جاء صاحبي وكعادته ابتسامته العريضة تكاد تغطي وجهه المستدير قد فارقته علامات الإحباط والاكتئاب التي كانت بادية على ملامحه عندما التقينا في المرة السابقة. ثم جلس بجانبي ووضع فوق الطاولة كتابا يحمل عنوان: لا تثق في الحياة. وكأن صاحبي ينتظر مني أن أسأله عن الكتاب، مؤلفه ومضمونه، وإذا بي أفاجئه بقولي هذا: إن مقولتك هاته ملعون أبو الدنيا أثارت في نفسي الكثير من الحيرة والتساؤل وفي نفس الكثير من القراء الارتباك وسوء أو عدم الفهم. بالله عليك يا صديقي قل لي ما قصدك بعبارة ملعون أبو الدنيا، وهل هي فلسفتك في الحياة؟ وأخذ محدثي وقتا قصيرا للتفكير ثم قال: أنا لست فيلسوفا ولا صاحب مذهب أو فلسفة. الدنيا ليست همي ولا شغلي الشاغل. أعيش الحاضر لا أحمل هما للمستقبل. غدا مدبره حكيم. إن شعار ملعون أبو الدنيا هو فلسفة المعلم نونو الخطاط في رواية "خان الخليلي". وتوقف صاحبي برهة ثم نظر إلي نظرة دهاء وقال: أَتريد أن تستدرجني إلى الحديث عن صديقك نجيب محفوظ؟ فبادرت بالجواب: المعلم نونو الخطاط يردد أيضا شعار ملعون أبو الدنيا لا سبا ولا لعنا للحياة وإنما استهانة وازدراءً لها. المعلم نونو شخصية من ورق وأنا أمامك حي أرزق. كم من شخصيات روائية كتبت على حبر من ورق، ولكنها صارت خالدة. تعودنا على معاشرتها، نشاطرها همومها ومسراتها، نعرف خبايا نفوسها، تعيش بيننا كأنها شخصيات واقعية حية من لحم وعظم. حقا! لكن مهلا يا صاحبي شخصية المعلم نونو الخطاط تظهر قليلا ثم تختفي كثيرا. إنها ليست إلا شخصية ثانوية بالغ وضخم محفوظ في رسم صورتها لإظهار الجوانب السلبية للشخصية المحورية في الرواية. إنها المرآة التي تعكس التناقض في شخصية أحمد عاكف. أحمد عاكف هو شاب أو رجل في سن الأربعين، أعزب لم يذق بعد تجربة الحب ولم يعرف النساء. إنه يعيش حياة مملة رتيبة مليئة بالشقاء والبؤس. في المقابل، شخصية المعلم نونو الخطاط متزوج له "أربع شموس وأحد عشر كوكبا"، بالإضافة إلى خليلة. إنه يجسد الإقبال على الحياة والصحة والقوة والابتسام. أما أحمد عاكف فهو صاحب ثقافة قديمة متردد عاجز خجول يخاف من الحياة.. لهذا أرجوك لا تسقط على شخصية محفوظ ما تريد قوله وتُقَوِّلْها ما لا تحتمل، وتنهج نهج الكثير من نقاده حينما تركوا رواياته جانبا واتخذوها أو اتخذوه مطية للدخول في سجالات فكرية وسياسية فنتج عن هذا تأويلات متناقضة متنافرة غريبة بعيدة كل البعد عن رواياته حتى أصبح عالم محفوظ كما كتب جابر عصفور "تسوده الفوضى يجتمع فيه كل شيء ويجوز فيه كل شيء". هذا ما يسمى غياب العلاقة بين الناقد والنص الأدبي، بل غياب العلاقة بين المثقف والواقع. هذا حال المثقف العربي، عندما تضيق به السبل يتخيل ويحلم لتغيير الواقع. أَلم يقل المرحوم الجابري إن الخطاب العربي المعاصر لا يتعامل مع الواقع الراهن، بل يتعامل مع الممكنات الذهنية، فيصبح الخطاب إيديولوجيا وسيلة للتعتيم ومصدر للتضليل. وسكتنا زمنا وساد جلستنا صمت رهيب كأن حوارنا انزلق إلى موضوع خطير. لكني بادرت وقلت: إن الحديث ذو شجون. وأخذ صاحبي الحديث ثم قال: لقد شاهدت أمس الفيلم الشهير "الإمبراطور الأخير" لبرناردو برتولوتشي، الذي يحكي قصة بويي آخر إمبراطور الصين، وذكرتني قصة حياته بمأساة الملك الأسير المعتمد بن عباد. تلك القصة التي ضربت بها المثل عن غدر الزمان وتقلباته. الفيلم عرض للمرة الأولى منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة. إنه مستوحى من قصة واقعية حقيقية أثبتها التاريخ. أصبح بويي إمبراطورا للصين وهو طفل صغير يبلغ من العمر ثلاث سنوات. يعيش بويي في المدينة المحرمة في بكين. مدينة في قلب مدينة مساحتها تزيد عن 720000 متر، وتتكون من 9999 غرفة. يسهر على رعايته وتحت إمرته جيش من الخدم والخصيان والحاشية. لكن رغم ذلك سيعيش بويي منعزلا عن العالم الخارجي، سجين قصره. وسيضطر إلى مغادرة المدينة المحرمة وهو في سن الثامنة عشرة من عمره بعد قيام الحرب الأهلية التي عرفتها الصين سنة 1924. بعد ذلك سيجعله اليابانيون إمبراطورا صوريا دون سلطة فعلية على منشوريا بعد احتلالها. ثم قامت الثورة الشيوعية، ثورة ماوتسي تونغ، ويودع بويي السجن لمدة عشر سنوات، ويتم تأهيله وتربيته من جديد حسب تعاليم ماوتسى تونغ، وفي آخر حياته يخرج من السجن، يصبح حرا ويشتغل مزارعا في حديقة نباتية ثم أمينا لمكتبة في بكين. سيموت سنة 1967 كمواطن عادي وحيدا غريبا في بلده، مجهولا لا يعرفه أحد، ولم ينتبه إلى وجوده أحد. إمبراطور في آخر حياته يصبح بستانيا. يا له من مصير إنساني استثنائي. إنها حقا قصة مذهلة حزينة. وانصرفت مسرعا قائلا لصديقي: وداعا، ومرددا: يا لسخرية القدر! * الجزء الأول من هذا المقال نشر في جريدة هسبريس الإلكترونية بتاريخ 2 ماي 2019. [email protected]