أنا أكره كل من يقول إن محمد الزرقطوني انتحر، والصحيح أنه ضحى واستشهد؛ فالانتحار هو أسلوب الجبناء الذين يكرهون أنفسهم ويكرهون الحياة ويقنطون من رحمة الله. لكن الشهيد محمد الزرقطوني كان يحب الحياة ويؤمن بالله ورسوله، ويؤدي فرائضه الدينية، ويحب سماع الموسيقى، ويستمتع بأيامه ويمارس الرياضة، ويتلذذ بالأكل، وينتشي بتدخين السجائر؛ وقد اكتشفت هذا عندما رافقني إلى مولاي بوسلهام، فقد كان رحمه الله إنسانا بسيطا متواضعا، يفضل أكل "القضبان والبيض والحوت بالحرور". وكان الشهيد دائم الابتسام، أنيقا في لباسه، حريصا على نظافته؛ فمحمد الزرقطوني على الرغم من أنه كان محبا للحياة، فقد ضحى بها عندما أحب ما هو أغلى منها ومن الدنيا كلها، وهو الوطن والحرية والكرامة. كان محمد الزرقطوني منسجما مع أفكاره ومعتقداته، وعندما استشهد عند إلقاء القبض عليه بابتلاع قرص السم، لم يكن يخاف من التعذيب الوحشي الذي كان ينتظره في مخفر الشرطة كما ظن البعض...ولم يكن يخشى البوح بأسماء إخوانه الفدائيين، ولكنه أراد أن يعطي درسا في التضحية والفداء والوفاء، ليبقى قدوة لمواصلة المقاومة، ولكي لا تنطفئ شعلة الكفاح؛ فقد كان يؤمن رحمه الله بالتضحية بالنفس من أجل استمرارية المقاومة والصمود، لأنه كان يدرك أن نجاح أي مقاومة للاستعمار تكون أسسها مبنية على البذل والعطاء، والتضحية والفداء. وهل يوجد في الحياة أعز من الروح لكي تكون قربانا للوطن، ولكي لا يزهو الاستعمار بنشوة اعتقاله؟. وعندما سمعت من إبراهيم الروداني بخبر استشهاده، بعد توصله به من مصادره الخاصة، تأكدت أنه بقدر ما كان يحترم أفكار أصدقائه المقاومين، كان يعتز برأيه، وكان يعتقد أنه من المنطق التضحية وليس الهروب من أرض المعركة، لهذا بعد اكتشاف أمره ضحى بنفسه، لأنه رحمه الله كان يعرف قيمة الدور الذي كان يقوم به، ويعرف خطورة الأسرار التي كان يحملها معه، ويعرف أن البوليس الفرنسي سيحاول إرغامه على الاعتراف. وعلى الرغم من إيمانه القوي بأنه لن يبوح بأي شيء مهما عذبوه، لكنه فضل التضحية بنفسه ليحمي قضية بلاده، ولو باح رحمه الله بكل ما يعرف من شخصيات فدائية وأسرار لتعرضت أعمال المقاومة لضربة قاضية، وبعدها تكون النكسة الكبرى. في يوم الجمعة 18 يونيو سنة 1954، لما وصلنا خبر استشهاد البطل محمد الزرقطوني بعد اعتقاله بسبب الخيانة والخديعة والغدر، وابتلاعه قرص السم، أعطينا الأوامر لكل التجار بإغلاق الدكاكين فاستجابوا للنداء بسرعة، وأصبحت شوارع مدينة الدارالبيضاء كلها مهجورة، وكذلك جل المدن المغربية. وكان استشهاده رحمه الله انطلاقة مقدسة لأعمال المقاومة، إذ انتشرت الخلايا في كل ربوع المملكة المغربية، تضرب المستعمر الفرنسي بضراوة، وتطوع جل المغاربة لمساعدتها. وبعد الاستقلال اختير تاريخ يوم 18 يونيو للاحتفال به كرمز وذكرى تخليد يوم المقاومة المغربية، ولتذكير أجيال الحاضر والمستقبل بتضحية شهدائنا الأبرار الذين استرخصوا أرواحهم فداء للوطن، وكتبوا بدمائهم الزكية ملحمة تحرير وطنهم. " اغتيال الدكتور ايميل إيرو" زعيما عصابة الوجود الفرنسي إيميل ايرو على اليمين وفليب بونيفاص على اليسار بدأ التفكير في الرد على عملية استشهاد محمد الزرقطوني بتصفية عميد عصابة الوجود الفرنسي بالمغرب الدكتور "إيميل إيرو"، مسير جريدتي "لوبتي ماروكان" و"لافيجي ماروكان"، وأحد أبواق الاستعمار؛ فتمكن المقاومون من اصطياده