكب فيه الخداع، ويعرض صاحبه أيضا إلى إجراءات تأديبية. من جانب آخر، هناك الظهير الشريف رقم 1.58.060 المتعلق بزجر الخداع في الامتحانات والمباريات العمومية، فضلا عن مذكرات عدة صدرت بهذا الشأن، منها المذكرة الوزارية رقم 2. 116 بتاريخ 16 غشت 1989، والمذكرة الوزارية رقم 3/99 بتاريخ 8 مارس 1988. ويمكن القول إن الظهير الشريف ليونيو 1958، هو أهم مرجع قانوني لمحاربة الغش، وتنبني عليه المذكرات والتوجيهات الخاصة بالغش في الامتحانات، فالفصل الأول من الظهير يؤكد أن من مارس الغش تتراوح عقوبته من شهرين إلى ثلاث سنوات حبسا وغرامة مالية من 120 درهما إلى 12.000 درهم أو بإحدى العقوبتين. يبدو أن هذه الترسانة من القوانين لا تجد طريقها للتفعيل والتنزيل على أرض الواقع، وبالتالي فإننا مدعوون للتساؤل عن غياب إرادة الإصلاح، وعن استحضار الوازع الأخلاقي قبل كل شيء، لأن الظاهرة في حد ذاتها فردية قبل أن تكون جماعية، وتستدعي التزاما أخلاقيا تجاه الذات وتجاه الآخرين. نرجو أن تنكب الجهات الوصية على المراجعة الشاملة لنظام الترقي للحد من هذه الفوضى والعبثية، وأن تتخذ إجراءات مستعجلة من أجل الحد من الغموض الذي يكتنف الإعلان عن نتائج مباريات الكفاءة المهنية، عندما تتجنب نشر نقط الناجحين علانية، سواء في الاختبارات الكتابية أو الشفوية، وكذا التفكير في تكليف جهات مستقلة عن القطاع بتنظيم تلك المباريات رفعا للالتباس، إضافة إلى تجريم تلك الممارسات، وإلا فإن هذه المنظومة لن تنتج في نهاية المطاف إلا أطرا لا كفاءة لهم، ولا تعكس درجاتهم البتة حقيقة تكوينهم ومؤهلاتهم. *باحث ومهتم بشؤون المعرفة