واغتياله في 30 يونيو 1954، أي بعد مرور أقل من أسبوعين على استشهاد محمد الزرقطوني. وأشرف حسن "الأعرج" على إتمام الخطة الثانية التي كان الشهيد قد وضعها بنفسه قبل استشهاده. كلف حسن "الأعرج" بتنفيذ هذه العملية كلا من محمد الأنصاري وإبراهيم فردوس وإدريس الحريزي. وكانت المحاولة الأولى فشلت في حياة محمد الزرقطوني، وتمت بواسطة قنبلة وضعت أمام باب مکتب عصابة "الوجود الفرنسي" بزنقة "ناسيونال" بالدارالبيضاء، عندما يكون الدكتور "إيميل إيرو" متواجدا به، تورط فيها "فيفي الحطاب"، الذي كلف بوضع القنبلة، فحملها في سيارة الأجرة الذي كان يقودها، ووضعها في مصعد العمارة بدل باب مكتب عصابة "الوجود الفرنسي"؛ وعند خروجه من العمارة لمح إحدى الفرنسيات تنظر إليه وكانت تسكن بنفس العمارة، فظن أنها لمحته وتعرفت على رقم سيارة الأجرة، فجاء بها إلى عند محمد جمالي الذي قام بتغيير لونها. وذهب هو إلى مقهى السلامة عند أنوس مولاي أحمد بزنقة سان لوران قرب سينما شهرزاد، فخبأه في معمل للنجارة بكراج علال عند نجار محمد الملقب ب"سنطرا"، وظل مختبئا هناك إلى أن التحق بالمنطقة الشمالية. حملة القياد قائد وزبانيته يقومون بدورية في أحد الشوارع شاهرين السلاح - معسكر للقياد في هذه الظروف حل بمدينة الدارالبيضاء القياد وزبانيتهم من مختلف المناطق المغربية، فشرعوا في الفتك وبث الرعب وإلقاء القبض على المواطنين، فتم إلقاء القبض على إبراهيم الروداني واحميدو الوطني ولحسن الصبان، وفي عين الشق علي عبد الرحمان العسكري وخليل بلعيد الدانتيست وعبد الله الشيباني، وفي درب السلطان بزنقة المونستير على غاندي عبد الكبير الجزار. وفي درب کريگوان أقدم القائد أمهروق الخنيفري على اعتقال المدني لاعور، فتوسطنا عنده بابن تاشفين الميلودي الذي ينتمي إلى مدينة خنيفرة، وكان والده فقيها يدرس أبناء القائد، فنجح في مسعاه وعاد لنا به ليلا من مكان حبسه في القرية؛ أما إبراهيم الروداني واحميدو الوطني ولحسن الصبان فقد أودعوهم في معتقل "داركم"، وهو معتقل كان يوجد بفيلا قرب "درب اليهودي"، تابعة لمعمل صنع السجائر، كانت تشرف عليه المخابرات العسكرية، وهناك تعرض إبراهيم الروداني لكل أنواع التعذيب الوحشي حتى كانوا يظنون أنه مات، ثم يسعفوه ويتركونه يسترد أنفاسه، ثم يبدؤون في تعذيبه من جديد، وخصوصا بعدما اقتحموا دكانه الخاص بالجزارة بشارع محمد الخامس واكتشفوا وجود السلاح في مخزن به، فاعتقلوا أخاه الحاج علي، وتمكنت عائلته من الاتصال بالشخص المكلف بتعذيبه وسلمته شيكا ليسحبه من حساب إبراهيم الروداني ليخفف عنه التعذيب. وقبل أن يصرف الشيك قمنا باغتياله فعثر البوليس الفرنسي عند تفتيشه على الشيك في جيبه، فشكوا في الأمر وتعمقوا في البحث، واكتشفوا أن القياد وأبناءهم وزبانيتهم الذين أتوا بهم لمساعدتهم بدأوا يستغلون نفوذهم ويقبضون الرشاوى لغض الطرف عن الفدائيين وتخفيف التعذيب عنهم، وأرجع القياد إلى مدنهم وقراهم، فأخذ القائد الكبير معه إلى مدينة خريبكة كلا من إبراهيم الروداني واحميدو الوطني ولحسن الصبان، وبعد ذلك بمدة أطلق سراح احميدو الوطني ولحسن الصبان، وتم نفي إبراهيم الروداني إلى ثلاثاء سيدي بنور. وكنا نتصل بإبراهيم الروداني في ثلاثاء سيدي بنور بواسطة ابن تاشفين الميلودي. إبراهيم الروداني عندما كان في المعتقل *صحافي، باحث في تاريخ المقاومة المغربية، شاعر وزجال [email protected]